"حماس" والدولة الفلسطينية المستقلة
زياد غصن*
أثارت التصريحات الأخيرة لبعض المسؤولين السياسيين في حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، والمتعلقة باستعداد الحركة "لإلقاء السلاح والتحوّل إلى حزب سياسي إذا ما تمّ إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود العام 1967، وعودة اللاجئين وفقاً للقرارات الدولية"، ردود فعل سياسية وإعلامية متباينة، فهناك من اعتبرها تحوّلاً جوهرياً في موقف الحركة التي لطالما عارضت الدخول في أي مفاوضات سياسية مع الكيان الصهيوني أو حتى الاعتراف بما خلصت إليه مفاوضات السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين "إسرائيل"، وهناك من رأى أن تلك التصريحات تعكس وجود خلافات أساسية داخل الحركة بين جناحيها السياسي والعسكري.
مكاسب "الأقصى"
منذ عملية "طوفان الأقصى" التي تمّت في السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وما تلاها من عدوان صهيوني مدمّر لا يزال مستمراً على قطاع غزة، والقضية الفلسطينية تشهد مجموعة من المتغيّرات بالغة الأهمية، والتي من أهمها ما يلي:
- عودة الاهتمام الدولي من أوسع أبوابه بالقضية الفلسطينية بعد سنوات طويلة من "النسيان" أو "التجاهل"، سواء نتيجة توسّع دائرة النزاعات والحروب في المنطقة والعالم، أو نتيجة الضغوط والمشروعات الصهيونية والأميركية الرامية إلى تصفية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وقد تبدّى هذا الاهتمام بالمطالبات الدولية بإيجاد حل للصراع العربي ـــــ الصهيوني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، فضلاً عن ضرورة وضع حد لجرائم الاحتلال الصهيوني ومقاضاته أمام محكمة العدل الدولية.
- واللافت أنه حتى الدول والحكومات الداعمة تاريخياً للكيان الصهيوني، فإنها في خطابها السياسي والإعلامي كانت مجبرة أمام ضغوط الرأي العام المحلي والعالمي على الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، والعيش بسلام بعيداً عن الجرائم الصهيونية المستمرة منذ ما يزيد على 80 عاماً.
- استعادة التعاطف الشعبي العالمي مع القضية الفلسطينية، والذي ميّز لعقود طويلة النضال الفلسطيني السياسي والعسكري في مراحله الأساسية. وقد تجلّى هذا التعاطف بعد عملية "طوفان الأقصى" في التظاهرات والاعتصامات الشعبية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني والمطالبة بوقف العدوان "الإسرائيلي" المستمر على قطاع غزة والضفة الغربية، والمطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب "الإسرائيلية".
ووصلت هذه التظاهرات والاعتصامات إلى قلب المدن والجامعات الغربية التي لا تزال حكوماتها ترسل السلاح والمال دعماً لـ"إسرائيل" في عدوانها، الذي خلّف ما يزيد على 35 ألف شهيد، وهو رقم يشكّل ما نسبته نحو 35% من إجمالي عدد الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا بنيرات العصابات الصهيونية ما بين عامي 1948 و2022..
- تراجع التأييد العالمي للسردية "الإسرائيلية" المستندة إلى اختلاق الأكاذيب وتزوير الحقائق حيال جذور الصراع العربي ـــــ الصهيوني واستمراريته، فمع انكشاف حجم الجرائم التي ارتكبت في محافظات ومدن قطاع غزة، والتي وصلت إلى مرحلة إبادة جماعية لشعب كامل، عادت "إسرائيل" لتعيش عزلة دولية تتوسّع دائرتها يوماً بعد يوم. وهذا تجلى بقيام بعض الدول بقطع علاقاتها الدبلوماسية معها، وسحب دول أخرى لسفرائها منها، وتحريك ثالثة دعاوى قضائية بحق بعض المسؤولين الصهاينة... وغير ذلك.
- انقسام الشارع الصهيوني وتعمّق الخلافات الداخلية، وهو الأمر الذي زاد من هشاشة الوضع الداخلي في الكيان وانعكاس ذلك على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا سيما مع فشل العدوان على القطاع في تحقيق أهدافه، في وقت ترتفع يومياً فاتورة خسائر الاستمرار به من حيث عدد القتلى "الإسرائيليين"، تعاظم الخسائر الاقتصادية، وزيادة معدلات الهجرة المعاكسة من "إسرائيل" إلى الخارج.
منطق القول
صحيح أن تكلفة العدوان الصهيوني الحالي كانت باهظة جداً من حيث عدد الشهداء والمصابين والنازحين والدمار، وهي لا تزال في تزايد مستمر يومياً، إلا أنه من الغباء سياسياً وعسكرياً إهدار فرصة استثمار المتغيّرات المشار إليها لتعظيم استفادة الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، ولذلك فإن الموقف المستجد لحركة "حماس" يندرج في إطار عملية الاستثمار هذه انطلاقاً من النقاط الهامّة الآتية:
- التعاطف الدولي رسمياً وشعبياً، والذي يعود الفضل بتحقّقه لدماء آلاف الأطفال والنساء في القطاع والضفة، لا يمكن المحافظة عليه واستثماره إلا من خلال خطاب سياسي وإعلامي واقعي في مثل هذه الظروف، ملتزم بالشرعية الدولية والقرارات الأممية، وبعيد عما يمكن استثماره صهيونياً للتحريض على فصائل المقاومة ومشروعية وجودها ونضالها.
- لا يمكن في مخاطبة الرأي العام الدولي عموماً، والأميركي خصوصاً، عبر وسيلة إعلام كبرى (مثل أسوشيتد برس) إلا الحرص على توجيه رسائل توفّر غطاءً سياسياً وقانونياً للأفراد والمؤسسات الداعمة والمناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني، ولا سيما بوجود لوبي إعلامي واسع يعمل في المقابل على محاولة تغيير الحقائق وحشد التأييد للعملية العسكرية التي تشنّها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين وإيجاد مبررات لها، ووسم التظاهرات المعارضة للحرب الصهيونية بأنها إحدى تجليات ما يسمى "معاداة السامية".
- ثم إن ما أعلنته حركة "حماس" يربك قادة العدو الصهيوني ويجعلهم في مواجهة الرأي العام العالمي. فهؤلاء لم ولن يوافقوا على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود عام 1967 عاصمتها القدس، وعودة اللاجئين.
لأنهم يدركون أن ذلك بمنزلة إنهاء للمشروع الصهيوني التوسّعي في المنطقة وبداية النهاية لـ "الدولة اليهودية". وفي ضوء الموقف الإسرائيلي الرافض للسلام المبني على مقرّرات الشرعية الدولية، فإن المقاومة بجميع أشكالها وتصنيفاتها تبقى حقاً دولياً وقانونياً وأخلاقياً للشعب الفلسطيني غير قابل للتفاوض أو المساومة، وذلك حتى امتثال "إسرائيل" للقرارات الدولية الصادرة بهذا الشأن، وفي صدارتها القراران الشهيران 242 و338.
- تدرك "حماس" أنها بقبولها للقرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية ودخولها في عضوية منظمة التحرير الفلسطينية، وهي في ذروة قوتها وشعبيتها المحلية والعربية والدولية، سيمكنها إلى جانب الفصائل الأخرى مواجهة المشاريع المشبوهة والهادفة إلى تقزيم الحقوق الفلسطينية وحصرها بإقامة سلطة منزوعة الصلاحيات والقرار، تتحكّم "إسرائيل" حتى بالكميات التي يتنفّسها مواطنو تلك السلطة، وغير قابلة للحياة.
ليس من حقّ أحد
ما قالته "حماس" ليس من حق أحد قبوله أو رفضه سوى أبناء الشعب الفلسطيني المعني أولاً وأخيراً بمستقبله، والذي ضحّى في سبيل قضيته العادلة بمئات الآلاف من أبنائه، وتحمّل الجوع والتنكيل والأسر، فيما معظم الحكومات والأنظمة العربية وقفت بإمكانياتها الهائلة ووسائل إعلامها "تتفرّج" على مأساته، هذا إن لم يكن بعضها قد تآمر عليه في الخفاء لدق آخر مسمار في نعش هذه القضية. وهذا الرأي ينطبق تماماً على الموقف من عملية "طوفان الأقصى" وجدواها، فالموجودون على الأرض وفي مواجهة الرصاص الصهيوني يومياً هم وحدهم من يقرّرون ذلك.
* المصدر: موقع الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب