السياسية: صادق سريع

 

 

أخيراً ستتوقف ذبابة الإليزيه من امتصاص ثروات القارة الأفريقية وستصبح باريس خارج ملعبها الأسمر بعد قرون من هيمنة الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية.

فاليوم لم تعد فرنسا لاعباً أساسياً ولا بديلاً في الاولومبيات السياسية والاقتصادية في ملاعب مستعمراتها السابقة وأصبح حالها كضيف ثقيل غير مرحب به بعد تلقيها ضربات دبلوماسية أفريقية خارج أرضها ودخول لاعبي الدب الروسي والتنين الصيني ملاعب القارة السمراء.

 

فرنسا تغادر النيجر

وبعد 33 يوم من إعلان أحرار النيجر تحرير البلاد من تحت هيمنة العسكرة الفرنسية، غادر السفير الفرنسي، سيلفان إيتيه برفقه معاونيه الستة، صباح الأربعاء 27 سبتمبر 2023، العاصمة نيامي متجهاً إلى باريس عبر أجواء دولة تشاد.

وأكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مغادرة إيتيه، معلناً قرار سحب قوات بلاده وإنهاء تعاونها العسكري مع النيجر.

وطالب المجلس الوطني في النيجر بخروج السفير إيتيه والقوات الفرنسية البالغ قوامها 1500 عسكري وفق جدول زمني يتم الاتفاق عليه عبر المفاوضات.

صحيفة “لوموند” الفرنسية، وصفت اعلان انسحاب فرنسا من النيجر بالضربة الثالثة في أقلّ من عامين ضد الوجود الفرنسي وقواته العسكرية في القارة السمراء، كما تعد أخطر انتكاسة لماكرون منذ انتخابه عام 2017.

إذ كان التفسير الأدبي الأجمل لأحداث قصة الموت البطيء للإمبراطورية الفرنسية تمهيداً لإعلان خبر وفاتها في القارة السوداء؛ في لغة الحكماء مختصراً في مقوله “أنقلب السحر على الساحر”.

لقد شهد العقد الأخير تحولات عالمية كبرى وبرزت قوى قطبية منافسة ساهمت في خلخلة القبضة الفرنساوية على مستعمراتها القديمة في القارة السمراء شيئاً فشيئاً إلى أن جاء إعلان ثوره النيجر في ال 26 يوليو 2023، والذي كان بمثابة المسمار الأخير في نعش الديك الفرنسي.

 

فرنكوفونية الإليزيه

تعكس سلسلة الثورات الأخيرة في الدول الافريقية الفرنكوفونية، تغيير سياسة “فرانسافريك” نفسها على مهندسوها من ساسة ولوردات باريس، ضف إلى ذلك الدوافع الداخلية لشعوب أفريقيا، أبرزها النهب الممنهج لمواردها ومصادرة حقها في تقرير مصيرها وحق العيش بحياة كريمة..
و”الفرانكفونية”؛ هي منظمة مهمتها الترويج للثقافة واللغة الفرنسية تضم 84 دولة تتحدث الفرنسية كلغة رئيسية وثانويه منها 58 دولة عضو و26 دولة بصفة مراقب.

 

بداية النهاية

وهكذا جاءت نهاية الاستعماري الفرنسي في أفريقيا على وقع حمى التنافس الروسي والصيني واللاتي عملت على توفير بدائل اقتصادية وعسكرية لمستعمراته القديمة والمعاصرة، ومن هنا بدأ ساسة فرنسا تحريك أسلحتهم السياسية والاستخباراتية المفضلة لديهم عبر لعبة الانقلابات السياسية المفبركة للأنظمة والحكومات التي تنبعت منها ريحة التمرد لضمان استمرار هيمنتها الاستعمارية؛ لكن يبدو أن ذلك السلاح لم يعد ينفع، إذ تحول إلى سلاح ذو حدين منقلباً ضدها.

وآنذاك في منتصف القرن الماضي، تعمد نظام الاستعمار الفرنسي لتغيير أسلوب سياسته الخشنة إلى ناعمة نوعاً ما، حيث منح مستعمراته الاستقلال الشكلي كنوع استعماري حديث لكن بحله جديدة، قضى بتسليمه مقاليد الحكم لنخب فاسدة تكن الولاء القطعي لقصر الإليزيه بشكل يضمن بقائه وديمومة تدفق ثروات مستعمراته السمراء، وتبعية شعوبها التي تعاني أصناف الفقر والجوع والمرض.

كما لجأ ساسة باريس إلى تنويع أساليبه في سبيل تقوية قبضته على أنظمة وشعوب أفريقيا، تارة بافتعال ثورات صوريه كوسيله عقابية لأدواتها وامتصاص الغضب الشعبوي المؤقت أيضاً، وتارة آخري بأجراء تغييرات جذرية في سلم السلطات بأساليب مختلفة، كالتهديدات والاغتيالات السياسية والإغراءات السلطوية والمادية (…).. فلا شيء آنذاك يقف أمام مصالح فرنسا.

إذ شهدت الدول الأفريقية منذ العام 1950، ثلث عدد الحركات الثورية في العالم، أغلبها حصلت ضمن نطاق المستعمرات القديمة لقصر الاليزيه، ما جعل نظام الحكم هناك يتسم بالتغيرات المفاجئة بين الحين والآخر.

 

اتفاقات انتقامية

ومُنذ أن كلف الرئيس الفرنسي شارل ديغول، عام 1962، مستشاره جاك فوكار، الذي لُقب بمهندس الاستعمار الفرنسي الحديث، بصياغة اتفاقات جديدة لم تنتهي صلاحيتها إلى اليوم بين إمبراطورية فرنسا ومستعمراتها الأفريقية السابقة، مقابل التزام باريس بتوفير الحماية العسكرية وكبح الثورات الشعبية بعمولات مالية تقدر بملايين من الدولارات مع ضمان استغلال فرنسا لموارد أفريقيا الطبيعية كالألماس واليورانيوم والغاز والنفط.

كانت تلك الاتفاقات المحذوف فيها تاريخ انتهاء الصلاحية، سبباً مباشراً في تنامي حدة العداء بين النخب والشعوب الأفريقية للوجود الفرنسي، حيث يصف أحرار من العالم سياسة فرنسا في القارة السمراء بالاستعمارية والمتعالية والأبوية والانتقامية”، مؤكدين تخلي مستعمرو فرنسا عن القيم الأخلاقية وطعن شعوب السمراء في الظهر.

يعزو ساسة وحقوقيون، أسباب تنامي العداء وصحوة الربيع الأفريقي ضد فرنسا إلى دعم الأخيرة اللامحدود للزعماء ورؤساء الحكومات الذين لا يحظون بشعبية كبيره داخل شعوبهم التي تعاني من ارتفاع معدلات نسب الفقر، في حين هي مشغولة بنقل ثروات شعوبها نحو عاصمة النور باريس، ما أدى إلى تصاعد حدة الغضب الشعبي الذي كان سبباً مشجعاً للقيادات العسكرية الوطنية في الإطاحة بالأنظمة الموالية لعقيدة ديغول وسط ترحيب شعبي كبير.

فلا غرابه من تنامى عداء الشعب الافريقي لفرنسا وليس غريباً ما قاله أحد مواطني النيجر ل “بي بي سي”: “منذ نعومة أظافري وأنا معاد لفرنسا، فقد استغلت كل ثروات بلادي من اليورانيوم والنفط والذهب”.

 

خارطة الإرث الاستعماري

بالعودة إلى تأريخ الإرث الاستعماري للإمبراطورية الفرنسية التي تسيطر على 63 مستعمرة في أنحاء العالم، منها 22 في أفريقيا، تم تقسمها لـ 4 فئات هي: مستعمرات شمال أفريقيا، وغرب أفريقيا، وأفريقيا الاستوائية، ومستعمرات شرق أفريقيا.

حيث ضمت الخارطة الإليزيه الاستعمارية في أفريقيا دول توغو وجمهورية الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا والسنغال وساحل العاج والكاميرون وبوروندي وتشاد وجزر القمر والغابون وبوركينا فاسو ومدغشقر وبنين وتونس والمغرب وغينيا والنيجر وجيبوتي ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وموريتانيا والجزائر وغينيا الاستوائية.

 

الثورة القاصمة

شهدت السنوات الثلاث الأخيرة ضربات متلاحقة وموجعه للديك الفرنسي في إفريقيا، من بوركينا فاسو إلى مالي، التي كانت رأس حربة للتواجد الفرنسي العسكري في غرب القارة السمراء ومنطقة الساحل، وقبلها جمهورية إفريقيا الوسطى، لتجد فرنسا خريطة نفوذها المترامية الأطراف تتحول ضدها.

وعلى الرغم من أن النيجر شهدت أربع ثورات في تأريخها المعاصر منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، إلا أن ثورة 26 يوليو 2023، في النيجر كانت بمثابة الصدمة المروعة والضربة القاصمة لظهر فرنسا ونهاية نفوذ إمبراطورتيها الاستعمارية في القارة الغنية بالثروات.

تمثل النيجر شريان حياة بالنسبة لفرنسا، حيث كان اعتمادها بشكل رئيسي على معادنها مثل اليورانيوم رخيص الثمن لإنارة شوارعها، فضلاً عن استغلالها مناجم الذهب والمشتقات النفطية التي كانت تحصل عليها بأرخص الأثمان.
وعلى الرغم من إظهار باريس الهدوء الظاهري، لكنها في الحقيقة تعيش حالة من الصدمة العنيفة، حيث اقتصر دورها العلني على تكرار دعوات إعادة السلطة المدنية في النيجر، بينما هي تستخدم أساليبها الخفية عبر الضغط على أداتها “إيكواس” وهي المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا التي هي أيضاً رفضت إعلان ثوار النيجر الذي أطاح بالنظام الموالي لباريس مهددة باستخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى منصبه بأي ثمن.. لكن الخبراء لهم رأي آخر، سواء تدخلت “إيكواس” عسكرياً أو فرنسا سياسياً لإفشال ثوره النيجر فأن الأولى قد خرجت من الأخيرة بلا رجعة.

 

القبضة الفرنساوية

ولا تزال فرنسا تمتلك في القارة الافريقية أكثر من 1100 مجموعة استثمارية عملاقه و2100 شركة كبرى، إذ تعد ثالث مستثمر فيها بعد بريطانيا والولايات المتحدة، في حين تبقى مسألة التحرر المالي وفك ارتباط الفرنك الإفريقي من قيود الخزانة الفرنسية، العائق الأبرز لإنهاء النفوذ الفرنسي والذي سيكون باعتماد عملة ال “إيكو” بحلول العام 2027.
وفي رأي خبراء الاقتصاد، فقد ضمنت فرنسا لنفسها موارد مستعمراتها السابقة وسوقاً تجارياً لمنتجاتها بإبرامها اتفاقيات اقتصادية وتجارية وعسكرية مع أنظمة مستعمراتها آنذاك..
إذ يستفيد اقتصاد باريس حتى اليوم من النظام النقدي للفرنك الإفريقي الذي سبق التوقيع عليه عبر اتفاقيات تجارية مقابل استقلالية البلدان الإفريقية.
في المقابل تتحمل اقتصادات الدول الافريقية فوائد لصالح الخزانة الفرنسية وأعباء الديون المالية في ظل وضع اقتصادي ضعيف حُكم عليه مسبقاً.

 

ماتت “فرنسا الإفريقية”

مُنذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون قصر الإليزيه في العام 2017، وانتخابه لولاية ثانية رئيساً لفرنسا، ظهر متقمصاً شخصية مؤسس جمهورية فرنسا الخامسة، شارل ديغول، ومتلهف لاستعادة مكانة فرنسا العظمى، مخاطباً الشعوب الأفريقية بلغة تصالحية دون أن يعتذر عن ماضي بلاده الاستعماري وهو يدرك ثمن فاتورة اعتذاره الباهظة.

وفي مستهل جولته الإفريقية الأخيرة مطلع العام 2023، في مهمة طي صفحة “فرنسا الأفريقية”، وإرساء علاقات قائمة على الشراكات العملية من حماية البيئة وصولا للصحة، أعلن ماكرون رسمياً موت “فرنسا الإفريقية”، قائلاً:” أنتهى عصر فرنسا الإفريقية وأصبحت الآن محاوراً محايداً في القارة السمراء”.

وعن وضع قوات بلاده في القارة السمراء، أضاف ماكرون: “أن الأمر ليس انسحاباً ولا فك ارتباط.. إنها ليست مسألة انسحاب أو فك ارتباط بل هي عملية تكييف عبر إعادة تحديد “احتياجات” الدول الشريكة وتقديم “مزيد من التعاون والتدريب”.

بدورها، أكدت عناوين كبريات الصحف الفرنسية، تصريحات ماكرون، حيث رأت صحيفة لوفيغارو بأن “الدبلوماسية الفرنسية فقدت توازنها في أفريقيا”، في حين أكدت صحيفة لاكروا، أن الركيزة التاريخية لفرنسا في أفريقيا تهتز، ولفتت مجلة لوبوان إلى أن فرنسا لم تفهم عولمة أفريقيا من خلال الثورات.
لوفيغارو الفرنسية، شبهت الربيع الأفريقي، بتعذيب دبلوماسيو فرنسا في حوض الاستحمام، حيث لا يجرؤون إخراج رؤوسهم من الماء إلا بإعلان ثورة جديدة.

 

“الذبابة” الفرنسية

هكذا شبه نائب رئيس الوزراء الإيطالي السابق لويجي دي مايو في العام 2019، قبضة فرنسا الفولاذية على مستعمراتها السابقة في القارة السوداء، بالقول:” “فرنسا ذبابة تمتص إفريقيا”.
المسؤول الإيطالي السابق أعتبر السياسات المالية الاستعمارية لفرنسا في أفريقيا المرتبطة بعملتها، الفرنك، سبباً مباشراً في إفقار دولها وهروب شعوبها إلى اللجوء إلى أوروبا.
عموما، لن تتوقف فرنسا في حلب ضرع البقرة السوداء بصورة مباشرة أو غير مباشرة والأمر مرهون على التوجهات المستقبلية للأنظمة الثورية الجديدة المناهضة لها، فهي من سيقرر قطع الحبل السري المغذي خزانه قصر الاليزيه أو إبقائه.