“طوفان الأقصى”.. يوم له ما بعده
لا أحد منّا يحب الحرب أو يتجاهل تبعاتها، لكن التاريخ يقول إن جميع الشعوب التي تحرّرت من الاستعمار دفعت ثمناً باهظاً لذلك>>
شاهر الشاهر*
أسبوعان مرّا على الزلزال الذي أحدثه “طوفان الأقصى” داخل الكيان الصهيوني وخارجه، وما زالت المعركة في بدايتها بكل تأكيد.
أظهر الطوفان ضعف العديد من الدول العربية وتخاذلها، لكنه وفي الوقت نفسه أظهر رأياً عاماً مختلفاً لدى العديد من شعوب العالم التي كان مصدر معلوماتها الوحيد هو ما تكتبه الصحافة الغربية الشريكة في سفك الدم الفلسطيني.
أسبوعان مرّا والجميع ينتظر ماذا بعد؟ هل ستترك غزة لتنتصر بدمائها على وحشية هذا الكيان الغاصب، الذي لم يتوانَ يوماً عن ارتكاب أفظع الجرائم التي عرفتها البشرية، أم أنّ محور المقاومة لن يترك هذه اللحظة التاريخية تمرّ من دون أن يسجّل نصراً جديداً على الكيان المحتل.
النصر العسكري الذي حقّقه “طوفان الأقصى” لا خلاف حوله، لكنّ السؤال الأهم الآن هو هل ستستطيع المقاومة تحويل هذا النصر العسكري إلى انتصار سياسي؟
معارك كثيرة انتصر فيها العرب على الكيان الغاصب، لكن نصرهم العسكري كثيراً ما تبعته هزيمة سياسية، بمعنى أنهم لم يستطيعوا استثمار ذلك النصر وتوظيفه سياسياً في خدمة قضيتهم العادلة.
فبعد حرب تشرين التحريرية، التي كانت انتصاراً عسكرياً كبيراً على الكيان الصهيوني، كان الحدث الأهم الذي نتج عن هذه الحرب هو توقيع مصر اتفاقية “للسلام مع كيان إسرائيل”، فخرجت مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني.
هذه القاعدة ليست ثابتة بكل تأكيد، فحزب الله استطاع استثمار انتصاره العسكري في العام 2000، ليتبلور سياسياً عبر انسحاب كيان “إسرائيل” من الجنوب اللبناني المحتل.
“طوفان الأقصى” يوم له ما بعده، هذا أمر ثابت وبديهي، وهذا اليوم لم يأتِ بعد، وهو يوم حرب التحرير الكبرى التي سيخوضها محور المقاومة ضد “إسرائيل”.
تخوّف البعض من فكرة الحرب له ما يبرّره، خاصة وأننا لم نعد نشهد حروباً للتحرير، بل معارك هدفها التحريك وتنفيذ بعض الأجندات. لكن ذلك لا يعني أن أطراف محور المقاومة راضية عما يحصل، لكنها تنتظر اللحظة التاريخية، ولعلها كانت “طوفان الأقصى”.
كلّ المؤشرات تشير إلى أننا ذاهبون إلى حرب كبيرة وطويلة، رغم محاولة بعض الأطراف احتواء الموقف. أكثر هذه الأطراف ينطلق من مخاوف ذاتية، أو مصالح مع الكيان وأميركا، وليس الهدف هو نصرة الفلسطينيين والدفاع عن حقهم. أكثر الأصوات التي سمعناها كانت أصواتاً مرتجفة ذليلة ساوت بين الضحية والجلّاد، وبين صاحب الحقّ والمعتدي.
التأييد الأميركي الكبير كان لافتاً وكبيراً، الهدف منه رفع معنويات الكيان المنهار، وتحقيق مكاسب انتخابية لكسب الصوت المؤيد لـ كيان “إسرائيل”.
مقولات كثيرة بات ترديدها نوعاً من اللاواقعية، وأبرز تلك المقولات ربما هي فكرة الأمن القومي العربي التي باتت من الماضي بكل تأكيد.
أما الحديث عن الموقف الدولي أو التعويل عليه فهو خاطئ بكل تأكيد، خاصة في ظل ما تعيشه المنظمة الدولية من “عطالة سياسية” نتيجة للخلافات القائمة بين الدول الخمس الكبرى (روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى).
الموقف الروسي مما يجري في المنطقة هو الموقف الدولي الأبرز والأكثر دعماً للقضية الفلسطينية، والأكثر شجاعة في انتقاده للسياسات الصهيونية المتطرفة التي أدت إلى انفجار الأوضاع في المنطقة. هذا الموقف ناتج من حاجة روسيا إلى تورّط الولايات المتحدة في حرب أخرى في العالم، فيخف دعمها لأوكرانيا التي سعت لاستنزاف موسكو من خلالها.
كما أن موسكو لن تنسى الدعم الصهيوني لأوكرانيا، لكنها احتفظت بعلاقات جيدة مع حكومة الاحتلال، لدرجة أن زيارات نتنياهو لموسكو ولقاءاته بالرئيس بوتين كانت أكثر من لقاءاته بالرئيس الأميركي جو بايدن.
الوجود الروسي في سوريا فرض واقعاً جديداً على العلاقات الروسية الصهيونية، فالجيش الروسي و”الجيش” الإسرائيلي باتا متجاورين، والتنسيق بينهما ضرورة تفرضها تعقيدات المشهد في المنطقة.
الدعم الأميركي غير المحدود لـ كيان “إسرائيل”، والتعاطف الكبير من قبل بايدن ووزير خارجيته مع ما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية، يشجّع حكومة الاحتلال ويدفعها للمضي في خطتها لتدمير غزة وإفراغها من سكانها. تلك الخطة تسبّبت بالمزيد من الضغوطات على مصر، فبات الأمن القومي المصري مهدّداً، وهو ما دفع القاهرة للتحرّك والدعوة إلى عقد مؤتمر للسلام.
تزامن المؤتمر مع سماح كيان “إسرائيل” بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة المحاصرة، مقابل السماح بخروج الأجانب من القطاع. فاستكمال خروج الأجانب سيكون إشعاراً لحكومة الكيان الصهيوني لتنفيذ خطتها الإجرامية، والبدء بحرب برية في القطاع، تلك الحرب التي رأت فيها الولايات المتحدة خطراً على الكيان، خاصة وأن حماس ستكون في وضع الدفاع عن النفس، وبالتالي تكبيد القوات المهاجمة خسائر كبيرة.
تطرّف نتنياهو، وحكومة الحرب التي يقودها، مدفوعة بضغط الرأي العام الصهيوني الداعي إلى “الانتقام لهيبة كيان إسرائيل” التي باتت محط سخرية جميع دول العالم، كلها أسباب تجعل خيار الحرب المفتوحة قائماً ولا يمكن تجاوزه.
الهجوم البري سيغيّر مجرى الحرب، فإما أن تتعرّض كيان “إسرائيل” لضربة غير متوقّعة، ولم يعد الرأي العام قادراً على تحمّلها، وبالتالي المزيد من الأزمات داخل الكيان. أو تكون تلك الحرب بداية النهاية لحركة حماس، وهو ما يحتم على محور المقاومة التدخّل تطبيقاً لاستراتيجية “وحدة الساحات” التي تّم التوافق عليها.
حماس التي استطاعت تنفيذ عملية عسكرية بحجم “طوفان الأقصى”، لا بدّ وأنها قادرة على تحمّل تبعاتها، كما أنه لا بدّ وأنها ستكون في حالة الدفاع أقوى بكثير عن حالة الهجوم. لذا فقد جاءت نصائح الإدارة الأميركية للكيان الصهيوني بعدم التسرّع في البدء باجتياح غزة، خوفاً من المفاجآت التي قد تترتّب على هذا الاجتياح.
لا أحد منّا يحب الحرب أو يتجاهل تبعاتها، لكن التاريخ يقول إن جميع الشعوب التي تحرّرت من الاستعمار دفعت ثمناً باهظاً لذلك.
فروسيا في مواجهتها للنازية في الحرب العالمية الثانية خسرت ما يقارب 27 مليون شخص، لكنها انتصرت في النهاية.
والصينيون الذين باتوا يشبّهون ما يجري اليوم في غزة بصراعهم ضد اليابان في معركة نانجينغ التي راح ضحيتها أكثر من 200 ألف مواطن صيني، حين ارتكبت اليابان عام 1937 أفظع الجرائم من قتل وتدمير واغتصاب.
معارك التحرير تستحق التضحية، أما معارك التحريك فلن تحقّق إلا المزيد من الويلات والمآسي التي ذاقت شعوب المنطقة كل أنواعها.
من هنا فالتحدّي المقبل والكبير أمام محور المقاومة يتمثّل في الإجابة على التساؤل الكبير: هل وصلنا فعلاً إلى القدرة على الفعل والتغيير، إلى الدرجة التي يمكن من خلالها زعزعة الوجود الصهيوني في أرضنا العربية. هذه الزعزعة يجب أن يرافقها خطاب سياسي عقلاني وفاعل وقادر على مخاطبة الرأي العام العالمي، وإقناعه بأن سقف طموحاتنا لا يتجاوز تطبيق القرارات الدولية التي صدرت بحق فلسطين.
وأن العرب لم يكونوا دوماً معتدين، وهم لا يفكّرون برمي أحد في البحر، بل بإعادة كل مستوطن يملك جواز سفر آخر إلى بلده الأصلي الذي جاء منه. على غرار ما حدث مع مستوطنة صينية كانت قد ذهبت للدراسة في “إسرائيل”، وبقيت هناك مدعية أنها يهودية. ومع بدء الأحداث بدأت توجّه رسائل للحكومة الصينية تطالبها فيها بإعادتها إلى وطنها، وهو ما جعلها محط تهكّم للملايين من الصينيين الذين أدركوا طبيعة الاستيطان ونفاق المستوطنين.
الحديث عن حل الدولتين بات كلاماً لا معنى له، خاصة وأن الجميع يدرك أن حكومة الكيان ترفض ذلك بشكل مطلق. فمنذ اتفاق أوسلو عام 1993 تضاعف عدد المستوطنين 7 مرات، بينما تقلّصت مساحة “الدولة الفلسطينية” بشكل لم يعد مقبولاً، حيث باتت غزة أكثر مناطق العالم من حيث الكثافة السكانية.
الربط الأميركي بين حركة حماس و”داعش”، أعتقد أنه مقصود، والأيام المقبلة سوف تشهد المزيد من الضغوطات على حماس، ومن غير المستبعد أن تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف دولي ضد حماس، على غرار ما فعلته مع “داعش”.
يكفي أن يحدث تفجير ما في أي منطقة من العالم واتهام حماس بارتكابه، لتحويل حماس من حركة مقاومة وطنية ضد الاحتلال، إلى حركة جهادية عالمية شبيهة بتنظيم القاعدة.
الخطب والكلمات لم تعد مفيدة، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام، فغيفارا خاطب الأمم المتحدة عام 1964 بكلمتين كانتا كافيتين لإيصال رسالته التي حملت معاني القوة التي لم يعد العالم يفهم لغة سواها، حين قال: “الوطن أو الموت”.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب