عندما تتعارض "الوطنية" مع الدين
السياسية || محمد محسن الجوهري*
حب الوطن شعور غريزي لا يُلام عليهِ أحد، ولا بأس أن يفتخر الإنسان بهويته الوطنية شريطة ألا يتعارض ذلك مع الدين والولاء لله، عندها يتحول الوطن إلى إله خاصة عندما يوالي الفرد كل أبناء وطنه ولو لم يكونوا مسلمين كاليهود مثلاً، أو يعادي المسلمين لكونهم من بلدان أخرى غير موطنه، فذلك من الغلو في الوطنية ويستحق صاحبها أن يُلام عليها.
ونتذكر هنا موقف الأقلية اليهودية في فلسطين، وهي التي عاشت هناك منذ قرون، ولكنها شكَّلت النواة الأولى لاحتلال البلد بكلها، ولم يقفوا مطلقاً إلى جانب مواطنيهم العرب، بل ساندوا الاحتلال اليهودي ونفذوا جرائم حرب بحق جيرانهم العرب دون مبرر، كما فعلوا في مدن مثل صفد والخليل، رغم أن التاريخ لا يذكر أنهم تعرضوا لأي معاناة من قِبل المسلمين.
ومن المعروف أن السلطنة العثمانية ساوت بين المسلمين واليهود بعد إقرار السلطان "عبدالمجيد الأول" المرسوم "الهايموني" في 18 فبراير 1856 الخاص بالمساواة بين الأديان والطوائف، وأعطى اليهود الحق في وظائف الدولة وبناء المعابد وممارسة طقوسهم بكل حرية.
إلا أن ذلك شجع اليهود على المزيد من التنازلات، ومهد إلى هجرة اليهود من كل أنحاء العالم إلى فلسطين، وامتلاك العقارات والحصول على السلاح، وتشكيل العصابات الإجرامية التي استقبلت الغزو البريطاني لفلسطين عام 1917، شاركت في إبادة مدن وقرى فلسطينية بأكملها.
وهنا تتضح الرؤية أكثر، فاليهود موالون لدينهم وليس لأوطانهم التي عاشوا عليها، ولكن ولأسباب تخدم اليهود، يُراد للعرب وحدهم أن يتخلوا عن دينهم لصالح أوطان صنعها المستعمر الغربي ورسم حدودها بدقة، حتى ينأوا بأنفسهم عن نصرة إخوانهم في فلسطين، ولتبقى قضيتها شأناً داخلياً يخص الشعب الفلسطيني وحده، بعد أن حاصروه بكيانات مفصولة كلياً عن ثوابتها الدينية.
ولتعزيز حالة الانفصام تلك، كتب اليهود لكل قطر تاريخه الخاص، بعيداً عن واقعه الديني والثقافي، وحددوا لكل بلد عربي تاريخاً وثنياً لا علاقة له بالإسلام واللغة العربية وشجعوا المأزومين والمرتزقة على تبنيه، فظهرت "الحميرة" في اليمن، و"الفرعنة" في مصر، والبابلية والآشورية وغيرها من المسميات التي تحمل عداءً مبطناً للوحدة والهوية الإسلامية.
يؤكد المؤرخ المصري مصطفى العبادي أن الاحتلال البريطاني شجع أصحاب المصالح في مصر على تمجيد الحضارة الفرعونية لتبرير سيطرتها على البلاد، ونفذت بريطانيا حملات لتزييف وعي المصريين استخدمت خلالها بعض مدعي الثقافة المرتبطين بالغرب ودعمتهم بالصحف والمجلات، والمناهج الدراسية لتغيير الثقافة المجتمعية، وفصل مصر عن محيطها العربي والإسلامي.
ولهذا يرى المصري أن ما يحدث في غزة لا يعنيه لأنها أرض غير مصرية، وبالتالي فإن سكانها أعداء له ولا يستحقون أن تضحي مصر بمصالحها لوقف إبادة مليوني مسلم داخل القطاع، وهكذا يرى الأردني والسعودي وغيرهم.
وفي اليمن، نفذ الإنجليز المخطط نفسه وفصلوا جنوب اليمن عن شماله، وأعطوا لكل منهما هويته الخاصة، وأطلقوا على الجزء المحتل تسمية "الجنوب العربي" لتعزيز النعرات المناطقية التي نشهدها اليوم بين الشطرين، وما نتج عنها من كوارث طالت اليمنيين كافة بلا استثناء.
وحتى اليوم، لا نسمع التيارات السياسية في اليمن تتحدث عن الوطنية إلا في إطار بث الفرقة والصراعات المذهبية والمناطقية، ولإضعاف موقف الشعب اليمني في مواجهة العدوان الخارجي الذي وقفوا إلى جانبه ضد وطنهم وأبناء شعبهم وكل ذلك لمصلحة أعداء الأمة وحسب.
ومما يثير السخرية في اليمن، أن حزب الإصلاح أكثر من يتحدث عن الوطنية في البلاد، رغم أنه ينتمي لجماعة الإخوان، ويفضل تركيا على اليمن، ويرى أن الإخواني أقرب إليه من اليمني غير الإخواني، وهذا تناقض غريب يكشف مدى عمالتهم لأعداء البلاد، وقابليتهم للتلون السياسي حسب ما تقتضيه مصالح الأعداء.
وعلى ذلك درج كل دعاة الوطنية، فالعفاشي يرى الوطن في العمالة للإمارات، ومن ورائها "إسرائيل"، مبرراً خيانته تلك بدعاوي فئوية لا قيمة لها، وتنم فقط عن معاناتهم من "عقدة الأصل" التي كان يعاني منها زعيمهم عفاش، والتي كانت سبباً في تبدل مواقفه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، خلال سنين حكمه التي امتدت لثلاثة عقود.
والخلاصة أن يبقى ولاؤنا لله والدين الإسلامي الحنيف الذي تشمل تعاليمه كل القيم العظيمة، وله الفضل اليوم في مواقفنا المشرفة تجاه إخواننا في فلسطين، فروابط الدين التي تجمعنا أعظم وأكبر من مبررات الخلاف الضيقة والتي أنتجها العدو ويروج لها عملاؤه لتفرقة الأمة والاستفراد بتدمير كل قطر عربي على حدة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب