"جيش" الاحتلال يسحب ألويته المقاتلة من قطاع غزة.. ماذا عن الأسباب والتداعيات؟
السياسية:
ربما بدا مفاجئاً بالنسبة إلى الكثيرين ما أعلنه "جيش" الاحتلال الصهيوني من سحب 3 من ألويته المقاتلة في قطاع غزة، لا سيما تلك التي كانت تقاتل في مدينة خان يونس، ثاني أكبر مدن القطاع، والتي كان الاحتلال يدّعي أن معظم أسراه من الجنود والمستوطنين موجودون فيها، وأن النواة الصلبة للمقاومة، وخصوصاً حركة حماس، موجودة أيضاً فيها، والتي يتحدر منها قائد أركان كتائب القسام محمد الضيف ورئيس الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار وأخوه محمد الذي يُنظر إليه بأنه أحد أبرز قيادات الكتائب الذين يتمتعون بكاريزما وصفات قيادية مميزة.
الإعلان الإسرائيلي أشار أيضاً إلى استمرار وجود لواء "الناحال"، وهو أحد ألوية النخبة في "جيش" الاحتلال، في أراضي القطاع لتأمين الممر الفاصل بين المنطقة الشمالية، حيث مدينة غزة ومحافظة الشمال، والمنطقة الوسطى، وصولاً إلى الجنوب، حيث خان يونس ورفح، إذ يمتد هذا الممر من الشرق حيث الحدود مع فلسطين المحتلة عام 48، وصولاً إلى شارع الرشيد غرباً بمسافة تصل إلى 6 كلم تقريباً.
كان هذا الانسحاب، بالنسبة إلى الكثير من المتابعين والمختصين، مُتوقعاً ومرتقباً، ولا سيما في ظل وجود الكثير من التطورات والمعطيات التي كانت تشير إلى اقتراب حدوثه، وأنَّ هذا القرار الذي كان، كما يبدو، نزولاً عند رغبة قادة "الجيش" الذين طالبوا المستوى السياسي، لا سيما رئيس الوزراء المأزوم بنيامين نتنياهو ووزير حربه يؤاف غالانت، بضرورة وضع خطة عملياتية قابلة للتنفيذ بعيداً عن الشعارات ذات النسق المرتفع التي كانت تحاول دغدغة عواطف الصهاينة، ولا سيما أنصار الائتلاف الحاكم الذين راهنوا خلال أكثر من 6 أشهر على قوة جيشهم وحنكة قادتهم للوصول لتحقيق جملة الأهداف المعلنة أو على أقل تقدير ما يتعلق منها باستعادة الأسرى وتدمير المقاومة، وهو الأمر الذي لم يتحقق منه شيء بحسب كل المعطيات في الميدان، ما جعل الملل والإحباط يتسلل إلى نفوسهم، كما هي الحال مع الجنود الذين كانوا يقاتلون في جغرافيا غزة المعقّدة والقاسية، والذين كانوا ينتظرون لحظة اتخاذ قيادتهم السياسية والعسكرية قرارات كهذه.
وعلى الرغم من أنَّ هذا الانسحاب لا يعني في أي حال من الأحوال انتهاء الحرب الصهيونية على غزة، وأنه قد يكون عبارة عن إعادة تموضع ليس أكثر، يتم من خلالها إعادة تأهيل القوات التي تضررت بشكل كبير، وانتظار وصول الإمدادات العسكرية من الحليف الأميركي، كما أعلنت إدارة بايدن، وخصوصاً في ظل نقص واضح في الإمكانيات العسكرية، ولا سيما على صعيد القذائف المدفعية أو صواريخ الجو-أرض، وتحديداً قنابل الـmk82، التي استخدمت بكثافة خلال فترة الحرب، إضافةً إلى الاستعداد لمرحلة جديدة من المناورات العسكرية البرية، سواء باتجاه مدينة رفح، كما هو مُتوقع، أو مدينة دير البلح وسط القطاع، فإنه في الوقت نفسه يحمل نتائج ومضامين تبدو في معظمها مهمة وحاسمة، وربما توازي من حيث الأبعاد الاستراتيجية تلك الناشئة عن اتخاذ قرار العملية البرية بذاتها.
مع الإشارة إلى أن نتائج العملية البرية المستمرة منذ أكثر من 180 يوماً لم تحمل أي إنجاز يُذكر للعدو الصهيوني، على العكس تماماً مما يدّعيه، في حين أن نتائج هذا الانسحاب، ولا سيما في حال انتهاء الحرب خلال الفترة القصيرة القادمة، ستكون كارثية على الدولة العبرية ككل، وعلى القيادتين السياسية والعسكرية بشكل خاص، اللتين ستتحمّلان كامل المسؤولية عن الإخفاق الهائل الذي بدأ صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، والذي استمر حتى هذا الوقت الطويل من القتال المحتدم والقاسي.
ولكن دعونا نتطرّق إلى جملة من أسباب هذا الانسحاب، بعيداً من الإعلان الإسرائيلي المرتبك الذي حاول قادة في "جيش" الاحتلال تدارك بعض تفاصيله والتصريح بأنه يمكن العودة إلى أي مكان في القطاع إذا تطلّب الأمر، وهو الأمر الذي أعاد نتنياهو تأكيده في محاولة واضحة لحفظ ماء وجهه أمام قاعدته الجماهيرية التي تقلصت إلى حدّها الأدنى، كما تشير معظم استطلاعات الرأي، واقتراب تفكّك ائتلافه المتطرّف الذي يحاول الحفاظ على حظوظه في البقاء في سدة الحكم في ظل فشله في كثير من الملفات، سواء الاقتصادية أو السياسية والعسكرية.
أولى الأسباب، من وجهة نظرنا، هي المراوحة التي باتت تُعتبر السمة الأساسية للعملية العسكرية بشقّها البري في قطاع غزة، وخصوصاً تلك التي استهدفت مدينة خان يونس خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.
إذ إن ما كان مُتوقعاً من نتائج لتلك العملية التي دُفع إليها عدد كبير من القوات تجاوزت 3 فرق قتالية لم يتحقق، سواء بشكل جزئي أو كلي، فلم ينجح أكثر من 12 ألف جندي من الوحدات النخبوية والخاصة، إضافةً إلى الكتائب والفصائل المدرعة، وتلك الخاصة بالعمل تحت الأرض، مثل وحدة "يهلوم" ذائعة الصيت، التي تُعتبر، بحسب التعريف الصهيوني ، واحدة من أكفأ الوحدات الخاصة بالعمل ضد الأنفاق على مستوى العالم، في الحصول على أي إنجاز يمكن المفاخرة به أو تقديمه كصورة نصر ناجز لجيش الاحتلال، بل إن الخسائر التي تعرّض لها "جيش" العدو في تلك المعركة التي سماها بعض الكتّاب الصهاينة المقربين من اليمين المتطرف بأنها أم المعارك كانت أكبر بكثير مما كان متوقعاً، وكان آخرها الكمين المحكم الذي نفذته كتائب القسام ظهيرة يوم السبت في منطقة الزنّة جنوب شرق المدينة، والذي كان كما يبدو القشة التي قصمت ظهر البعير، ودفعت نتنياهو إلى التعجيل باتخاذ قرر الانسحاب.
السبب الثاني هو التوتّر المتزايد على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، والذي وصل إلى مرحلة باتت فيها الحرب الإقليمية أقرب مما كان البعض يتوقّعون، إذ ساهم التهوّر والاندفاع الصهيوني أو ما يمكن أن نسمّيه محاولة الهروب إلى الأمام من الفشل في قطاع غزة، من خلال زيادة نسق استهداف بعض المناطق في العمق اللبناني، ولا سيما في منطقة البقاع التي تبعد أكثر من 100 كلم من الحدود اللبنانية -الفلسطينية، والاستهداف الممنهج للطواقم الطبية والعديد من الأهداف المدنية، ساهم في زيادة مستوى التوقعات التي تشير إلى اقتراب تفجّر هذه الجبهة بشكل يختلف جملةً وتفصيلاً عن المرحلة السابقة، وإمكانية تحوّلها نتيجة المغامرة الصهيونية غير المحسوبة العواقب إلى جبهة أساسية بعدما كان يُنظر إليها بأنها جبهة مساندة ثانوية.
هذه الجبهة، في حال تفجّرها بشكل كامل، يمكن أن تأخذ المشهد في المنطقة إلى وضعية مختلفة تماماً عما هي عليه الآن. هذه الوضعية ستضع كل سكان الكيان الصهيوني في مرمى صواريخ المقاومة وحلفائها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وستحوّل المدن الصهيونية، ولا سيما مدن المركز التي تُعتبر قلب "الدولة" النابض بالاقتصاد والسياسة، إضافةً إلى مدينة حيفا ومينائها الحيوي والاستراتيجي، إلى كتلة من اللهب قد تدفع في مرحلة معينة إلى هجرة جماعية للمستوطنين الصهاينة الذين قد يضطرون إلى استخدام البحر للهرب بعد أن يتم استهداف كل المطارات في الكيان الصهيوني، والتي سيكون من بينها دون أدنى شك مطار بن غوريون ومطار رامون الذي تم إنشاؤه في أقصى الجنوب ليكون بديلاً من مطارات الوسط والشمال، إلا أنه سيجد نفسه أيضاً، كما تقول كل المعطيات، في مقدمة الأهداف التي ستصل إليها صواريخ المقاومة الإسلامية اللبنانية ومسيّراتها.
ثالث الأسباب التي نظنّ أنها ساهمت في قرار الاحتلال الانسحاب من غزة هو التهديدات الإيرانية الواضحة والصريحة بالرد على جريمة استهداف مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، والتي ارتقى خلالها قادة كبار من قوة القدس التابع لحرس الثورة في إيران، الذين كان من بينهم مسؤول القوة في لبنان وسوريا، وهو الذي كان يُنظر إليه بأنه أحد أهم القيادات المؤثرة على مستوى محور المقاومة ككل، ولا سيما في ظل ما كان يتمتّع به من علاقات واسعة مع كل أطراف المحور، ومن بينها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
التهديدات الإيرانية التي صدرت عن رأس هرم السلطة في الدولة، مروراً بالرئيس وباقي أركان الجمهورية الإسلامية، دفعت "دولة" الاحتلال، ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية، إلى إعلان حالة الطوارئ القصوى، سواء داخل فلسطين المحتلة أو في كل قنصليات الكيان العبري وسفاراته في العالم، تضاف إليها القواعد العسكرية الأميركة المنتشرة في طول المنطقة وعرضها، لا سيما تلك الموجودة على الأراضي الخليجية القريبة من إيران.
هذا الاستنفار بما يتطلّبه من جهد عملياتي هائل، وتحديداً فيما يخص منظومات الدفاع الجوي، التي ستكون على المحك في حال تمثّل الرد الإيراني، كما هو مُتوقع، بإطلاق صليات مكثّفة من الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة الانتحارية على "الدولة" العبرية، إضافةً إلى إمكانية تطوّر الأمر إلى مواجهة ميدانية في بعض الساحات التي توجد فيها قوات إيرانية أو حليفة لإيران كسوريا ولبنان على سبيل المثال، يبدو أنه ساهم بصورة أو بأخرى في اتخاذ قرار سحب الفرق المقاتلة من أراضي القطاع، إذ إن من الضرورة بمكان من وجهة النظر الإسرائيلية أن تتفرّغ كل أجهزة الدولة والجيش للمواجهة المرتقبة التي ستكون حتماً من العيار الثقيل، ولا سيما في حال كان الرد الإيراني واسعاً ومكلّفاً، وفي حال نتجت منه خسائر كبيرة في الأرواح والمقدّرات، وخصوصاً على صعيد محطات توليد الطاقة والمطارات والبنى التحتية أو الأهداف العسكرية من قواعد ومنشآت وغير ذلك.
هناك أسباب أخرى قد تبدو أقل أهمية، ولكنها ساهمت، وإن بنسبة معينة، في اتخاذ القرار بالانسحاب، منها على سبيل المثال الجدال الدائر داخل أروقة مجلس الحرب الصهيوني، إضافةً إلى بعض الضغوطات الأميركية، التي لا أراها بحجم ما تصورها وسائل الإعلام، إلا أنها تبقى تضغط بشكل أو بآخر على متخذ القرار الصهيوني ، وتحديداً بعد جريمة اغتيال موظفي الإغاثة الأجانب في المنطقة الوسطى من القطاع، إلى جانب الضغط الاقتصادي الهائل الذي تتعرض له دولة الكيان نتيجة الخسائر المستمرة بفعل توقف عجلة الإنتاج والحصار البحري المفروض عليها من قبل المقاومة اليمنية، وهو ما أدى إلى خسائر بمليارات الدولارات ستنعكس تأثيراتها المباشرة بعد انتهاء الحرب بشكل يخشى منه الكثير من الإسرائيليين، ولا سيما أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال.
على صعيد التداعيات، يمكن أن تؤدي خطوة الانسحاب من قطاع غزة، حتى وإن تبعتها بعض المناورات البرية المتوسطة النسق، كما حدث مؤخراً في مشفى الشفاء ومحيطه غرب مدينة غزة أو في بعض المناطق الأخرى التي عادت إليها قوات الاحتلال بعد الانسحاب منها، إلى فقدان الثقة تماماً بالجيش الذي أُطلق عليه ضمن بروباغندا الإعلام الصهيوني بأنه "جيش لا يُقهر"، وإلى ترسيخ قاعدة لطالما بشّر بها الكثيرون، وهي تشير بشكل واضح إلى أن هذه "الدولة" يمكن هزيمتها والتغلّب عليها، بل وتفكيكها في مرحلة لاحقة، بسبب فقدانها العمق الاستراتيجي الآمن الذي يمكن أن تعتمد عليه عند الحاجة، ووجودها في محيط معادٍ لها رغم فساد الحكّام وضعف الأنظمة، إضافةً إلى تراجع مكانة الحليف الأميركي القوي والموثوق الذي يمدّها بكل ما تحتاج إليه، ويوفر لها مظلة حماية سياسية وقانونية، وحتى عسكرية.
تداعيات أخرى قريبة الأمد يمكن أن تنشأ عن الخطوة الصهيونية ، تتمثل بتوقّف الحرب على غزة وما سيتبعها من عودة الهدوء إلى جبهات المساندة في المنطقة، والتي قامت بجهد فاعل وحيوي حتى الآن في الحد من تداعيات العدوان، ومن التقليل من حجم تأثيراته في سير المعركة في القطاع المحاصر والفقير.
هذا الاحتمال الذي يتعزّز يوماً بعد يوم رغم التعنّت الصهيوني في ملفات معينة، مثل عودة المهجّرين من الجنوب إلى الشمال، ووقف إطلاق النار المستدام، وإدخال المساعدات الإنسانية، ونوعية وأعداد الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية، يمكن أن يساهم الانسحاب الجزئي لجيش الاحتلال في ارتفاع نسبة تحوّله إلى أمر واقع، وخصوصاً في ظل بعض الهدوء الذي باتت محاور القتال تشهده، ما يساعد في إعطاء فرصة للحل الدبلوماسي الذي تصر المقاومة فيه على مطالبها المحقّة والمشروعة التي تحقق أهداف شعبها الذي صمد وضحّى بشكل لم يسبق له مثيل.
على كل حال، وبعيداً ممّا تحمله الأيام القادمة من تطورات، سواء على الصعيد الميداني الذي، وإن كان يشهد بعض الهدوء في العمليات البرية، إلا أن عمليات استهداف بيوت المدنيين بالقصف الجوي والقصف المدفعي على كثير من المناطق ما زالا مستمرين، أو على صعيد التحركات السياسية التي تشهد القاهرة أحدث جولاتها، فإن ما جرى وما زال يجري في قطاع غزة وما يرتبط به في الإقليم، سيترك دون أدنى شك تداعيات استراتيجية على مستقبل المنطقة، وتحديداً فيما يخص بقاء "الدولة" العبرية ككيان مهيمن ومعتدٍ، إذ إنَّ هذه "الدولة" ستشهد المزيد من التراجع والأفول سترتفع وتيرته مع مرور السنوات، بحيث تصل في نهاية المشوار إلى مرحلة لا تكون قادرة فيها على الدفاع عن نفسها أو الذود عن مستوطنيها الذين سيضطرون، رغماً عن أنوفهم، إلى مغادرة الأرض التي احتلوها بالقوة وشردوا أهلها وسرقوا خيراتها، وجعلوها نقطة انطلاق لمهاجمة جيرانها والاستقواء عليهم.
هذه "الدولة" بعد طوفان الأقصى، وبغض النظر عن النتائج المرتقبة للجولة الحالية من القتال، لن تعود كما كانت، ولن تصبح حتى لو أذعن لها كل أنظمة العار فتوّة المنطقة أو شرطيها الغليظ. هذا الدولة ستندثر كما اندثرت كل قوى الظلم والعدوان في العالم، حتى لو وقف معها كل العالم، وحتى لو ساندتها كل قوى الاستعمار.
* المصدر: موقع الميادين نت
* المادة نقلت حرفيا من المصدر