محمد فرج*

في بلادنا، ستكون هناك حرب تحرير لا محالة. ربما نعيش اللحظة التي سيطلق السيد حسن شخصياً النداء لها. هو الأكثر قدرة على الحساب الدقيق لتلك اللحظة التي ستوجه فيها الضربة القاضية إلى الجسد الضعيف المتآكل، ليكون فوزاً بالنقاط أيضا!

الجميع كان في انتظار وترقّب خطاب السيد حسن نصر الله، وكثيرون كانوا يتوقعون/يرغبون في سماع صيغة مطلقة (أبيض-أسود) هي أسوأ ما يمكن أن يفعله المرء في خطابات الحروب، تحديداً هذه الحرب، والجميع استغرق في تفسير المعاني والمقاصد من الكلمات الدقيقة، كالعادة، على لسان السيد.

واحدة من هذه الكلمات يمكنها أن تلخص فلسفة المقاومة في المواجهة، على الأقل كما نفهمها سياسياً: الفوز بالنقاط!

* هل “الضربة القاضية” أداة منتهية الصلاحية في الحروب الحديثة؟
يذهب عدد من باحثي السياسة إلى أن الحرب بالضربة القاضية باتت أداة منتهية الصلاحية في حل الصراعات الدولية. يُرجعون السبب في ذلك إلى عدم إمكانية الحسم في ظل الانتشار السهل والسريع للتكنولوجيا الحربية بين الدول واللاعبين من غير الدول أيضاً (ومنهم بطبيعة الحال المقاومة الإسلامية-حزب الله في لبنان، وكتائب القسّام في قطاع غزة).

إذا كانت الدول الكبرى تمتلك حاملات طائرات، فإن الدول الأصغر والتنظيمات من غير الدول (Non state actors) باتت تمتلك الصواريخ التي تعوقها أو تؤذيها أو حتى تدمرها. وإذا كانت الدول الكبرى قد تمكّنت من بناء القواعد العسكرية الحديثة المجهزة بأحدث أنظمة الرادار والحماية والرد الصاروخي، فإن كل ذلك لم يخلق مناعة كاملة من هجمات المسيرات الحديثة، ومن ذلك ما جرى مؤخراً على يد المقاومة العراقية في هجومها على القواعد الأميركية في المنطقة.

فكّر في حلبة الملاكمة. إذا أوقعت القرعة ملاكماً أضعف في الإمكانات في منازلة مع بطل العالم، فستكون احتمالات نهاية المباراة بالضربة القاضية عالية. يحدث ذلك بعد سقوط اللاعب الأضعف لمدة زمنية تتجاوز المدة القانونية في اللعبة.

لا يوجد عدّاد مماثل لهذه المدة الزمنية في ميدان الحروب بين الدول. اعتمدت الولايات المتحدة منطق الضربة القاضية خلال الحرب الباردة وبعدها بالوكالة أو بشكل مباشر (حرب الكوريتين، حرب فيتنام، الحرب على بنما 1989م، احتلال العراق، احتلال أفغانستان)، وحققت في البادية نجاحات لا يمكن إنكارها، إلا أن عدّاد الزمن في ميدان الدول والشعوب لا يشبه عدّاد حلبة الملاكمة، واستيقاظ الشعوب وحركات المقاومة في أي بلد في العالم لا توجد له مدة صلاحية، وبإمكان الشعوب أن تعكس النتيجة مباشرة بعد أن تستيقظ وتتمكّن.

الضربات القاضية التي وجَّهتها الولايات المتحدة إلى العراق وأفغانستان انعكست خروجاً مراً وهزائم حتى لو بعد سنين. كل ذلك لا يحدث في حلبة الملاكمة، لأن عدّاد الزمن يعمل بمنطق مختلف!

مع كل ذلك، لم ينتهِ مبدأ “الضربة القاضية” تماماً من قاموس الحروب في العالم، إلا أنه بات أقرب إلى المنهج الشرقي (الصيني والإيراني تحديداً) من المنهج الأميركي. في المنهج الأميركي، تبدأ القصة بأكملها بالدفع بأكبر عدد من الجنود والطائرات بكم كبير من الانفعال والغضب والانتقام والغرور (يمكن اعتبار الإسرائيلي نسخة باهتة عن كل هذا).

غالباً ما تكون نتيجة هذا الفعل صورة انتصار، ودائماً ما يرتد إلى خسارة وانكسار وهزيمة بعد أسابيع (حرب تموز) أو بعد سنين ( كما حدث في جميع المغامرات الأميركية من دون استثناء). الضربة القاضية في الأدبيات الشرقية (سن تزو مثلاً) ليست الصورة التضليلية الأولى، إنما هي الخطوة الأخيرة في رحلة الإنهاك والاستنزاف التي يدرك الخصم فجأة جميع أبعادها، وأنه حتماً وصل إلى عتبة التآكل.

الصبر الاستراتيجي.. رحلة الإنهاك المثمرة
لا ينطوي الصبر الاستراتيجي على الصمود والتحمل فحسب، إنما أيضاً على مراكمة التعب في مفاصل جسم الخصم. ما قدّمه حزب الله على جبهة الشمال في هذه الجولة أضاف الكثير من عناصر الإرهاق الجدية:

1. “لن نعود ما دام حزب الله قريباً من السياج”: على الرغم من تجهيزات الملاجئ في مستوطنات الشمال الفلسطيني، فإنَّ السلطات الصهيونية قررت الإخلاء إلى وسط الأراضي المحتلة، وليس البقاء في الملاجئ. يعود السبب المركب في ذلك إلى ثنائية العملية البطولية الفلسطينية في غلاف غزة، وإلى نوعية العمليات الدقيقة التي نفذها حزب الله، والتي أصابت أهدافها بنسبة عالية غير مسبوقة في تاريخ الصراع.

2. هذه الثنائية فرضت عملية الإخلاء في غلاف غزة، كما في الشمال الفلسطيني المحتل. المستوطنون لن يعودوا إلى الشمال ما دام حزب الله موجوداً على السياج (وهو باقٍ)، والمستوطنون لن يعودوا إلى غلاف غزة المشتعل والمدمر (لن يرمم قريباً)، والسلطات الصهيونية تنصح “مواطنيها” بالتريث في السفر إلى الخارج، نظراً إلى انتشار “معاداة السامية” في العالم، وتنبههم من دول الشرق الأوسط والدول العربية وشمال القوقاز والدول المجاورة لإيران.

كل ذلك يفتح أزمة من بابين على كيان “إسرائيل”؛ الباب الأول هو كابوس الهجرة العكسية، والآخر هو أزمة ما تسميه “شتات الكيبوتس”، وعدم القدرة على معالجة الضغط الديموغرافي في وسط أراضي فلسطين المحتلة.

3. “تراجع أميركي أكبر.. ضربة قاضية أقوى”: حتى مع الأساطيل الأميركية في المنطقة، ومع مليارات الدعم العسكري لـ كيان “إسرائيل”، فإن التقارير الإحصائية الدقيقة، حتى الرسمية منها، تشير إلى تراجع الوجود الأميركي في المنطقة (تبدو الصورة أوضح عندما لا نقرأ المشهد بمنطق الـsnapshot، وعندما ننظر إلى خط زمني أطول Mega Trend).

لو عدنا إلى لحظة 2006، لوجدنا أن القوات الأميركية في المنطقة كانت تصل إلى 150 ألف جندي. شعرت كيان “إسرائيل” حينها بارتياح لخوض حرب ضد المقاومة في لبنان، ولكن منذ عام 2010م ومع سياسة التوجه شرقاً، بدأت أعداد القوات الأميركية تتراجع بشكل ملحوظ في قاعدة العديد في قطر، والأسطول الخامس في البحرين، والقوات الأميركية في العراق. كل ذلك تراجع بشكل حاد.

بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كانت كيان “إسرائيل” سعيدة بحجم الدعم الأميركي لها، تحديداً بعد فشلها لسنوات في قطع الطريق على أي مبادرات أميركية باتجاه إيران في الملف النووي. تشعر كيان “إسرائيل” بأن هذا الوجود الأميركي المستعجل فرصة شبه أخيرة لخوض حرب شاملة تحت كنف الأميركي وحمايته القريبة، وهي تعرف أن الوجود الأميركي في التوجه العام يتراجع ولن يتعزز. ربما لذلك حذّر السيد نصر الله في خطابه من حرب استباقية قد تحاول كيان “إسرائيل” شنها، لشعورها بهذه الفرصة الأخيرة من الوجود الأميركي بالذات. إذا مرّت هذه الجولة من الحرب مع الاحتلال من دون تدحرجها إلى حرب إقليمية شاملة، فبالتأكيد ستكون الجولة المقبلة بحضور أميركي أقل، وستكون فرصة الضربة القاضية للاحتلال أكبر.

4. “شقوق الجدران الداخلية تتسع أكثر”: راهن البعض على أن الحرب سوف تخفف من اتساع الشقوق الداخلية في جدران الاحتلال. تم تأجيل التوتر في ملف التعديلات القضائية، ولكن جاءت مكانه مطالبات أهالي الأسرى بصفقة تبادل، ولا نعرف إذا كانت الأصوات المعارضة لنتنياهو سوف تصل إلى محاكمته واستبداله حتى خلال الحرب، ولا سيّما ما سمعناه من تصريحات ليائير لابيد مؤخراً. بعد هذه الجولة من الحرب، سوف تتسع الشقوق الداخلية في الجدران الإسرائيلية، و”كوكتيل” التعديلات القضائية ونتنياهو والأسرى وتقييم أداء “الجيش” كله سيكون خلطة التصدع الداخلي.

عندما وصل الرئيس بوتين إلى السلطة في روسيا عام 2000م، كان يتحدث إلى بوش الابن بخجل الإمكانيات الروسية المتواضعة آنذاك كي يتم سحب معدات الناتو بعيداً من الحدود الروسية. كان يقول وعينه على المستقبل: “سنكون أصدقاء إذا فعلتم ذلك”.. بدأ بوتين مشواره بإصلاح المؤسسة العسكرية والاقتصاد وعينه على عام 2021م. لم يكن يعرف التوقيت تماماً، ولكنه كان يسير باتجاهه؛ باتجاه اللحظة التي سيعلن فيها الحرب لكسر الطوق الناتوي عن عنقه. بوتين أيضاً خطط للفوز بالنقاط.

في بلادنا، ستكون هناك حرب تحرير لا محالة. ربما نعيش اللحظة التي سيطلق السيد حسن شخصياً النداء لها. هو الأكثر قدرة على الحساب الدقيق لتلك اللحظة التي ستوجه فيها الضربة القاضية إلى الجسد الضعيف المتآكل، ليكون فوزاً بالنقاط أيضا!

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب