تقييم لاستراتيجية محور المقاومة في الحرب على غزة
السياسية :
بعد مرور ما يقرب من 5 أشهر على عملية طوفان الأقصى التاريخية، وبدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يطرح البعض سؤالاً حول فعالية محور المقاومة، منهم من يطرح هذا التساؤل كتقييم لعمل الجبهات الموحدة والبناء عليها مستقبلاً، ومنهم من يطرح عبر وسائل إعلامية معروفة للانتقاص من المحور وما يقدّمه من تضحيات ويبرزه من قدرات كمحور يعمل في جبهات مساندة للمقاومة في قطاع غزة.
عندما بدأ العدوان على غزة وُضعت له أهداف تتمحور حول إنهاء القضية الفلسطينية من خلال إنهاء المقاومة، وبالتالي توجيه ضربة قاسية إلى محور المقاومة من خلال كسر حركة حماس وتدمير قدرات المقاومة في غزة، وخصوصاً أن واشنطن و “تل أبيب” تريان هذا المحور لاعباً فاعلاً خطيراً، ولا يُعد تهديداً وشريكاً في الصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط فحسب، بل يعدّ أيضاً شريكاً في صنع القرار في المنطقة التي يعمل في مجالها الجيوسياسي كقوة صاعدة.
أولاً: فلسطين قلب المحور – رقعة الجيوبولوتيك
لكن قبل الدخول في تقييم عمل المحور، لا بد من الإشارة إلى أن فلسطين بالنسبة إلى محور المقاومة هي القضية المركزية، وكل عمل المحور يدور في فلكها، الفلك الأول حفظ الساحات الداخلية للدول التي ينطلق منها، ومن ثم وضع القضية الفلسطينية بوصلة تحركات المحور في المنطقة، حيث أن المحور بنى ثقله الاستراتيجي انطلاقاً من ضرورة إعادة الحقوق الفلسطينية وحماية المقدسات، وبالتالي فإن عمله الاستراتيجي في رقعته الجيوبولوتيكية ينطلق من الدعم المتبادل والتدخل بحسب ظروف الجبهات، وبالتالي فهو يعمل وفق هذا الهدف الاستراتيجي، ويتدخل بحسب حاجة الجبهات وفتحها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وهو حين يرى أن هناك حاجة استراتيجية لفتح الجبهات الأخرى كاملةً؛ بمعنى الحرب الشاملة، سيقوم بفتحها، علماً أن ركائز المحور في لبنان وسوريا والعراق واليمن باتت مشاركةً في القتال، كلٌّ في ساحته القريبة أو البعيدة نسبياً عن فلسطين المحتلة.
ويمكن القول أن هذه الحرب أظهرت تضامن قوى المقاومة في كل الجبهات من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن، وأظهرت كيف أن المحور أدار عمليات سياسية وإعلامية وعسكرية بطريقة ذكية دعماً لقطاع غزة، تخفف عن أهالي القطاع والمقاومة فيه، وتقطع الطريق على شن حروب مفتوحة جديدة في جبهات أخرى يخوضها الإسرائيلي، ويراعي ظروف كل دولة من دول المحور، ويمنع الذهاب إلى حرب مدمرة جديدة، مع مراعاة ظروف كل جبهة من هذه الجبهات. الأمر المهم الآخر في هذه الجبهات أنها ليست في مواجهة مع إسرائيل فقط، على الرغم من أهمية أن جبهتي العراق واليمن على الرغم من البُعد الجغرافي لعدم التماس المباشر إلا أنهما كان لديهما عمل مباشر ضد الكيان الإسرائيلي من خلال الصواريخ والطائرات المسيّرة، كما أن هذه الجبهات كانت على مواجهة مباشرة مع القوات الأميركية، فيما الكثير من دول العالم تتجنب مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
ثانياً: تقييم لكل جبهة على حدة
الجبهة اللبنانية
إذا أخذنا كل جبهة من هذه الجبهات منفردة فإننا نرى تأثيرها العظيم على مسار الحرب، ففي لبنان لا يزال حزب الله يخوض معركته الخاصة في جنوب لبنان، هذه الجبهة التي لم يستح حزب الله أن يقول إنها مساندة للشعب الفلسطيني والمدنيين والمقاومة الباسلة في قطاع غزة، بدأ فيها بإشغال ما يقارب ثلث الجيش الإسرائيلي عن جبهة غزة، يقوم فيها حزب الله باستهدافات وعمليات يومية للعدو. وقد تطور حزب الله في عمله لناحية الاستهدافات بحسب العمق الجغرافي في الكثير من الأحيان، وبلحاظ السلاح المستخدم في بعض العمليات مع دخول أسلحة دقيقة تُكشف للمرة الأولى، حيث استطاع حزب الله في هذه الحرب أن يؤرق قيادات العدو ويهجّر مستوطني شمال فلسطين المحتلة، ولمعرفة أهمية هذه الجبهة، فقط علينا ملاحظة كمية التصريحات الإسرائيلية المهددة للبنان، والتي تتحدث عن ضرورة عودة المستوطنين بشكل آمن إلى المستوطنات ما يبين أن الوعي الإسرائيلي تغير حيث بدأ يعيش حالة رعب من العودة إلى المستوطنات ويرى أن الكيان غير آمن. كذلك فإننا علينا أن نلاحظ حركة الدبلوماسيين الغربيين الذين زاروا لبنان للتفاوض حول ضبط الوضع في جبهة الجنوب.
الجبهة اليمنية
أما الجبهة اليمنية، فيجب دراستها منفردة والقيام بمتابعة كل تفاصيل الوضع اليمني لمعرفة أهمية الجبهة اليمنية، وينطلق تأثير هذه الجبهة من أهمية الموقع اليمني على البحر الأحمر، حيث يتمتع بموقع إستراتيجي مميز، إذ يصل بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويربط المحيط الهندي وخليج عدن وبحر العرب بالبحر الأبيض المتوسط. كما أن للبحر الأحمر أهمية اقتصادية وعسكرية وأمنية، إذ يمر عبره أحد أكثر طرق الملاحة البحرية الدولية حيوية في العالم، وتعتبر الدول المشاطئة له من أهم المراكز العالمية لإنتاج الموارد الطاقوية، وتمثل مضائقه وجزره نقاطا إستراتيجية أمنية، مما جعله موضع صراع إقليمي، ومحل تنافس بين القوى العالمية الكبرى، ومركزاً لاحتشاد القواعد العسكرية الأجنبية.
كذلك تنطلق أهمية الموقع اليمني على البحر الأحمر من مشاطئة اليمن لمضيق باب المندب، والذي يفصل البحر الأحمر عن خليج عدن والمحيط الهندي كما يفصل قارتي أفريقيا وآسيا، وتحدّه من الجانب الأفريقي جيبوتي ومن الجانب الآسيوي اليمن. وزادت أهمية مضيق باب المندب بعد افتتاح قناة السويس عام 1869 والتي ربطت البحرين الأبيض والأحمر حيث بات المضيق يربط التجارة بين أوروبا وبلدان المحيط الهندي وشرق افريقيا. وضاعف النفط من أهمية المضيق لما يتميز به من عرض وعمق ملائمين لمرور ناقلات النفط في الاتجاهين، ويمر عبره أكثر من 21 ألف قطعة بحرية سنويا أي حوالي 57 قطعة بحرية يومياً.
وتأتي أهمية الجبهة اليمنية، من خلال منع دخول السفن التجارية وحتى العسكرية إلى الكيان الإسرائيلي عبر مضيق باب المندب، وهذا ما جعل اليمن يظهر كقوة إقليمية رئيسية ووازنة، ووضعه في صراع مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية، بعد تأكيد السيد عبد الملك الحوثي قائد أنصار الله بعدم فتح المضيق أمام السفن الإسرائيلية طالما أن هناك عدواناً على قطاع غزة، وهو أصبح فاعل إقليمي مؤثر في العلاقات الاقتصادية الدولية، ويضع نفسه دون خوف في مواجهة مع أميركا وبريطانيا والدول الأوروبية دفاعاً عن غزة.
ج- جبهتا سوريا والعراق
تأتي أيضاً الجبهتين العراقية والسورية، كطرف مساند وداعم من قبل المقاومة في سوريا والعراق لأهالي قطاع غزة، حيث قامت المقاومة الإسلامية في العراق باستهداف القواعد الأميركية المنتشرة بين العراق وسوريا، ودخلت في صراع مباشر مع القوات الأميركية، وذلك انطلاقا من أن الولايات المتحدة الأميركية هي الداعم الرئيسي للحرب على قطاع غزة، وتقوم بإعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لقتل الشعب الفلسطيني، فكانت هذه الجبهة ايضاً عاملاً مؤثراً على القوات الأميركية وعلى الموقف الأميركي، الذي على الرغم من تصلفه في دعم إسرائيل إلا أنه بات يخاف أن تشتعل الحرب الإقليمية بسبب الحرب الدائرة في القطاع وتؤثر على المصالح الأميركية، وتُدخل الأميركي في مستنقع جديد في الشرق الأوسط لن يخرج منه قبل سنوات، ما يعطي أفضلية للصين للتقدم على حساب الهيمنة الأميركية.
خلاصة
يقوم نجاح محور المقاومة بالعمل وفق تراكم القوة، ويعمل وفق ثوابت محلية لكل طرف، مع لحاظ هوامش المواجهة المنفردة لفصائله في سوريا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين، وبلحاظ استراتيجية الاقتراب الموزّع التي تقوم على الدعم الفاعل من الأضلاع بعضها للبعض، وهكذا تقوم معظم الأحلاف في التاريخ السياسي والعسكري، ثم تأتي إيران ومعها سوريا كمنظومة إقليمية جيوبولوتيكية مساعدة لحركة هذه القوى ومقدمة للدعم اللامتناهي عسكرياً واقتصادياً وسياسياً مع الاستعداد للتدخل في أي لحظة في البقع الجغرافية العسكرية التي تواجهها فيها منفردةً أو مجتمعةً، بناء على ذلك فإن معادلة العمل التي تحكم العلاقات بين الاستراتيجي والتكتيكي لعمل محور المقاومة هي معادلة ناجحة وتتطور باستمرار.
المصدر : موقع الخنادق
الكاتب:د.علي مطر
باحث في العلاقات الدولية
Dr.mattarali@gmail.com