عبدالرحمن مراد*

قرأت برنامج حكومة التغيير والبناء فوجدته يخلو من أية إشارة إلى البناء الثقافي بالرغم أن المعركة التي نخوض غمارها اليوم هي معركة ثقافية في المقام الأول والعالم اليوم يولي الجانب الثقافي اهتماماً مضاعفًا خَاصَّة ونحن في زمن العولمة؛ أي زمن الأمركة، وهو زمن يريد أن يكون العالم متجانسًا ثقافيًّا دون مراعاة للخصوصيات ولا الهُــوِيَّات الثقافية؛ وهو الأمر الذي فرض ضرورته عليَّ؛ كي ألمح إلى البنية الثقافية اليمنية برؤية تحليلية مختصرة؛ نظرًا لضيق المساحة حتى تكون عونًا لحكومة التغيير والبناء.

إذ مع كُـلّ منعطف تاريخي في حياة الأمم والشعوب تبرز جدلية بين ثنائيات متضادة كما تتصارع الولاءات ويصبح الاشتغال على الهُــوِيَّة الوطنية والتاريخية ضرباً من العبث الذي لا طائل منه؛ لأَنَّه يعَبِّـر بصورة أَو بأُخرى عن هزيمة حضارية وانكسارية وجودية، فسيف ابن ذي يزن لم ينتصر بالفرس إلا لأَنَّه كان يعاني من تلك الهزيمة وذلك الانكسار، فحادث انهيار السد ترك مسافة بين الامتلاء والفراغ وقد شهدت مراحل التأريخ المختلفة انعكاسات تلك اللحظة الانهزامية وذلك النكوص الحضاري، فالفراغ يبحث عن الامتلاء بغيره، فسيف بحث في فارس عن الامتلاء، وعلي بن الفضل بحث عن الامتلاء في البحرين، وثوار الخمسينيات من القرن الماضي بحثوا عن الامتلاء في مصر؛ لذلك كان الصراع سعوديًّا مصريًّا في اليمن وانتهت حدته بوصول الطرفين السعوديّ المصري إلى توافق، فالتاريخ يعيد إنتاج نفسه بصورة أَو بأُخرى طالما وهناك نسق ثقافي لم يتغير أَو يتبدل.

والآن ما الذي يحدث؟

غابت يمنية اليمن وحضرت معادلات الامتلاء التاريخي، فاليمنية أصبحت تهمة، وأصبح الانتماء إلى الأطراف الإقليمية المتصارعة هو القيمة الاعتبارية التي يحدّد على موازينها وطنيتك وقيمتك ومعناك.

مشكلة اليمن تكمن في غياب يمنية اليمن وهي قضية تمتد إلى نهاية الستينيات وبداية عقد السبعينيات من القرن الماضي وقد ألمح إليها البردوني ولم يلتفت إليها أحد وظلت حاضرة كقضية ثقافية وقضية وطنية فتحول التأثر إلى عمالة.

وحين ندرك درجة ومقدار الانحراف في مسار التطور والتحديث في بُعده الثقافي والتحولي فنحن بالضرورة نجعل الطريق ضيقة أمامه لتكرار نفسه في الحاضر أَو محاولة إعادة إنتاج نفسه في المستقبل.

فالثورة – أي ثورة – قد تصبح بلا غدٍ أَو مضمون إذَا كان الماضي بكل تفاصيله ما يزال يتحَرّك ويتحكم بأبعاد ومسارات التحول المنشود، وحين نتحدث عن ثورة فنحن لا نتحدث عن لحظة فاصلة أَو صارمة ولكننا نتحدث عن عملية تفكيك لمنظومة متكاملة نملك رؤية واضحة لإعادة بنائها أملاً في إحداث الانتقال.

فبحثنا في الاكتمال بالآخر عبث لا يزيدنا إلا تيهاً ويعمِّقُ من دائرة الفراغ، فالاكتمال لا يكون إلا بتفجير طاقات الذات والاشتغال على توظيفها بالانتصار ليمنية اليمن.

ولعل إثارة الأسئلة الحضارية والثقافية التي يفرزها واقعنا اليوم هي محاولة أولى لتشخيص الحالة اليمنية حتى تتمكّن من الوعي بذاتها وتحاول الإجَابَة على الأسئلة التي تبرز بقدر من التفاعل القادر على تشكيل حالة الانتقال بهُــوِيَّة ثورية وحضارية تمتد من ماضيها ولا تنفصل عن حاضرها ولا تنفصل عن المستويات الحضارية التي وصل إليها الإنسان المعاصر في شتى الفنون والتقنيات والثقافات.

والثابت أنّ الذات اليمنية كثيرة الاعتزاز بذاتها؛ لذلك فَــإنَّ ما أبدعته سبأ وحمير في غابر الأيّام لم يكن إلَّا تفجيراً لكوامن الذات وتوظيفاً واعياً لطاقاتها، الأمر الذي عزز الشعور بالقوة والبأس الشديد، كما تجلى ذلك في حديث بلقيس وهذا الشعور لم يمنعها من ثنائية «الخضوع والتسلط» الخضوع لسليمان والتسلط على قومها، ومثل ذلك التسلط في الغالب كان يفضي إلى التشظي والانقسامات كما أنّ الخضوع عمل على التأسيس لبداية الفجوة الحضارية التي حدثت في الذات الحضارية اليمنية.

ويمكن أن يقال إن روح الانقسام بين الكيانات التي تكوّن قوام الدولة المركزية التي تحكمها بلقيس هي سبب مباشر في ذلك الخضوع، ذلك أن الدولة المركزية كانت تتكون من كيانات جزئية كُـلّ كيان كان له قيل، وبتحالف مجموع الكيانات والأقيال تتكون الدولة المركزية فإذا غضب قيل من الأقيال انفصل عن الدولة المركزية، وأعلن نفسه كياناً مستقلاً كما نقرأ عن قتبان، وأوسان وحضرموت وغير أُولئك الذين تشكلوا في إطار الدولة المركزية.. فالتنظيم كان حاضراً عند الدولة التاريخية اليمنية.

كما أن التناقض كان أَسَاساً محوريًّا في الأشكال البسيطة والمعقدة للحركة، وهو بيّن من خلال حالة التشاور في التفاعل مع رسالة النبي سليمان -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-.

وظل الفراغ الثقافي هو الفجوة الأكثر تأثيراً في المسار الحضاري للذات اليمنية.. فالثابت أن كتب الأخبار تحدثت عن أنبياء ورسل إلى عرب الجنوب ولم تشتهر إلا قصة ملكة سبأ مع سليمان وقصص اليهودية والنصرانية، وقد ظل أثر ذلك كنوع من تطور التناقضات الداخلية في البنية الثقافية التراكمية للمجتمع اليمني كما ظل الفراغُ الحضاري والثقافي فاغرًا فاه يلتهم كُـلّ قادم بعد حادثة الأخدود في نجران وغرق الملك ذي نواس في البحر.

كما أن الدور السعوديّ في الستينيات والسبعينيات لم يكن إلَّا بهَدفِ تدعيم بنية الخضوع والهيمنة وتكريس عوامل التخلف التاريخي الذي يعمل على فقدان المجتمع لشروط تجديد إنتاجه، وهو ذاته الذي ظل فاعلاً خلال العقود التي تلت وما يزال حتى اللحظة التي شهدت التوقيع على المبادرة الخليجية وُصُـولاً إلى مرحلة العدوان المباشر على اليمن، فالقضية لا تبرح مربع إفراغ الذات الحضارية اليمنية من محتواها الثقافي والتاريخي، من خلال طمس المعالم الأثرية الذي تنتهجه الحركة الوهَّـابية في اليمن واستهداف المخطوطات بالممكنات المتاحة كإغراءات البيع والتهريب وتعطيل القدرات الإبداعية والتقليل من فاعليتها وذلك عن طريق قوة تأثيرها في حصر الصراع بين طبقتَينِ في اليمن هما طبقة المشايخ وطبقة الرأسماليين وأضحت بقية الطبقات خارج دائرة الصراع الاجتماعي، وهو الأمر الذي عزز من حزمة المفاهيم التاريخية البغيضة كالاستغلال والغبن والغش؛ الأمر الذي يتضاد مع نعوت وأحوال الحالات الثورية كالنقاء الثوري وشرف النضال الثوري، مع إضمار رفض استمرارية الثورة ورفض التطور الجدلي للمجتمع.

ومن هنا نرى ضرورة إثارة السؤال الثقافي والحضاري والتاريخي؛ حتى نتمكّن من إدارة المرحلة بقوة واقتدار ونصنع تاريخًا لا يشبه ما قد كان بل بفرضِ شروطِ الصناعة لواقعه.

* المصدر : صحيفة المسيرة
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه