السياسية:

أحمد الطناني*


ليس حدثاً عابراً أن يشهد العالم أجمع الهجوم الإيراني المباشر على عمق الكيان الصهيوني في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة، بضربات استُخدِمت فيها الصواريخ والطائرات المُسيَّرة، ردّاً على استمراء الاحتلال توجيه الضربات للقدرات الإيرانية في المنطقة ضمن استراتيجية "المعركة ما بين الحروب" التي طوَّرها "جيش" الاحتلال لمواجهة التوسّع في نشاط قوى محور المقاومة في المنطقة وخطوط الإمداد الإيرانية المفتوحة لها، والتي تُمثِّل الساحةُ السوريةُ الممرَّ الأكثرَ حيويةً فيها.

سنوات طويلة من العمل الجاد والمُلتزِم في الإقليم من قِبل إيران لبناء محور من القوى والدول التي تجتمع بدرجة أساسية على مبدأ الالتزام بالقضية الفلسطينية ومحاربة الاحتلال الصهيوني ونصرة الشعب الفلسطيني، مرّت المنطقة خلالها بعواصف كبيرة كانت في القلب منها دائماً المحاولات المحمومة لمواجهة تمدُّد هذا المحور وتوسُّعه بأدوات متعددة ومختلفة شملت في طيّاتها استخدام الضربات المباشرة على الأطراف، أو الحروب بالوكالة لإغراق مكوّنات هذا المحور بالأزمات الداخلية عبر لاعبِين محليِّين، مروراً باتفاقات التطبيع وأوهام الحلف الدفاعي المشترك، وليس انتهاء بالضربات الأمنية والعسكرية شبه مجهولة المصدر.

"الصبر الاستراتيجي" والوصول إلى النتائج الأجدى

حملت الاستراتيجية الإيرانية في مواجهة كلّ هذه العواصف اتخاذ "الصبر الاستراتيجيّ" خياراً لتفويت فرص الانقضاض على المشروع الأكبر وهو لم يكتمل بنيانه وتتصلّب قواه، إذ عملت على امتصاص العديد من الضربات وسمحت للاحتلال بأن يدّعي على مدار سنوات نجاح سياساته في إجهاض تطوير قدرات قوى المقاومة في المنطقة والحدّ من برامجها التطويرية، فيما بقي هذا الادعاء غير قابل للقياس الفعلي لسنوات، إلا أن ملامح التحوّلات في قدرات قوى المقاومة في المنطقة قد أعطت مؤشّراً تعرَّض للتقزيم من قبل العديد من المشكِّكين والمتابِعين واللاعبين في المنطقة والعالم.

محطات كبرى، بدءاً من حرب تموز 2006 وقدرة المقاومة اللبنانية على إلحاق هزيمة تاريخية بـ "جيش" الاحتلال، وليس انتهاءً بالقدرات الكبيرة التي باتت واضحة لحزب الله إبّان دخوله المباشر على خط الأزمة السورية لحماية عمقه الاستراتيجي وخطوط إمداده، إضافةً إلى قطع الطريق على محاولات الانقضاض عليه من الداخل، فيما شكّلت جولات المواجهة مع الاحتلال في غزة في الأعوام 2008 و2012 و2014 و2021 نماذج واضحة حول النقلات النوعية للمقاومة الفلسطينية تدريباً وتسليحاً.

والأمر سواءٌ في قدرات المقاومة العراقية، إضافةً إلى التطوير السريع واللافت لحركة أنصار الله في اليمن، حملت دلالاتٍ واضحةً حول نجاعة السياسة الإيرانية في المنطقة وقدرتها على الحفاظ على وتيرة هادئة ومتماسكة للمراكمة للوصول إلى نتائج استراتيجية تُشكِّل انقلاباً في محاولات الإقليم وموازين المواجهة مع النفوذ الأمريكي في المنطقة والموقع الأكثر تقدّماً له في المنطقة المتمثّل بوجود الكيان الصهيوني.

المعركة ما بين الحروب وادّعاءات النجاح

على مدار سنوات طويلة من عمر المواجهة المستمرة مع الاحتلال الصهيوني، طوّر "جيش" الاحتلال استراتيجية "المعركة ما بين الحروب"، لمواجهة تمدُّد وتوسُّع قوى المقاومة في المنطقة والنفوذ الإيراني المتصاعد لتشكيل طوق من النيران يحيط بالأراضي المحتلة، وفق ما صمّمه الشهيد قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس، الذي أشرف إشرافاً مباشراً على نقل هذا الطموح من حيّز التفكير الطوباوي إلى واقع يحتاج إلى عمل دؤوب وموارد كبرى لعكس المعادلات الاستراتيجية في المنطقة.

عمل "جيش" الاحتلال ضمن استراتيجيته على توجيه ضربات مستمرة استهدفت خطوط الإمداد بالسلاح ومواقع التدريب وعمليات اغتيال بأشكال متعددة لقادة كبار في المشروع، وعمليات أمنية كبرى في المنطقة لوضع حد للمشروع الذي يجري على قدم وساق، وعلى الرغم من تجنُّب الاحتلال تبنّي المسؤولية العلنية عن كلّ هذه الجرائم، قدّم قادة الاحتلال ادعاءات لسنوات طويلة إلى جمهورهم وإلى قادة المنطقة حول مدى نجاعة سياساتهم في الحد من النفوذ الإيراني، ومنع قوى المقاومة من مراكمة القوة والحصول على قدرات كاسرة للتوازن.

على مدار سنوات، بقيت ادعاءات الاحتلال حول نجاح ونجاعة استراتيجيته في المواجهة موضع تساؤل، فيما لم تَخضع هذه الادعاءاتُ للاختبار الفعلي، فيما شكّل استمرار إيران في تبنّي استراتيجية "الصبر الاستراتيجي" لامتصاص ضربات الاحتلال موضع تساؤل كبير لدى العديدين، سواء أكانوا أصدقاء أو خصوماً، حول المغزى من تمرير اعتداءات إسرائيلية كبيرة شكّلت الأراضي السوريةُ مسرحَها الأساسي.

لاعتبارات متعددة، طوّر حزب الله معادلته الخاصة في مواجهة الاستراتيجية الصهيونية، ما شكّل "المعركة ما بين الحروب المضادة"، إذ التزم الحزب بالردّ على كلّ استهداف صهيوني في أيّ مكان في العالم لأي ناشط في المقاومة اللبنانية بالرد المباشر من الأراضي اللبنانية على "جيش" الاحتلال، ما ساهم في خلق ضابط رادع لتمادي الاحتلال على كوادر الحزب.

"طوفان الأقصى" والانقلاب الاستراتيجي في المنطقة

خلقت عملية "طوفان الأقصى" والضربة الكبرى للمقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الماضي عاصفة كبرى، خلّفت ارتدادات وصلت تأثيراتها إلى العالم أجمع، فيما شكّلت نقطة تحوّل وعاملاً مؤسّساً في معادلة المواجهة مع الاحتلال في المنطقة، بدأت بحجم الضربة وكسرها لـ "تابوهات" الأمن والردع الصهيوني، ولم تنتهِ بغرق الاحتلال في رمال غزة بعد أكثر من نصف عام من القتال المستمر والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية، وسط فشل الاحتلال في تحقيق أيّ من أهدافه على الرغم من استخدامه كلّ أنواع القوة الغاشمة ضد القطاع.

أنهى "طوفان الأقصى" إلى الأبد زمن الحسم العسكريّ الإسرائيلي، فيما حطّم الانخراط الفعّال من الجبهات الإسنادية كلّ ادعاءات النجاح الصهيوني في الحد من قدرات محور المقاومة في المنطقة، وإجهاض القدرات التطويرية لقدرات قوى المقاومة وحجم تأثيرها على الكيان الصهيوني.

وعلى الرغم من أن حجم الاشتباك لا يزال محدوداً بين قوى المقاومة في الجبهات الإسنادية والاحتلال الصهيوني بمشاركة أميركية مباشرة في العديد من المواضع، واليمن على نحو الخصوص، إضافةً إلى الإسناد الدفاعي والردعي الذي شكّلته حاملات الطائرات الأميركية الموجودة في المنطقة، كشف هذا الاشتباك جزءاً يسيراً من حجم التطوّر النوعي وعمق البنية التحتية والقدرات التسليحية لقوى المقاومة في المنطقة.

إنّ كلّاً من الصواريخ الدقيقة لدى حزب الله، وفعّالية الصواريخ الموجَّهة والمُسيَّرات، إضافةً إلى حجم التسليح والقدرات الاستراتيجية للجيش اليمني وحركة أنصار الله، وقدرة المقاومة العراقية على توجيه ضربات مباشرة لأهداف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والقدرة على خوض معادلات استنزاف مع القواعد الأميركية في الأراضي السورية، وجاهزية الخطط العملياتية لخلق معادلات اشتباك متعددة في المنطقة ضمن معادلة إسنادية محدودية، أعطت نموذجاً حول حجم القدرة الكامنة القادرة على خلق معادلات استراتيجية في حال نشوب حربة إقليمية كبرى، وحسمت بلا شكّ ادعاءات النجاح لسياسات "المعركة ما بين الحروب" والحدّ من قدرات قوى المقاومة في المنطقة.

فيما شكّل الردّ الإيرانيّ على التجاوز السافر للاحتلال باستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق درّة التاج في إطار عملية التحوّل الاستراتيجي التي أحدثتها عملية "طوفان الأقصى" في معادلات الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال الصهيوني في المنطقة.

وبينما توعّد رئيس وزراء الاحتلال، في خطاب إعلانه الحرب على قطاع غزة، أنّ "جيشه" سيدمّر غزة، وأنّ ارتدادات هذا الدمار موجّهة إلى كل أعداء "إسرائيل" في المنطقة، ساعياً إلى ترميم الردع الاستراتيجي للكيان بتدمير غزة، كان الارتداد معاكساً، فبعد أكثر من خمسة وأربعين عاماً من الاشتباك غير المباشر ما بين الجمهورية الإسلامية في إيران والكيان الصهيوني، حانت لحظة الحقيقة التي ثبّتت عمق التغيّرات الاستراتيجية في المنطقة.

حملت الضربة الإيرانية العلنية والواضحة والمباشرة من الأراضي الإيرانية لعمق الكيان الصهيوني العديد من الدلالات التي ثبّتت فصلاً جديداً من فصول المواجهة المستمرة مع الاحتلال، إذ أعطت إيران نموذجاً عن قدراتها التسليحية، وقدرتها على الهجوم، وفعالية ترسانتها التي لم تستخدِم النوعيَّ منها بعد، فيما استكشفت القدرات الدفاعية للمنظومة الأميركية والمتحالفة معها في المنطقة، ومدى نجاعتها في أيّ مواجهة مقبلة، وقدّمت إلى العالم أجمع نموذجاً صغيراً عمّا ستحمله أيّ حرب إقليمية في المنطقة.

بحث الاحتلال في الضربة الموجّهة للقنصلية الإيرانية في دمشق عن ضالته للحفاظ على الدعم الأميركي الذي بدأ يتقلّص مع إطالة أمد الحرب التي تهدّد المصالح الأميركية في المنطقة بفعل ضربات الجبهات الإسنادية، وحساسية التوقيت الانتخابي الأميركي، وذلك عبر استدعاء شبح الحرب الإقليمية من دون أن يكتويَ بنارها، فيما شكّل الردّ الإيرانيّ صدمة لكلّ المقدِّرين الاستراتيجيّين في الكيان حيث عكس المعادلة، وأظهر حجم هشاشة الكيان من دون المشاركة الأميركية المباشرة في الدفاع عنه، وعجزه عن تكوين معادلات ردّ فعلي وحقيقي من دون المخاطرة بأن ينقلب هذا الردّ إلى فشل جديد يُظهِر جانباً جديداً من جوانب الهشاشة في القدرات الهجومية التي لم تُرجّح كفة نجاحه أيّ مناورة سابقة لـ "جيش" الاحتلال.

شكّل الردّ الإيرانيّ التدشين الأوضح للمرحلة الجديدة من قواعد الاشتباك في المنطقة، الذي وصفه المرشد الإيراني "علي خامنئي" بأنه الانتقال الفعلي من مرحلة "الصبر الاستراتيجي" إلى مرحلة "الردع الفعّال" الذي تخلقه معادلة الاشتباك المباشر بين إيران و"دولة" الاحتلال.

لم تتوقّف مفاعيل "طوفان الأقصى" والانقلابات الاستراتيجية في العديد من معادلات المنطقة والعالم، فيما تتراكم يومياً عوامل الفشل الصهيوني المتصاعدة، ومع انقشاع غبار المدافع وركام المنازل في غزة، يظهر بشكل أكثر وضوحاً حجم الفشل الذي سيسجّله "جيش" الاحتلال بانعدام قدرته على حسم معركة في بقعة جغرافية محدودة بحجم قطاع غزة، لا تحتوي على أي نوع من أنواع العمق الاستراتيجي أو خطوط الإمداد المفتوحة لمقاومة محاصرة منذ سنوات، ما يعطي نموذجاً صغيراً لِما سيكون عليه الحال في معارك أكبر مع خصوم يتمتعون بعمق استراتيجي وقدرات تسليحية أكبر وخطوط إمداد مفتوحة.

* المصدر: الميادين نت

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر