ذكرى نصر أكتوبر في مصر .. حضورٌ رغم المعوقات وقدرة فريدة على الإلهام
السيد شبل*
تفرض الأجواء المميّزة ليوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر ذاتها على الشارع المصري دوماً، فالمصالح الحكومية والخاصة تمنح العاملين فيها إجازة مدفوعة الأجر، كما أن الميادين العامة تمتلئ باللافتات الضخمة التي تحمل صوراً لجنود وضباط في الجيش أسفلها شعار “ذكرى النصر”.
أما محطات التلفزة المحلية، فتخصص تقريباً الشهر بأكمله لعرض المواد الدرامية التي تتناول المعارك البطولية التي خاضها العرب ضد العدو الصهيوني على مدار العقود الماضية.
ورغم أن المساحة التي تحتلّها الذكرى في الأحاديث المجتمعية تراجعت نسبياً، فإنّ أعداداً ممن عايشوا أجواء المعارك ما زالوا قادرين على تغيير دفة الأحاديث الخاصة باتجاه ذكرياتهم مع الحرب. وحتى اليوم، يُعدّ وجود جندي أو ضابط شهيد في عائلة ما مصدراً للفخر، وما زالت كراهية كيان “إسرائيل” قائمة في الأوساط الشعبية المصرية كإحدى المسلّمات التي يتفق عليها العقل الجمعي.
أما تراجع الاهتمام الشعبي بالذكرى، فربما يرجع إلى الاعتياد، فكل عام تعيش مصر الأجواء ذاتها، بالشَّكل الذي يُشعر الفرد بغياب الحماسة والولع بالحدث، كما أنَّ ذكرى النصر تُعدّ جزءاً من القضايا العامة التي يتضاءل الاهتمام بها في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تدفع كلّ فرد إلى التركيز على همومه الخاصة، إضافة إلى قِدم الحدث ذاته، ففي العام الحالي 2023، تحل الذكرى الخمسون لانتصار السادس من أكتوبر أو حرب تشرين التحريرية، وفقاً للتسمية العربية، أو “حرب يوم كيبور”، وفقاً للتسمية الصهيونية.
ولا تفوّت المؤسسة العسكرية المصريّة أي عام من دون الاحتفاء بيوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر، إذ يحظى الاحتفال المُقام بهذه المناسبة بتغطية إعلامية واسعة، وينظر الجيش إلى هذا اليوم باعتباره “عيداً خاصاً” ودلالة على قوة الطابع العسكري المصري وصلابة جندي الجيش أمام التحديات. وتعدّ الذكرى مصدراً كبيراً لشرعية الحُكم في مصر وعاملاً دعائياً مهماً لتوسيع مساحة حضور المؤسسة العسكرية في المجال العام.
وفي أغلب الأحيان، تتحاشى المؤسسات الرسمية المصرية إعلان العداء الصريح لـ كيان “إسرائيل”، رغم التشبث بإحياء ذكرى النصر، إذ ينصب التركيز على بطولات الجنود والقادة المصريين وقدراتهم الفذّة التي أظهروها في يوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973، من دون التعرّض للطرف الخصم في المعركة.
هذا الأمر خاضع للخط السياسي الذي تلتزم به القاهرة منذ “معاهدة الصلح” التي أبرمها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع “تل أبيب” في سبعينيات القرن الماضي.
ووفقاً لآخر البحوث الاجتماعية في هذا الشأن، فإن ذكرى الانتصار العربي على “جيش” الاحتلال وجدت طريقها للتأثير في الأجيال الشابة وإلهامهم، وإن كان بشكل مغاير عن الشكل النمطي المعتاد، وأدلّ شيء على ذلك هو عالم مواقع التواصل، وخصوصاً “فيسبوك”، إذ يتبارى المسؤولون عن “صفحات السخرية” (sarcasm society) في التهكم على “جيش” الاحتلال الصهيوني وإظهار مدى عجزه عن التصدي للجيوش العربية في أيام الحرب الأولى.
تحظى تلك الصفحات بمتابعة الملايين، ما حوّلها -على بساطتها- إلى منصّات تزعج دعاة التطبيع الذين يتألّمون من جراء الاحتفاء العربي المتكرر كل عام بذكرى الانتصار، وربما لهذه الأسباب، تتبنى إدارة “فيسبوك” نهجاً ديكتاتورياً يمنع العرب والمسلمين وأحرار العالم من التعبير عن رأيهم بحرية ورفض الاحتلال الإسرائيلي.
مظاهر اهتمام الإعلام المصري بالذكرى
دأبت وسائل الإعلام طوال العقود الماضية على الاحتفاء بذكرى نصر أكتوبر، إذ تبث القنوات الفضائية، سواء المملوكة للدولة أو القطاع الخاص، عدداً من المسلسلات التي أنتجها التلفزيون المصري، وتستعرض جانباً من العمليات المخابراتية التي جرت في سياق الحرب. ويبدأ عرض المسلسلات مع أول يوم في الشهر وتنتهي الحلقة الثلاثون مع نهايته. إضافةً إلى ذلك، يجري عرض مكثف للأفلام التي تناولت المعارك الحربية منذ صباح السادس من تشرين الأول/أكتوبر وحتى المساء.
في السياق ذاته، تقوم الأجهزة الإعلامية التابعة للدولة بإنتاج عدد من الأغنيات الوطنية التي يؤديها مطربون معاصرون، وتركّز كلماتها على بطولات الجيش ومهارة قادته، ليتم عرضها عبر شاشات التلفزيون جنباً إلى جنب مع الأغاني الموروثة عن فترة السبعينيات لمطربين مثل عبد الحليم حافظ ووردة وأم كلثوم.
أما المحطات الإخبارية المتخصصة والبرامج الحوارية المسائية، فتُخصص فقرات لعرض أفلام وثائقية عن المعارك، سواء كانت عربية أو مترجمة، كما تستضيف عدداً من الضباط القدامى للحديث عن ذكرياتهم، إضافة إلى أسر الشهداء، كنوع من العرفان، كما يتم إفساح المجال للكتاب والباحثين الاستراتيجيين لتناول آثار انتصار تشرين الأول/أكتوبر الباقية إلى اليوم.
وبحسب خبراء الإعلام، فإن ما يُعاب على وسائل الإعلام المصرية هو التكرار وغياب الإبداع والميل نحو الاستسهال، وهو الأمر الذي يتضح من خلال تكرار برنامج العمل نفسها كل عام، بما يوحي للمتابع بأن الأمر لا يتخطى كونه “أداء وظيفياً وروتينياً”، إضافة إلى الجنوح نحو المبالغة وغياب الموضوعية عند تناول أجواء المعارك بشكل يُفقد الحدث البطولي طابعه الإنساني.
المؤسسة العسكرية المصرية والاحتفال السنوي
كما المعتاد على مدار 5 عقود، تعدّ هيئة الشؤون المعنوية التابعة للقوات المسلحة برنامجاً متنوعاً لإحياء ذكرى نصر 1973، يستهدف لفت الأنظار مجدداً إلى قوة الجيش، بما يتضمن توجيه رسائل إلى جهات داخلية وخارجية، وخصوصاً في فترات التوتر والأزمات.
وتأتي ذكرى النصر هذا العام متزامنة مع أجواء الانتخابات الرئاسية المصرية، ويسعى مؤيدو الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى توظيف الاحتفاء السنوي بالحدث لمصلحة مرشحهم، وذلك عبر التركيز على خلفية السيسي العسكرية وقيادته وزارة الدفاع والمخابرات الحربية قبل توليه منصب الرئاسة منذ 9 أعوام مضت.
وفي العادة، تتضمن مظاهر احتفاء المؤسسة العسكرية بذكرى النصر عدة صور، منها:
1-تنظيم استعراضات عسكرية تتضمن عروضاً للطيران، إضافة إلى عروض فرق الصاعقة المصرية والمدرعات.
2-فتح المتاحف والمزارات العسكرية مجاناً للمواطنين.
3-تنظيم احتفالات فنية ضخمة يحضرها رئيس الجمهورية.
4-التعاون مع مخرجي التلفزيون لإعداد فقرات موسيقية مزودة بمواد مصوّرة لعرضها على الشاشات أو عبر موقع “اليوتيوب”.
5-إعداد المنشورات والكتيّبات وتوزيعها مجاناً على المواطنين، إضافة إلى تصميم شعار للذكرى.
6– منح مكافآت للضباط والعاملين في القوات المسلحة.
ذكرى النصر: فرصة لرفض التطبيع وإعلان العداء مع كيان “إسرائيل”
على المستوى الرسمي، تتخذ القاهرة خطوات ثابتة للإبقاء على العلاقات قائمة مع “تل أبيب”، لكن من جهة أخرى، فإن الدولة المصرية تريد تطبيعاً محكوماً بسقف الدبلوماسية، وذلك يعني أن الاحتفاء بذكرى نصر أكتوبر يخدم المؤسسات الحاكمة حين تستخدم ردود الفعل الشعبية المناهضة للصهيونية كعذر لتحجيم عملية التطبيع. وقد كان هذا النهج أكثر حضوراً خلال الثمانينيات والتسعينيات.
أما على الصعيد الشعبي، فيُعدّ إحياء ذكرى النصر فرصة حقيقية لجميع النخب السياسية الرافضة للتطبيع، فالأجواء بشكل عام تكون ملائمة لبث الخطاب المناهض للصهيونية، ولفضح الجرائم التي يرتكبها “جيش” الاحتلال حتى اليوم بحق الأشقاء الفلسطينيين.
وتسعى الأحزاب والجمعيات المناهضة للتطبيع إلى تنظيم الندوات والمؤتمرات لإحياء ذكرى النصر، لكنها تستهدف أيضاً توظيف هذا الشعور الوطني بالفخر باتجاه اتخاذ موقف أكثر جذرية في رفض الوجود الصهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة والامتناع عن إقامة أي علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني حتى زواله.
ولدى الطبقات الشعبية داخل مصر موقف رافض للتطبيع. وقد اتضح ذلك في أوقات ما بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، إذ تمّت مهاجمة السفارة الإسرائيلية المقامة في الدقي حينها، وكان إثبات تهمة التطبيع على سياسي ما كفيلاً بنفيه خارج المشهد العام تماماً.
ومؤخراً، كانت العملية الفدائية التي نفذها الجندي المصري محمد صلاح ضد “جيش” الاحتلال قرب الحدود المصرية كاشفة عن حجم التأييد الشعبي لأي عمل مقاوم يتمكّن من استنزاف طاقة وقدرات ودماء جنود الاحتلال وضباطه.
ومن المؤكد أن الانتصار على العدو الصهيوني وتحرير شبه جزيرة سيناء يمثلان أحد ثوابت الشخصية المصرية، ويشكلان نقطة مضيئة في ذاكرة مصر الحديثة. هذا الأمر وحده كفيل بتخريب أي جهد تطبيعي يقوم به أي طرف داخل مصر، فلدى تلك الذكرى العطرة قدرة فذّة على إلهام الأجيال المتعاقبة، وهذا أشد ما يزعج العدو الصهيوني ويسدّ أبواب القاهرة في وجهه.
ودوماً ما يتضمن احتفاء الشعب المصري بذكرى الانتصار توجيه التحية إلى حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، إذ إنها حملت راية النضال في وجه العدو الصهيوني، وحققت الانتصار تلو الآخر، ومنعت حكومات الاحتلال المتتالية من تحقيق أحلامها في قضم مزيد من الأراضي العربية، بل حوّلت تلك الأحلام إلى كوابيس حقيقية.
التكاتف العربي والتضامن مع أحرار العالم.. طريق الانتصار
خاضت مصر حرب التحرير بالتحالف مع الجمهورية العربية السورية، وقدمت كل الأقطار العربية المعونة المادية والعسكرية للجيوش العربية في خط المواجهة.
تمهيداً للتوقيع على اتفاقية “سلام” مع كيان “إسرائيل”، عملت أجهزة الإعلام المصرية على فسخ علاقة مصر بالوطن العربي، إذ بثت الأجهزة الدعائية أخباراً مزيفة تستهدف التهوين من الدعم العربي الذي تم تقديمه للجيش المصري.
وفي هذا السياق، تمت تغذية المواطن المصري بنظرة سلبية إلى محيطه العربي، وراجت رؤية انعزاليّة داخل المجتمع حاولت التقليل من أهمية القضية الفلسطينية، والإيحاء بانعدام الرابط بين مصر وفلسطين، مع توجيه سيل من الاتهامات إلى الشعب العربي الفلسطيني بغرض فسخ العلاقة الوجدانية بين الشعب العربي في مصر والشعب العربي في الشام عموماً، وفي القلب منه فلسطين.
لكن مع تجدد ذكرى أكتوبر كل عام، تؤكد النظرة العروبية حضورها، إذ تتم الإشارة إلى أن الانتصار العسكري هو نتاج للتضامن العربي، وأن النصر ما يكن ليتحقق لولا وحدة الموقف العربي وتكاتف الجيشين العربيين في مصر وسوريا، إضافة إلى الدعم الذي تم تقديمه من العراق والجزائر واليمن والكويت وليبيا… وفي هذا السياق، يجري توظيف الذكرى في اتجاه تجديد العداء مع كيان “إسرائيل”، مع تعبير متكرر عن الوفاء لدور الاتحاد السوفياتي والبلدان المستقلة في العالم.
وقد أدت مواقع التواصل الاجتماعي دورًا إيجابياً في تعميق شعور المصريين بعروبتهم، إذ وجد الشاب المصري نفسه وسط محيط واسع من مستخدمي مواقع التواصل الذين ينتمون إلى مختلف دول العالم، بيد أنه لم يتمكن من إقامة حوار مشترك سوى مع مواطن من بلد عربي آخر بحكم وحدة اللغة، ثم اكتشف أنه يتشارك مع جاره العربي كمًا مهولًا من المشتركات الثقافية والروابط الحضارية، حتى مساحات الاختلاف بدورها تأكيد على وجود الروابط ووحدة مجالات التفاعل.
وقد نجحت الأجيال العربية الشابة في تطويع مواقع التواصل الاجتماعي بهدف إحياء ذكرى نصر تشرين الأول/أكتوبر، سواء من خلال الحديث عن البطولات العسكرية أو عبر مهاجمة المنشورات التي تروّجها صفحات تابعة لحكومة الاحتلال الصهيونية، والتي تكون موجهة إلى الجمهور العربي.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب