الطريق الهندي والهارت لاند الجنوبي
موفق محادين*
كانت الهند مع الصين من أهم الإمبراطوريات المبكرة في اقتصاد العالم حتى حقبة الاستعمار الرأسمالي، ومقابل 2% من حصة بريطانيا من اقتصاد العالم عام 1820 كانت صادرات الهند تبحر في 12 ألف سفينة.
إلى ذلك، وإلى جانب طريق الحرير الصيني، عرف العالم طريقاً آخر للتجارة الدولية هو طريق التوابل والبخور الهندي، وكان يضمّ سلعاً مثل المسك والعنبر والزجاج والقطن والكافور والخزف وخشب الصندل، كما كان الطريق يحاذي الساحل الهندي قبل أن يتفرّع بين البصرة فسوريا وأوروبا، وبين عمان وحضرموت واليمن وصولاً إلى الإسكندرية فأوروبا.
في سياق تنافس القوى الأوروبية وحملتها الاستعمارية على الهند اصطدمت بريطانيا خلال صعودها البحري مع البرتغال وإسبانيا، ثم مع هولندا، وآلت إليها السيطرة على الطريق البحري إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح.
ومن مفارقات ذلك أن الحكومة البريطانية كلّفت شركة بذلك، وهي شركة الهند الشرقية البريطانية. تأسست الشركة عام 1600 في سوهارت (ميناء هندي) كمؤسسة احتكارية مرخّصة، وكان مجال نفوذها يشمل آسيا الوسطى كلها. بدأت عملها بالتعاون مع آخر إمبراطورية إسلامية حكمت أجزاء من الهند هي الإمبراطورية المغولية. قبل أن تحطّمها وترثها. وذلك من خلال ألف موظف و60 ألف مرتزق من الهنود والآسيويين حكموا 250 مليون هندي.
بعد السيطرة على شبه القارة الهندية، أصبحت الهند عماد وقوام الرأسمالية البريطانية كلّها، حيث نهبت بريطانيا كلّ موارد الهند بما في ذلك معادن مثل الألماس وزراعات مثل القطن، كما استغلت بصورة بشعة عمل الأطفال والنساء في ظروف لا ترحم، مما أدى إلى انخفاض عدد السكان، وظلت الشركة تتصرّف لا بالهند وحدها، بل بالقرار داخل لندن، حتى نشبت ثورة السباهي الهندية عام 1858 التي استغلتها حكومة لندن في وضع يدها على الشركة.
وحين أجبرت بريطانيا على الرحيل عن الهند بعد سلسلة الثورات الشعبية ومنها الثورة السلمية لغاندي، لجأت لندن إلى شقّ رابطة العالم الإسلامي ودعمت التيار الانفصالي فيها وأسست عليه مجمل تاريخها مع حركات الإسلام الأطلسي وتياراتها.
في آخر زيارة لرئيس الإدارة الأميركية إلى السعودية، أعاد إلى الأذهان، ما عرف بطريق التوابل والبخور الهندي ومن ثم شركة الهند الشرقية، كمقابل لطريق الحرير الصيني ولاوراسيا الروسية، واتكأت بعض الأوساط السياسية على هذا التصريح لتنفخ فيه وتسوّقه كمشروع استراتيجي جدّي منافس للطريق والمشروع الصيني والروسي، وأظهرت قوى خليجية وصهيونية اهتماماً أوسع من غيرهما حتى بدا كما لو أن المشروع هو مشروع هندي – خليجي – صهيوني.
1. اعتماداً على دور الجيوبوليتيك في رسم الشكل الجديد للعالم وإيلاء أهمية كبيرة لذلك من قبل الاستراتيجيين الأميركيين وخاصة بريجينسكي الذي استعاد مقولات قديمة للبريطاني ماكندر (من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم القادم)، كما يحتاج ويستدعي السيطرة على قلبَي هذا العالم الهارت لاند الشمالي الروسي، والهارت لاند الشرق أوسطي، فإن مواجهة التحالف للطريق الصيني وروسيا الأوراسية يحتاج إلى اختراع أو استدعاء طريق ثالث مجرّب، كما أنّ طريق شركة الهند الشرقية البريطانية، هو طريق التوابل والبخور الهندي، سواء من خلال الإمارات (جسر بري عبر الأردن إلى حيفا)، أو من خلال السعودية ومشروع نيوم وقناة بن غوريون.
فيما يخصّ الإمارات، من المؤكد أن علاقات المثلّث الهندي – الصهيوني– الإماراتي علاقات قوية في حقول عديدة، من بينها الحصص الكبيرة لها في ميناء حيفا وعشرات المشاريع الصناعية والتجارية، ويمكن القول أيضاً إن قوس هذه العلاقات يمتد إلى الحقل السياسي الأيديولوجي في ضوء الإبراهيمية السياسية المقدمة من الإمارات والسعي إلى تأويلات مناسبة للمشتركات بين الإبراهيمية والإبرامية (إبرام الهندية) التي تجد لها مشتركات أيضاً مع الجذور التوراتية والنزعات العنصرية والطبقية، وثمة ما يستحق الانتباه في تزامن صعود الصهيونية الدينية وتحالفها مع الليكود مع صعود اليمين الهندي وجاناتا وثباته كما الليكود في الحكم منذ سنوات، ناهيك بالعلاقات المتطورة بين الدولة الهندية والكيان الصهيوني.
2. أما المشترك بين كلّ هذه التقاطعات، فهو دمج المشروع الهندي في رقعة الشطرنج الشرق أوسطية وأبعادها التي تتخطى المشروع إلى حامل وساحة اشتباك بالمستوى الإقليمي – الدولي للمساهمة في تحديد شكل العالم الجديد، ولا سيما إذا تذكّرنا موقع ودور الطريق القديم أو شركة الهند الشرقية البريطانية على المسرح الدولي منذ نهاية القرن السابع عشر وحتى طرد البريطانيين من الهند في غمرة حرب التحرير الكبرى، وإنهاء الاستعمار القديم المتزامن مع صعود الصين وروسيا السوفياتية. فبالرغم من المسافة التاريخية والاجتماعية التي تفصلنا عن تلك الأيام فنحن اليوم إزاء مفارقات لافتة.
– بدءاً من المشهد الدولي، ومن حيث شكل الاصطفافات الدولية التي يعاد إنتاجها بصورة جديدة، فمقابل روسيا والصين الحمراوين آنذاك، فإن موسكو وبكين (الأوراسية وطريق الحرير) تأخذان مواقع متشابهة ضد الغرب والمتروبولات الشقراء بالرغم من أنهما لم تعودا نماذج اشتراكية.
– ومن غرائب المصادفات، الاستعادة المشتركة من موقعين متناقضين لقول شاعر الإمبريالية البريطانية كيبلنغ (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) والأهم هو أنهما وبالمستوى السياسي – الثقافي دخلا حالة من كسر العظم ناجمة عن التداعيات التاريخية لمآلات الصراع الشرق أوسطي، كما على الهارت لاند الشمالي الأوراسي، ومحاولات الأطلسي الفاشلة بالضغط على روسيا عبر المحمية الأوكرانية النازية المتصهينة.
– وبالرغم مما سبق لا يمكن فصل مشروع طريق الهند عن الهند نفسها التي تتشابك علاقاتها مع روسيا والصين بقدر تشابك هذه العلاقات مع الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى. صحيح أن هند اليمين القومي العنصري الحاكم تختلف عن هند حزب المؤتمر والقادة التاريخيين أمثال نهرو وعائلة غاندي الأقرب إلى موسكو، إلا أنّ العلاقات الهندية – الروسية لا تزال قوية في حقول عديدة.
كما أن الخصومة التاريخية للهند مع الصين لم تمنعها من تطوير أشكال اقتصادية معها، مما يعني أن طريق الهند بقدر ما يخدم التطلعات الأميركية، بقدر ما يحتفظ لنفسه بمساحة خاصة مع بقية دول العالم.
ومن المتعلقات الأخرى ذات الدلالة أن البعد الإماراتي في طريق الهند – حيفا، بقدر ما يتكامل مع البعد الخليجي وموقعه في منظومة المتروبولات الرأسمالية العالمية، بقدر ما يظهر قدراً من المنافسة أيضاً.
نعرف أن الخليج منذ القدم مروراً بمرحلة الاستعمار البريطاني وعنوانها شركة الهند الشرقية وانتهاءً بحالة دبي (صورة عن هونغ كونغ وسنغافورة) ظل امتداداً للتحوّلات المذكورة مستعيداً مع الهند تقاليد الطريق التي تمتد من الموانئ الهندية إلى حيفا، وهو ما يعني اليوم قدراً من التنافس مع المشاريع السعودية التي قد تتجاوز دبي، عبر مشروع نيوم على الساحل الشمالي الشرقي للبحر الأحمر، والذي قد يؤسس مع شركات هندية أخرى وكذلك شركات من الكيان الصهيوني، ممرات أخرى نحو الساحل الجنوبي المحتل من فلسطين، سواء كانت ممرات وجسوراً برية أو مائية من نمط قناة بن غوريون التي تربط البحر الأحمر مع الميت مع شواطئ شمال غزة مما يفسّر جانباً من العدوان الصهيوني على غزة.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب