محمد جرادات*

هل بالفعل تقف المنطقة على حافة نهاية حرب القرن؟ معطيات كثيرة تؤكد ذلك، في مقابل أخرى تنقضها أو تحد من رؤية مساراتها، فما هي هذه المعطيات؟
برّر ضباط كبار في "جيش" الاحتلال، إعادة تموضع الفرقة 98 خارج خان يونس، بالإرهاق القتالي، وليس كبادرة حسن نية تجاه صفقة الأسرى، وهو الانسحاب الذي أخلى غزة من "جيش" الاحتلال، باستثناء لواء الناحل الذي ما زال يرابط في شارع الرشيد ليفصل شمال غزة عن جنوبها. فيما أعلن نتنياهو بعد الانسحاب، أو إعادة الانتشار، أن الحرب ما زالت في ذروتها، وأن كيانه يقف على خطوة من النصر المطلق!!!

إرهاق قتالي أو خطوة نحو النصر المطلق؛ تضارب في الرؤية، بما يؤكد ضبابية الاستراتيجية الصهيونية، أو مراوحة الكيان في الهزيع العصبي الذي ضربه منذ أكتوبر، وتعزيز لعقلية الخبط العشواء في كل اتجاه، وهو خبط في التوحّش من مجمّع الشفاء في غزة حتى القنصلية الإيرانية في دمشق، ظاهره قوة الردع، وباطنه ارتداد للعذاب.

ذروة الحرب في رؤية نتنياهو أن يسحب كامل "جيشه" من برّ غزة، ليفاوض في القاهرة على شارع الرشيد، كلام غير مقنع للجمهور الصهيوني، بحسب المعلّقين في إعلام الاحتلال، والواقع أن الحرب تضع أوزارها، بحسب ما يرى بعضهم، فهل بالفعل تقف المنطقة على حافة نهاية حرب القرن؟ معطيات كثيرة تؤكد ذلك، في مقابل أخرى تنقضها أو تحد من رؤية مساراتها، فما هي هذه المعطيات؟

أولاً: انسحاب الفرقة 98 من خان يونس، سواء كان بسبب الإرهاق وإعادة التموضع، للقيام بعمليات سريعة لاحقة، أو تحضيراً للهجوم على رفح، هذا الانسحاب هيّأ الجو أمام تقدّم مفاوضات القاهرة التي تتمّ للمرة الأولى بصلاحيات واسعة للوفد الصهيوني الذي يقف على رأسه رئيسَا الموساد والشاباك مع ممثّل شخصي لنتنياهو، وما يرشح من هذه المفاوضات يشير لتقدّم نسبي وإن كان مشوباً بالحذر.

ثانياً: خسائر الميدان المتصاعدة، حتى لو نجح الكيان في تجاوز عقدتها طوال الحرب، ولم تعد الضاغط الأول على استراتيجيته القتالية، تبقى عاملاً رئيساً في بلورة انزياحه الميداني، حتى في ذروة التوحّش والخبط العشوائي، خاصة أن انسحابه من خان يونس جاء مباشرة بعد كمين الزنة الكبير، وإن ظلّ يتكتّم على حقيقة خسائره، لكن ما يرشح من المشافي الصهيونية يفضح أكاذيبه، مع تصاعد عمليات الضفة وزيادة كلفتها منذ رمضان، والخشية من اتساعها.

ثالثاً: الانشغال الصهيوني ـ الأميركي بالتهديد الإيراني، بعد تحوّل نجاح القصف الصهيوني في اغتيال القائد محمد رضا زاهدي، من نجاح أمني إلى فضيحة سياسية قانونية دولية باستهداف قنصلية إيران في دمشق، مع الهلع الداخلي إزاء هذا التهديد، سواء على مستوى الجمهور، أو على صعيد الكيان بإغلاقه سفاراته في 29 دولة في العالم، أو الدخول في إجراءات استدعاء المزيد من احتياط سلاح الجو والتعبئة في المشافي.

رابعاً: التخبّط الإسرائيلي نحو جبهة الشمال وهي تزداد اشتعالاً، أمام تصاعد خسائرها البشرية والتي يكشف عنها طرف واحد هو حزب الله، بالمشاهد الحيّة لقصف جنوده وآلياته ونقاط التمركز التقليدية أو المستحدثة، من دون أدنى اعتراف إسرائيلي ولو بالقليل من هذه الخسائر، مع تركيزه على أزمة النزوح الداخلي لعشرات الآلاف من الصياينة، وهو نزوح طال أمده منذ ستة شهور، مع انهيار قطاع الزراعة وتأثيره على أزمة الغذاء في الكيان، خاصة مع استمرار إغلاق اليمن لميناء "إيلات" الرئيسي، وتبعات ذلك أيضاً على المستوى الدولي.

خامساً: تصاعد الضغط الأميركي، في ظل عزلة الكيان عالمياً على المستويين الرسمي والشعبي، بهدف الخروج من تبعات التوحّش الصهيوني على الصعيد الإنساني، لغايات انتخابية داخلية، في مواجهة جيل شبابي أميركي متمرّد على القيم الأميركية السياسية الموالية بالمطلق لـ "إسرائيل"، وهو ما يفسّر تصريحات زعماء الحزب الديمقراطي، إضافة لتصريحات بايدن، واللافت أيضاً تصريحات ترامب؛ صديق نتنياهو المقرّب، وهو يلحّ عليه بسرعة وقف الحرب.

سادساً: تعمّق الشرخ الداخلي في ظل انسداد الأفق، والعجز عن تحقيق أهداف الحرب أو بعضها، مع تصاعد ضغط عوائل الأسرى الصهاينة، خاصة أن المظاهرات تتسع وتصبح حادّة أكثر، وتنحو ضد شخص نتنياهو باعتباره المعيق الأول للخروج من الانسداد.

يقابل هذه العوامل الستة، عوامل مضادة، وبعضها تشتبك معها، لتؤكد أن المنطقة تقف على حافة حرب أوسع، وهي عوامل ضاغطة تحول دون نجاح عوامل التهدئة باختراقها، وأبرز هذه العوامل:

أولاً: حالة الهيجان التي ما زالت سيدة الموقف في الكيان منذ أكتوبر، في ظل طموحات نتنياهو الشخصية، مع سيطرة التردّد على الشخصيات النافذة، وبعثرة خياراتها، ففي الوقت الذي يتعاطى فيه الجنرال النافذ في كابينيت الحرب غانتس، ووزير الحرب غالانت، ورئيس الأركان هاليفي، وزعيم المعارضة لابيد، مع الرؤية الأميركية لإدارة الحرب، وهم متقاربون في الرؤية، إلا أن خضوعهم للضغط الشعبوي المتأثر بزلزال أكتوبر، ما زال هو الأساس في مسارهم، بما ساعد نتنياهو على إدارة الدفة وفق مزاجه الشخصي، بإطالة أمد الحرب للمحافظة على زعامته السياسية.

ثانياً: النفوذ اليميني الثابت في حكومة الاحتلال، كما في الشارع، رغم التعاطف مع قضية الأسرى، وإعطاء الأولوية لملفهم، إلا أن ارتدادات أكتوبر، بأولوية القضاء على المقاومة، ما زالت أعلى سقفاً من ملف الأسرى الضاغط، رغم تراجع الطموح الصهيوني ، نحو استثمار فرصة أكتوبر، لإنجاز ملفات استراتيجية مثل التهجير وتصفية القضية الفلسطينية.

وتأتي تهديدات وزير الأمن بن غفير بحل الحكومة، في هذا السياق، وكذلك مطالبة وزير المالية سموتريتش بعقد اجتماع موسّع للحكومة، في سياق تصعيد الضغط اليميني، رغم الوعد المتكرّر لزعيم المعارضة لابيد بتوفير حماية برلمانية للحكومة، ضد تهديدات الصهيونية الدينية بالانسحاب في حال وقف الحرب، وهو وعد لا يأبه به نتنياهو، وهو يعي أنه وعد مؤقت، باتجاه الضغط اللاحق القريب لإجراء انتخابات، ونتائجها محسومة بسقوط نتنياهو، ومعه اليمين المتشدّد لصالح قوى يمين الوسط بزعامة غانتس.

ثالثاً: بقدر ما يمثّل التهديد الإيراني بالرد على قصف قنصليتها، سبباً للانشغال الصهيوني بعيداً عن غزة، أو تحوّل هذا التهديد إلى خيار تهدئة في غزة، في ظل ما تردّد عن عرض إيراني لتجاوز تهديد الرد، مقابل وقف الحرب على غزة، وبالرغم من مستوى الإيثار الإيراني السخيّ، في هذا العرض، يبقى عرضاً غير رسمي، وهو في أحسن الأحوال من تحت الطاولة، حتى لو ترافق مع وجود وزير خارجية إيران أمير عبد اللهيان في مسقط، وهي محطة العروض الأميركية بالعادة.

إن الحقد الأعمى لنتنياهو تجاه إيران، مع تشابك المشهد الفلسطيني بالدعم الإيراني والإسناد اللبناني المتصاعد، في ظل حدّية التهديد الإيراني بالرد الأكيد، وارتداداته الداخلية والعالمية، بما يصعّب التراجع أو يحول دون تحويله لفرصة تهدئة في غزة، وإن أمكن احتواؤه من حيث طبيعة الرد ومستواه، لكن هل يمكن لـ "إسرائيل" أن تبتلعه وتصمت في ظل هكذا تداخل، خاصة مع مقدمات تهدئة في غزة؟

رابعاً: العجز الأميركي، وربما هي المراوغة الأميركية، ضمن خيارات ليس منها التخلي عن "إسرائيل" حتى لو تزعّمها بن غفير، باعتبارات الدولة العميقة والمشروع الغربي والأفق الاستراتيجي العالمي، في السياسة الأميركية، وهي سياسة تتغلّب فيها جذرية الصراع مع الشرق الإسلامي، بما يحول دون التنازل الأميركي عن "إسرائيل" في وقت الحرب، وإن ظل الخلاف السياسي قائماً طوال الوقت، فهو خلاف يخضع فيه الأميركي لأولويات تتجاوز البعد الحزبي الداخلي، ولو على حساب المصالح الأميركية الأخرى.

فالمصلحة الكبرى تبقى بوجود "إسرائيل" قوية في قلب الشرق المعادي، والخلاف على إدارة الحرب بما يبقي "إسرائيل" قوية، وإن تلفّظ بايدن أخيراً بضرورة وقفها حرصاً على "إسرائيل"، وظهر أن نتنياهو أذعن ولو نسبياً، فإن قدرة نتنياهو على التحايل منذ أربعة أشهر تشير لتحايل إضافيّ وإن بطرق جديدة، باعتبار اتفاق المستشار الأميركي سوليفان مع "تل أبيب" منذ نهاية العام الماضي، على تحوّل الحرب إلى عمليات محدودة مع بداية العام الحالي، وهو ما نجح نتنياهو بتجاوزه بسهولة.

حرب توقد حروباً ولا تغادرها، ولكنه اختلاط الأوراق المتصاعد، قد يدفع اللاعبين لإعادة التموضع الميداني، بما يعطي الأولوية للتهدئة ولو مؤقتاً في أحسن الأحوال، كما توعّد غالنت، مع بقاء مشهد المواجهة سيد الموقف، ولكنها مواجهة وفق مقاس وترددات نتنياهو، الذي ما زال ينجح حتى الآن بأخذ "إسرائيل" نحو المجهول، بما يجعل كل خيارات المنطقة مشرّعة نحو وعد الله.

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب