"عقيدة فداء الأسرى" هل يُسقطها اليمين المتطرّف من الوعي الصهيوني؟
محمد هلسة*
أثارت تصريحات أوريت ستروك وزيرة الاستيطان المحسوبة على حزب العَظَمة الصهيونية، في حكومة نتنياهو، التي قالت فيها: "إن حكومة تبيع كلّ شيء وتتخلى عن كلّ شيء من أجل بضعة أسرى لا تستحقّ البقاء"، سخط واستياء أهالي الأسرى "الإسرائيليين" لدى المقاومة، إذ اعتبروها إثباتاً فعلياً لنوايا الحكومة بالتخلّي عن الأسرى "الإسرائيليين" واعتبارهم أولوية ثانوية مقابل رغبتها في استمرار الحرب.
كما أن هذه التصريحات تتقاطع في مضمونها مع تصريحاتٍ مماثلة أطلقها الوزير سموترتش قبل شهرين تقريباً، وقال فيها: "إن قضية الأسرى ليست مُقدَّمَةً على الحرب والأمن القومي الصهيوني".
المضمون ذاته سمعناه في الانتقادات والإدانات التي وُجّهت من قيادات يمينية متطرفة ضد حراك عوائل الأسرى الذين اتُهِموا بالأنانية لأنهم "يُقدّمون المصلحة والأمن الشخصيّين لبضعة "إسرائيليين" على الأمن القومي العام "لـإسرائيل".
والواقع أن مُجمل هذه التصريحات والمواقف تثير تساؤلات كبيرة حول دوافعها، في الوقت الذي تخوض فيه "إسرائيل" حرباً طاحنة على قطاع غزة، وتقول حكومتها إن واحداً من أهدافها هو استعادة أسراها لدى المقاومة أحياء!
يواجه أصحاب القرار في "إسرائيل" اليوم أسئلة صعبة، أهمها ما إذا كان من الصواب إطلاق سراح العديد من "الإرهابيين" مقابل عدد من الأسرى "الإسرائيليين"، كما حدث في الماضي مثلاً، في صفقتي أحمد جبريل وجلعاد شاليط، أم أن هناك ثمناً يجب عدم دفعه لأنه قد يُشجّع عمليات "اختطاف" أخرى مستقبلاً؟
هذا السؤال يثير كذلك، غضب الرأي العام الصهيوني بقدر ما يزعج أصحاب القرار الذين يجدون صعوبة في مواجهة الضغوط المتزايدة لأهالي الأسرى ووسائل الإعلام التي تُطالب بفعل "كلّ شيء ممكن" لتحرير الأسرى "الإسرائيليين".
والواقع أن الجدل المُحتدم بشأن الأسرى لدى المقاومة، يختلط فيه الديني بالسياسي، فمدى حساسية الرأي العام الصهيوني تجاه قضية الأسرى، ومدى قوة هذا الأمر كسلاح ضغط شعبي، ليست وحدها الدوافع التي تقف خلف الأثمان الباهظة التي دفعتها "إسرائيل" في كل مرة خاضت فيها عملية تبادل.
فالتقاليد اليهودية والروح الاجتماعية الصهيونية تُولِيان أهمية كبيرة لفداء الأسرى وتعتبران الالتزام بتحريرهم، حتى بثمن باهظ، اختباراً حقيقياً للتضامن الصهيوني وعنصراً أساسياً في العقد الاجتماعي بين "الدولة" ومواطنيها.
أدّت ورقة تبادل الأسرى على امتداد الصراع العربي الصهيوني، دوراً حاسماً في كفّ أذى الكيان الصهيوني عن آلاف الأسرى العرب، وقد بلغ عدد صفقات تبادل الأسرى التي تمّت بين العرب و"إسرائيل" 38 صفقة، في الفترة الواقعة بين الأعوام 1948 و2011.
كانت عمليات التبادل هذه دائماً مُختلّة التوازن؛ بين حفنة من "الإسرائيليين" أو أقلّ، وبين عددٍ هائل من الأسرى العرب، مما أدّى دوراً هاماً في تعميق التناقضات بين معارضي التفاوض مع المقاومة والمؤيّدين للتبادل داخل "إسرائيل".
يعتقد اليمين الحاكم اليوم، أنه حتى التقاليد الدينية اليهودية تُحذر من الإفراط في توظيف "عقيدة الفداء" كي لا يستغلها الخصوم في الابتزاز، فليس من الصحيح القول إنها "تُلزم بالخضوع لكل إملاءات يحدّدها العدو لإطلاق سراح الأسرى".
وفق اليمين الصهيوني، فإن ما يُروّج في الخطاب الصهيوني العام اليوم بوجوب القيام بكل شيء لتحرير الأسرى، هو "أمر مُضلّل"، إذ من الواضح أن هنالك أثماناً يجب عدم دفعها.
وبما أن مطالب "الخاطفين" تأتي في إطار الحرب والنضال الوطني الذي تخوضه التنظيمات الفلسطينية، يجب على "إسرائيل" أن تأخذ بعين الاعتبار أن تلبية مطالب "التنظيمات الإرهابية المُبالغ فيها"، هي بمثابة استسلام وخسارة للمعركة ضدهم، فلا ينبغي الموافقة عليها.
لقد بَرَزت مسألة الاستجابة لمطالب "الخاطفين المُفرِطة" هذه الأيام بقوة أكبر في "دولة إسرائيل"، وعلى عكس الوضع في الصفقات السابقة، فإن الأمر لا يتعلق بعدد وطبيعة الأسرى فقط، بل بالجانب الأمني والسياسي وعواقبهما. و
على "إسرائيل" أن توازن هذه المرة بين القيم المختلفة؛ بين وصية فداء الأسرى، وأمن الجمهور "والدولة"، لذا فإن إطلاق سراح العديد من "الإرهابيين" مقابل عدد قليل من الأسرى "الإسرائيليين" قد يُشجّع على "اختطاف" جنود ومستوطنين مستقبلاً، ويعيد الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم إلى النشاط ضد "إسرائيل"، ويؤدي إلى تآكل قدرتها على الردع.
إن فداء الأسير وإنقاذه من محنته لا يبرّران ضرراً جسيماً في المجتمع، فالمصلحة العامة تتطلّب اتخاذ قرارات مؤلمة، حتى لو "لزم الأمر تجنّب فداء شخص هو في أمسّ الحاجة إليه".
يركّز اليمين الحاكم اليوم وهو يروّج لإسقاط "عقيدة فداء الأسرى" عن جدول الأعمال الشعبي والسياسي "الإسرائيليين"، على استئصال ظاهرة أسر "الإسرائيليين" مستقبلاً، ويسعى، في التفكير الاستراتيجي طويل المدى، لمنع عملية الاختطاف التالية عَبرَ الإضرار "بدوافع الخاطفين".
فإذا كانت الروح الاجتماعية الصهيونية لدى غالبية الجمهور ترى بالفعل أنه من الصواب دفع "أي ثمن" مقابل إطلاق سراح الجنود الأسرى، فإن هذا من شأنه أن يثير علامة استفهام كبيرة فيما يتعلق بمقدرة "إسرائيل" على البقاء في محيط معادٍ تخوض فيه صراعات وحروباً بين الفينة والأخرى، ويقع بعض مواطنيها أو جنودها أسرى في يد العدو!
فالتأييد الشعبي الواسع لعائلات الأسرى، لا يعني بالنسبة للحكومة الصهيونية أنّ الشيء الصحيح الذي عليها القيام به، هو إطلاق سراح الأسرى تحت أي ظرف وبأي ثمن.
بالنسبة لليمين الحاكم فإن "إسرائيل" لم تدّخر جُهداً لتخليص أسراها فيما مضى، حتى استغلّ أعداؤها هذا "الاستعداد" للمطالبة بأثمان باهظة مقابل إطلاق سراح الأسرى "الإسرائيليين" على حساب القيم الهامة الأخرى!
لذلك، فإن الاعتبار الأمني السياسي ومنع خلق حافز لعمليات "الاختطاف" في المستقبل يقتضي تفضيل المصلحة العامة على مصلحة الفرد الأسير.
وبرغم أن اليمين الحاكم الذي أفرج عن الأسرى في صفقات ماضية ساق الدين كحجج، فإنه يستخدم اليوم الدين ذاته لإثبات أنه ليس من الصحيح القول إن التقاليد اليهودية تطالب بالقيام "بأيّ شيء" ودفع "أيّ ثمن" من أجل تخليص الأسير من آسريه، وأنه يُحرَّم القيام بشيء قد يعرّض الآخرين مستقبلاً لخطرٍ يتمثّل في زيادة الإرهاب وخلق حافز لمزيد من عمليات "الاختطاف"!
والأمر، وفق نتنياهو وحكومته، متروكٌ لتقديرهم فيما يتعلّق بما يجب القيام به، آخذين بالاعتبار مصلحة "الدولة" واعتبارات الربح والخسارة، وما ينطوي عليه هذا المسار من مخاطر، فعندما يُصبح اختطاف الجنود أو المدنيين تهديداً استراتيجياً "للدولة"، فإن الأمر يتطلب حدوداً حاسمة واضحة تُحدّد "الثمن" الذي يمكن دفعه مقابل فدية.
فإذا غلبت المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، فإن إمكانية الانتصار في الحرب التي "فرضها العدو علينا سوف تتضاءل"، كما أنه، "تُطبّق في الحرب مبادئ وتشريعات دينية خاصة ذات طبيعة عامة لا يتم بموجبها التركيز على خلاص الفرد أو على مصلحةٍ خاصة مُعرّضة للخطر، مهما كانت أهميتها وقيمتها، بل على الانتصار للشأن العام".
وبرغم أن الحكومة الصهيونية الحالية مُشكّلة من أحزاب دينية متطرفة، فإنه من الواضح أنها هذه المرة، لا تقيم وزناً للتقاليد الدينية بشأن الأسرى حتى لو أدى الأمر إلى مقتلهم، وربما بنيران صهيونية ، بخلاف التوظيف الديني لهذه القضية في سياقات سابقة مُماثلة.
فـ "إسرائيل" أو "المُقاوِلة" كما يسميها الراحل اليهودي المغربي المعارض للصهيونية، أبراهام السرفاتي، لها تاريخ حافل في قتل رعاياها والاتجار بمآسيهم من دون اعتبارٍ لأيّ قيم دينية خدمة لأغراض سياسية.
فالصهاينة ساهموا في قتل يهود المغرب عبر "إغراق السفينة إيكوز"، وقتلوا في "عملية فرهود" في العراق عشرات اليهود لحملهم على الهجرة إلى "إسرائيل".
وكذلك فعل بن غوريون الذي كشف الإفراج عن مذكّراته من الأرشيف الصهيوني، أنه كان يُوجّهُ قادة الحركة الصهيونية في أوروبا للتركيز على الشباب والقادرين من المهاجرين اليهود لجلبهم إلى فلسطين، فيما حَثّهم على ترك المرضى وكبار السن ليلاقوا مصيرهم.
العقلية الوظيفية المريضة ذاتها وقفت خلف بروتوكول هانيبال عام 1986 والذي صار جزءاً من عقيدة "الجيش" الصهيوني التي تأمر الجندي الصهيوني إذا رأى زميلاً له يُختطف في ساحة المعركة، أن يبذل كل ما في وسعه لمنع هرب الخاطفين به، حتى لو أدى الأمر لمقتله!
يثبت الجدل المحتدم بين مصلحة الفرد (الأسرى وأسرهم) من ناحية، ومصالح الدولة (السياسية والأمنية) من الناحية الأخرى، أن قضية الأسرى، هي بالفعل إحدى نقاط ضعف "إسرائيل"، وما يعانيه المجتمع الصهيوني اليوم من شرخ وفقدان ثقة في مؤسسات الكيان بسبب قضية الأسرى خيرُ دليل على ذلك.
يرى الائتلاف الصهيوني الحاكم فيما يجري اليوم، فُرصة سانحة قد لا تتكرر لتصحيح خطأ تاريخي ارتكبه اليمين بإقراره صفقات التبادل السابقة، ولاتخاذ موقف حازم ضد تنفيذ ما يسمّيه بـ "الصفقات المجنونة"، بذريعة الأمن القومي "للدولة".
بينما يرى خصومهم أن هذا التوجّه يتغاضى عن الإضرار بالروح المعنوية لجنود "الجيش" الذين يخرجون للقتال نيابة عن "الدولة" وهم يعلمون أنه إذا تمّ أسرهم، فإنها سوف تتخلى عنهم وتتركهم إلى مصيرهم بحجة منع الإضرار بأمنها القومي، ما يؤدي لتضرّر معنوياتهم وروحهم القتالية وانهيارها، وفي كل الأحوال، يتم تقويض أمن "الدولة"!
* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن رأي الكاتب