عن الرد الإيراني ومحدّداته
شاهر الشاهر*
كانت جريمة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية بمنزلة "المهرب الخارجي" لحكومة الاحتلال، من أجل صرف الأنظار عن فشلها الذريع في تحقيق أهدافها في حرب غزة.
الاحتلال في مأزق، فالأسرى لم يتم تحريرهم، والسفن تم منعها من الوصول إلى الموانئ الإسرائيلية، والمستوطنون لن يعودوا إلى بيوتهم في ظل عدم ثقتهم بقدرة حكومتهم على تأمين تلك المستوطنات مستقبلاً.
لم يعد الحديث عما إذا كانت إيران سترد على الكيان الصهيوني أو لا، بل بات السؤال متى سيكون هذا الرد، وما هي أبعاده، وإلى أين ستصل الأمور في المنطقة، في ظل معادلات الرد والرد المضاد.
عند حدوث الاعتداء الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق، في أبريل الماضي، كان البعض يشكك في قدرة إيران على الرد بصورة مباشرة، وأنها ستكتفي بما سيقوم بها حلفاؤها من محور المقاومة.
الرد الإيراني المباشر على الكيان نقل إيران من جبهة إسناد إلى جبهة مواجهة، وهو تطور كبير في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
جريمة اغتيال إسماعيل هنية أكثر قبحاً وفداحة من جريمة تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق، وهو ما يجعلنا نعتقد أن الرد الإيراني سيكون هذه المرة أكثر إيلاماً.
الرد الإيراني جاء مركَّباً، بمعنى أن إيران لم تتعامل بـ "ردود الأفعال"، فبدأت الرد اللفظي والكلامي، وانتقلت إلى الرد السياسي، عبر اللجوء إلى مجلس الأمن، من أجل تثبيت حقها السياسي.
تأخَّر الرد. شكل، في حد ذاته، رداً أثّر في معنويات الكيان الصهيوني، فكان نوعاً من الحرب النفسية التي أدت إلى خسائر اقتصادية كبيرة.
يبدو أن الرد سيكون مغايراً هذه المرة، وقد تلجأ إيران إلى استخدام الصواريخ الباليستية فرط الصوتية، وألا يقتصر الرد على استخدام الطائرات المسيرة.
كما أن إيران قد لا تُبلغ هذه المرة الولايات المتحدة ودول الجوار بشأن وقت الرد، وخصوصاً أن عدداً من دول المنطقة يبدو أنه لا يريد استخدام أجوائه في أيّ مواجهة بين إيران و"إسرائيل".
الرد الإيراني سينقل المعادلة بين محور المقاومة و"إسرائيل" من "الربح بالنقاط، الى الربح بالضربة القاضية"، إذا اقتضى الأمر ذلك.
الخسائر الاقتصادية لم تقتصر على "إسرائيل"، بل وصلت إلى الولايات المتحدة، حيث شهدت الأسواق المالية فيها تراجعاً في أسواق الأسهم والسندات وغيرها من القطاعات. وتُقدَّر خسائر الأسواق المالية العالمية بـ 185 مليار دولار.
تراجُعُ أسعار النفط، نتيجة ركود اقتصادي عالمي، متوقَّع فيما لو حدثت أيّ مواجهة مفتوحة في المنطقة، وبالتالي فالجميع سيتأثر، ولم يعد في مقدور أحد أن ينأى بنفسه.
الاقتصاد العالمي بات أشبه بـ "الأواني المستطرقة"، فما يحدث في بلد تنتقل آثاره إلى سائر العالم بكل تأكيد، والنموذج الأوكراني مثال قريب على ذلك.
المحددات الداخلية للرد الإيراني
هناك مجموعة من الاعتبارات الداخلية والخارجية، التي تحكم طبيعة الرد الإيراني وتوقيته. على الصعيد الداخلي، لدى إيران رأي عام غاضب ومطالب بضرورة الرد على الجريمة، التي ارتكبتها "إسرائيل" بحق ضيف إيران إسماعيل هنية.
العقل الإيراني الشرقي وطبيعته يفرضان على صانع القرار مراعاته احتراماً للقيم والتقاليد التي يؤمن بها هذا الشعب. لذا، سمعنا خطاباً يتحدث عن الشرف والكرامة، وهو ما يتعذّر على الولايات المتحدة و"إسرائيل" فهمه.
يجب تحصين المجتمع الإيراني وزيادة مناعته تجاه الاختراقات الإسرائيلية، فالأحداث الأخيرة تؤكد، على نحو لا يدع مجالاً للشك، وجود "طابور خامس" في الداخل الإيراني، تشكل عملية كشفه ومحاسبته الأولوية بالنسبة إلى إيران.
لإيران حدود برية طويلة مع سبع دول، ويبلغ طول هذه الحدود 5440 كم، كما أن هذه الحدود ليست آمنة، بحيث تعاني عدة دول اضطرابات داخلية، أو عدم القدرة على حماية حدودها، كما أن "الموساد" الإسرائيلي حاضر بقوة هناك.
تعاني إيران أوضاعاً اقتصادية صعبة نتيجة للحصار الأمريكي الجائر والمفروض عليها، كما تواجه أكبر حملة إعلامية تستهدف تشويه صورتها أمام الرأي العام العالمي.
التغيرات السياسية الجديدة في إيران، والتي تمثلت بانتخاب رئيس جديد، وتعيين وزير جديد للخارجية، مثلت عامل قوة للنظام السياسي في إيران، بدلاً من أن يكون مصدراً للضعف، كما اعتقد البعض.
المحددات الخارجية للرد الإيراني
أما المحددات الخارجية للرد الإيراني فتتمثل برغبة إيران أولاً، قبل كل شيء، بعدم الانجرار إلى مواجهة مفتوحة مع "إسرائيل"، وبالتالي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
إيران لديها هدف استراتيجي يشكل "مكسباً صلباً"، تسعى للمحافظة عليه، بكل ما أُوتيت من قوة. هذا المكسب يتمثل ببرنامجها النووي الذي سخّرت له كل إمكاناتها، طوال عقود مضت. وبالتالي، فإنها ليست في وارد الدخول في أي مواجهة قد تؤدي إلى تدميره، وخصوصاً أن التقارير الغربية تشير إلى اقتراب امتلاك طهران السلاح النووي.
لإيران حلفاء في المنطقة، قدمت إليهم الكثير. وبالتالي، عليها أن تقرر طبيعة الرد الذي تريد، وهل تسعى لأن يكون رداً مفتوحاً، يشارك فيه كل أطراف محور المقاومة، أم تريده رداً محدوداً يحفظ لها هيبتها، وتستعيد من خلاله قوة الردع التي فقدتها.
محور المقاومة لن يتراجع، ولن يبقى الموقف مجرد جبهات إسناد لغزة، وخصوصاً أن "إسرائيل" وجّهت ضربات مباشرة إلى سوريا ولبنان واليمن وإيران.
المقاومة تتعامل وفق حسابات دقيقة، وموقفها يتمثل بعدم السماح بهزيمة أي طرف من أطرافها، مع سعيها لمحاولة تجنب الرغبة الإسرائيلية في الوصول إلى "الحرب المفتوحة"، التي تجبر الولايات المتحدة على أن تكون طرفاً فيها.
حالة الانفلات التي يبديها نتنياهو، في ظل العجز أو عدم الرغبة الأميركية في لجمه، تحتم على محور المقاومة وضع حد لذلك السلوك.
الأيام تثبت أن المقاومة هي الخيار الوحيد للتعامل مع "إسرائيل"، وأنها وحدها من أجبر "إسرائيل" على الانسحاب من جنوبي لبنان في عام 2000، وليس مسار السلام الذي أثبت فشله في المسار الفلسطيني.
مساعي السلطة الفلسطينية لتقديم أوراق اعتمادها إلى "إسرائيل" مستمرة، وتتمثل بتقديمها خطة تتكون من 101 صفحة تتعلق بإدارة غزة لما يسمى "اليوم التالي".
رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الذي كان شارك في تشييع رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، شيمون بيريز، لم يستطع المشاركة في تشييع إسماعيل هنية.
الولايات المتحدة والعودة القسرية إلى المنطقة
تتفق إيران مع الولايات المتحدة في عدم الرغبة في توسع نطاق الحرب. وهذا التفاهم جرى تكريسه منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى.
الولايات المتحدة، إن كانت ملتزمة دعم الكيان الصهيوني، فإنها لا تتفق معه بكل تأكيد بشأن طبيعة إدارة الحرب ومجرياتها.
طوفان الأقصى شكل "عودة قسرية" للولايات المتحدة إلى المنطقة، بعد أن غادرتها لتتفرغ للتحديات الاستراتيجية التي تواجهها، والمتمثلة بروسيا والصين.
تاريخياً، كانت الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تتمحور حول ثلاث قضايا، هي: أمن النفط، وأمن "إسرائيل"، وأمن الممرات المائية.
اليوم باتت الولايات المتحدة دولة منتجة للنفط وتحقق اكتفاءً ذاتياً، بل إنها تصدّر جزءاً من نفطها إلى الدول الأوروبية.
أما أمن "إسرائيل"، فكانت الولايات المتحدة، قبل طوفان الأقصى، تعتقد أن "إسرائيل" باتت في مأمن، وخصوصاً بعد توقيعها اتفاقيات السلام الإبراهيمي مع بعض الدول العربية.
وهذا ما كان جلياً في كلام بايدن، عند طرحه مشروع "الممر الهندي" في قمة العشرين، التي عُقدت قبل طوفان الأقصى بأيام قليلة.
كما أن نتنياهو، في كلمته خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عرض خريطة لـ"إسرائيل" "المحاطة بالأصدقاء"، كما كان يعتقد.
أما أمن الممرات المائية وطرق التجارة الدولية، فكانت آمنة، وليس هناك ما يهددها، ولم تكن هجمات الجيش اليمني إلا رد فعل على الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
لقد استطاع اليمن فرض إرادته، عبر منع وصول أي سفينة إلى ميناء "إيلات" في كيان الاحتلال، وهو ما تعترف به التقارير الصادرة عن إدارة الميناء.
الدعم الأمريكي لـ"إسرائيل" مستمر، ويتطور بوتيرة مرتفعة. فـ"إسرائيل" ما زالت هي "البقرة المقدسة" لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
تدرك إيران أن المواجهة هي بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وأن عقلية لاعب البوكر الأمريكي لن تقبل الخسارة، وأنه قد يلجأ في النهاية إلى قلب الطاولة تجنباً للهزيمة.
لكنها تعي جيداً أن الجيش الأمريكي لا يتحمل تقديم الدماء، كما أن الاقتصاد الأمريكي هو اليوم في أسوأ أحواله، بعد تجاوز حجم الدين العام 35 تريليون دولار، وهو أعلى رقم يصل إليه منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية.
بات واضحاً أن المعركة ليست معركة غزة أو جنوبي لبنان أو إيران، بل إنها معركة مستقبل الشرق الأوسط. وبالتالي، فإنه سيترتب على خوضها خرائط جديدة ستُرسَم في المنطقة.
تبقى الإشارة إلى أن قدرة المجتمعات على الصبر والتحمل هي من سيحسم المعركة، وأن المستوطنين لن يتحملوا تبعات "الحرب المفتوحة" إن وقعت.
حزب الله كان حريصاً، منذ اليوم الأول للمواجهة، على بقاء جبهته الداخلية متراصة. لذا، فإنه لم يستهدف مواقع مدنية كي لا يعطي ذريعة للكيان باستهداف مواقع مدنية.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب