إلى أين تتجه المنطقة بعد ليلة الرد الإيراني؟
عمرو علان*
ثمّة إجماع على أن اعتداء الكيان الغاصب على القنصلية الإيرانية في دمشق، وما تبعه من رد صاروخي إيراني مباشر وغير مسبوق على الكيان، أدخل منطقتي المشرق العربي وغرب آسيا في مرحلة مختلفة نوعياً في غاية التعقيد والخطورة، وفتح الباب واسعاً أمام احتمالات تدحرج الأمور إلى حرب شاملة لا يريدها أي من أطراف الصراع، عدا الكيان الغاصب وحكومة نتنياهو، فهل بالإمكان التنبؤ بمسار الأحداث؟ وما السيناريو الأكثر ترجيحاً للأيام القادمة؟
لا تزال الوقائع تتسارع بطريقة دراماتيكية منذ الزلزال الجيوسياسي الذي ضرب المنطقة صبيحة 7 تشرين الأول 2023، فقد كانت عملية "طوفان الأقصى" عملاً استراتيجياً بارعاً بامتياز، كما أرادتها قيادات كتائب القسام أن تكون، إذ لا يمكن فصل أي من التطورات اللاحقة التي شهدتها المنطقة عن تلك العملية ولا عن سياقاتها، فلولا طوفان 7 تشرين الأول 2023 الفلسطيني لما كانت عملية 14 نيسان 2024 الإيرانية.
لقد جاء "طوفان الأقصى" عقب عدة منعطفات متراكمة مر بها الإقليم خلال العقدين الأخيرين، كانت حصيلتها من الناحية النظرية اختلال التوازنات الحاكمة إقليمياً، ولم يكن قد تم بعد ترسيم ذلك الاختلال واختبار الموازين المستجدة ميدانياً، ومن ثم جاء "طوفان الأقصى" ضمن هذا السياق الممتد لعقدين، فكانت باكورة نتائجه إبراز تراجع مستوى قدرة الاحتلال الردعية وترسيخ تهشيم فكرة "الجيش الذي لا يقهر"، ليفتح الباب أمام مرحلة ترصيد موازين المنطقة الجديدة ميدانياً وعملياً.
مذاك، شن العدو عدوانه الهمجي الأخير على غزة لتعديل الكفة لمصلحته واستعادة صورة الردع، لكنه لم يستطع بعد أكثر من 6 أشهر القضاء على المقاومة الفلسطينية، فيما في المقابل لم يستطع محور المقاومة إجبار العدو على القبول بوقف إطلاق النار بشروط المقاومة الفلسطينية، لتدخل الحرب فترة مراوحة عسكرية مع انسداد الأفق أمام الاحتلال لتحقيق أي إنجاز على جبهة غزة، بما يعني أن درجة الاختلال في موازين القوى، التي يتم اختبارها من خلال الحرب الدائرة، لم يتم حسمها بعد ميدانياً.
لذلك، دفع انسداد الأفق أمام الاحتلال في غزة للهروب إلى الأمام، فاقترف عدواناً فجاً على القنصلية الإيرانية في دمشق، أملاً في خلط الأوراق، لكن الاستخبارات العسكرية لدى "جيش" الاحتلال وشبكة أمان في الكيان أخطأتا بتقديم تقدير دقيق لرد الفعل الإيراني، كما كشف الإعلام العبري. وقد فوجئ كل من الكيان الغاصب وأميركا بقوة الرد الصاروخي الإيراني المباشر ليلة 14 نيسان، بحسب ما أوردت الصحافة الأميركية.
لقد جاءت ضربة 14 نيسان الصاروخية لتعمق من مأزق الكيان الغاصب عقب أحداث 7 تشرين الأول، إذ إنها أمعنت في تهشيم صورة القدرة الردعية لجيش الاحتلال، لكن تلك الضربة بدورها لم تكن كافيةً لرسم حدود توازنات المنطقة الجاري صرفها ميدانياً منذ تشرين الأول الفائت.
لذلك، رغم تحذيرات بايدن لنتنياهو من خطورة التصعيد وحثه على ابتلاع الضربة الإيرانية، فالأرجح أن يقوم العدو برد فعل عسكري ما مباشر ضد إيران، وهذا ما تشير إليه تصريحات مسؤولي كيان الاحتلال المتكررة مؤخراً. وبناء عليه، صار السؤال الأكثر منطقيةً ليس ما إذا كان الكيان سيقوم بعمل استفزازي ضد إيران، بل ما إذا كان بمقدور أميركا منع انزلاق الإقليم إلى حرب شاملة؟
لقد كانت تصريحات المسؤولين الإيرانيين واضحةً وحاسمةً بأن يكون رد الجمهورية الإسلامية فورياً وأكثر حزماً على أي استفزاز صهيوني جديد.
وقياساً على وقائع ليلة 14 نيسان، يمكن القول إن إيران قادرة على تنفيذ وعيدها، كما أن من نافلة القول إن جيش الاحتلال كذلك قادر على شن اعتداء على إيران، لكن على الأرجح أن يكون التصعيد المحتمل بين إيران والكيان في مراحله الأولى منضبطاً، على شاكلة ضربات متزامنة، لكنها محسوبة، بما يشبه صيغة "المعركة بين الحروب" التي كانت تدور لأيام محدودة بين حركات المقاومة والكيان الغاصب.
مع ذلك، تبقى معادلات الردود المتقابلة بين حركات مقاوِمة واحتلال مختلفةً في حالات الدول، بمعزل عن تصنيفنا للكيان من الناحية السياسية، ما يجعل احتمال تصاعد الردود المتقابلة إلى حرب شاملة بمشاركة كل الجبهات أكبر من أي وقت مضى.
سيتوجب على أميركا في المرحلة القادمة كبح جماح ربيبتها "إسرائيل" ومنعها من الذهاب بعيداً في التصعيد إذا ما أرادت تفادي انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة لا تريدها، إذ يلزمها ممارسة ضغوط فاعلة وأكثر جديةً على الكيان من أجل التوصّل إلى صيغة تهدئة مع إيران ضمن نطاق زمني محدود، إضافة إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار يلبي شروط حركة حماس على جبهة غزة، وذلك بصفتها الجبهة الرئيسة التي ترتبط بها باقي الجبهات.
لكن نجاح أميركا في تفادي الحرب الإقليمية الشاملة، إذا ما توفرت لديها إرادة جادة لذلك، يظل متوقفاً بقدر كبير على كون جولة الرد والرد المقابل المرتقبة بين إيران والكيان كافيةً لتظهير حدود قوة الأطراف وتوازناتها الجديدة.
أما ما دون ذلك، فإنه يجعل إمكانية التدحرج إلى حرب كسر عظم بين الأطراف الإقليمية احتمالاً معقولاً. وآنذاك، لن تكون القوى الكبرى الدولية بمنأى عن عموم المشهد بدرجات متفاوتة.
تعيش منطقتنا مرحلةً في غاية الحساسية والخطورة لم تعش نظيراً لها منذ 1973، مع فارقين أساسيين يرفعان درجة المخاطر ويزيدان تعقيد
عموم المشهد:
أولهما، أن قوى التحرر العربية والإسلامية اليوم هي قوى مبدئية، وتعمل وفقاً لاستراتيجية "معركة تحرير" لا "معركة تحريك"، ما يجعل ظروف التوصل إلى صفقة كبيرة تفرط بالحقوق العربية والإسلامية غير موجودة.
أما ثانيهما، فيتمثل في حالة السيولة التي يعيشها النظام الدولي والصراع بين غرب استعماري في طور الأفول وشرق صاعد يطمح إلى إعادة التوازن في المنظومة الدولية التي ترسخت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في تحول عالمي جذري يرى فيه كثيرون وضعاً لم يتكرر منذ نهايات القرن السادس عشر.
لهذا كله، نجد أن عبارة "كل الاحتمالات مفتوحة" باتت منذ 7 تشرين الأول 2023 العبارة التي يكررها المتابعون والسياسيون، بمن فيهم قادة الصف الأول لحركات المقاومة، في مصداق لمقولة أن "ما بعد طوفان الأقصى ليس كما قبله".
* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب