محمد جرادات*


نجح الكيان "الإسرائيلي" في إقامة عشرات الكنس والمتاحف اليهودية حول المسجد الأقصى، وخصوصاً منذ عام 2005، وفي الجهة الغربية منه تحديداً، حتى إن واحداً منها لا يبعد عن جدار المسجد الأقصى سوى 16 متراً، وكان أبرز هذه الكنس يحمل دلالة رمزية ومادية، حمل اسم كنيس "حوربا"، أي "الخراب"، وعُمل على بنائه في حارة الشرف الإسلامية المهدمة من البلدة القديمة، منذ عام 2010 في ثلاث طبقات، حتى بلغ ارتفاعه حدّاً غطى على رؤية المسجد الأقصى في ذلك الاتجاه.

ويرتبط هذا التوجه مع نبوءة تعود إلى أحد حاخامات القرن الثامن عشر، والمعروف باسم "جاؤون فيلنا"، بحسب الرواية المزعومة، حدَّد فيها موعد بداية بناء الهيكل بحسب النبوءة، وتضمنت إشارات إلى أن اليهود سيشرعون في بناء الهيكل مع تدشين "كنيس الخراب".

وهكذا، تضيق حلقات المشروع الإسرائيلي في الزحف نحو مخططهم التاريخي في إقامة الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى. وليس تسارع الاقتحامات، منذ عام 2023 حتى الوصول إلى ما يسمى شعيرة "السجود الملحمي" على أرض المسجد الأقصى، إلا في هذا السياق الحثيث لتحقيق النبوءة في ظل تنامي التيار اليميني المتوحش. ويأتي إيتمار بن غفير وما يمثله في مواقفه وتصريحاته تجسيداً عملياً إسرائيلياً رسمياً، كونه وزيراً للأمن القومي وجوهر عمله في القدس.

يلتزم الكيان الإسرائيلي نظرياً اتفاقات دولية وإقليمية بشأن المسجد الأقصى، كونه يمتد عبر مساحة 144 دونماً (144 ألف متر)، وهي منطقة مَصونة بقانون ستاتيكو دولي، كونها منطقة دينية يحرم تغيير الوضع القائم فيها، وهو ما تأكد في اتفاقات ثنائية بين الكيان والنظام الأردني، عبر اتفاقية وادي عربة التطبيعية وما قبلها، في تخويل الأردن مسؤولية المسجد الأقصى.

حرص بن غفير، ومعه غلاة التيار اليهودي، منذ دخولهم الكنيست عبر كتلة نيابية كبيرة، ومشاركتهم في الحكومة في موقع مفصلي، على تغيير الوضع القائم في القدس، برعاية مباشرة من زعيم الحكومة بيبي نتنياهو.

وليس رد مكتب نتنياهو على تصريحات بن غفير المتعلقة بتوجهه نحو بناء كنيس يهودي داخل أرض المسجد الأقصى، وقوله إن الحكومة تلتزم المحافظة على الوضع القائم في المسجد الأقصى، إلا خديعة يراد من خلالها تثبيت ما أنجزه بن غفير واقعاً بالسجود الملحمي لآلاف المستوطنين على أرض المسجد الأقصى. وكان هذا السجود قبل ذلك ممنوعاً في القانون "الإسرائيلي"، بسبب ما يمثله عملياً من تحويل أرض الأقصى إلى مكان عبادة يهودية مباشرة، لأن هذا السجود هو الشعيرة الثانية في الصلاة اليهودية، ولم يتبقَّ منها سوى إقامة المعبد، وهو ما يتم تهيئة الرأي العام، عالمياً وإقليمياً، وحتى محلياً، في شقيه الفلسطيني و"الإسرائيلي"، لقبوله والتعاطي معه، وخصوصاً أن الحريديم يرفضون هذا التوجه، بسبب ما يمثله في عقائدهم المذهبية من خطر "الخراب".

"كنيس الخراب" مقابل المسجد الأقصى، ثم السجود الملحمي على أرضه، ثم دعوة رسمية إلى إقامة كنيس داخله، معادلة كارثية بالتكوين العقائدي الحريدي. والحريديم يمثلون اليوم نسبة لا تقل عن 16% من يهود الكيان "الإسرائيلي"، وهم يرفضون التجنيد في الجيش، واقتحموا قبل أيام قاعدة هشومير احتجاجاً على قرارات المحكمة العليا وأوامر استدعاء الجيش لتجنيد ألفَي حريدي خلال شهر، وهو ما يعُدّونه نذراً بخراب لليهود، لأن واجب اليهودي في الأرض المقدسة تعليم التوراة، وليس الدخول في حروب وصراعات دموية.

إشعال المقدس الديني، وليس دم غزة أرخص في هذا المُقدّس، هكذا تقول الشريعة الإسلامية. فهدم جدران الكعبة أهون عند الله من إراقة قطرة دم مسلم، لكن الدم المسلم سبق أن سال تاريخياَ على جدران الكعبة ذاتها، بعد هذا التحذير النبوي ببضعة عقود ليس إلا، بين استبداد وثورات وفتن انتهكت حرمة مُقدّس دم الإنسان المسلم وغير المسلم، لكن الذهنية الإسلامية حافظت واستقرت في واجب مفصلي منها على حساسية المقدس الديني الشعائري وحرمته وهيبته. ويأتي أولى القبلتين وثاني الحرمين؛ المسجد الأقصى، في رأس ما استقرت عليه هذه الذهنية، التي أريد حرفها حالياً وإطفاء حرارة نبضها، وتمويتها سريرياً في معارك مذهبية وهمية.

"إذا انبعث أشقاها"، هي نبوءة المقدس الديني الإسلامي، على أرضية الواقع التاريخي وليس الخيال التاريخي، ولا حتى الموروث الإسلامي. فالنص القرآني نزل قبل قرون ليبقى، وإن ضمن سياقاته الأصلية، وهي سياقات نصية، لكنها متحركة في ديمومة الزمان وتباعده التاريخي لما هو عين المكان هنا، وكرّس في عين مضمونه الصراع مع بني "إسرائيل". وليس ثمة مسمى تكرر في آياته أكثر من بني "إسرائيل". وجاء النص في فاتحة "سورة الإسراء"، ولها مسمى آخر هو بنو إسرائيل، ليوجه النظر نحو الإسراء إلى المسجد الأقصى بركة فيه وما حوله، ليكشف هذا النص تفصيلاً عن خراب العلوّ والإفساد الإسرائيليَّين عندما يأتي عباد الله أولو البأس الشديد لـ"يَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيراً".

إنه الواقع الملحمي عقب السجود الملحمي لغير الله في أرض الله، ثم السعي لتحويل الأقصى إلى كنيس، وهو في نص القرآن يبقى مسجداً ("لِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ") حتى خراب الإفساد "الإسرائيلي". فإن لم يكن بن غفير هو أشقى القوم فمن يكون شقيّ هذا العصر، وهو يتلاعب بالمقدس الديني ويضع إصبعه على صاعق التفجير؟ لكل زمان شقيّ يضغط على سكين الذبح، لتكون التحولات التاريخية وفق سنن الكون الاجتماعية، وهي تترى عبر الأفق القريب تضحية غزّية فلسطينية لبنانية يمنية غير مسبوقة، في مقابل وحشية الشقيّ في مسارعة زمنية لتحقيق وعد الله الذي لا يخلف وعده.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب