السياسية:

أفرزت نتائج الهجوم الأوكراني المضاد أعباء جديدة على الولايات المتحدة، التي تشهد تراجعاً في موقعها العالمي، رغم أنها مازالت القوة الأكبر في العالم، فعدد المتمرّدين عليها يزداد باضطراد، كتعبير عن عدم قدرتها على ضبط إيقاع السياسات العالمية، وهي تعتبر أن حياد الدول في حربها مع روسيا في أوكرانيا، بمثابة اصطفاف مع روسيا والصين، وهي الدول الأغلبية من حيث العدد، فكيف هو وضع الدول التي أعلنت اصطفافها المباشر مع خصومها وأعدائها الآسيويين.

لم تتوقّف ساحات المواجهة في سوريا وأوكرانيا فقط، بل أخذت بعداً جديداً نحو القارة الإفريقية، خاصةً بعد الانقلاب العسكري في النيجر، الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم، المنتمي من الناحية العملية للتيار السياسي الموالي للسياسات الفرنسية، الذي صنَّعته قبل وبعد استقلال النيجر، لاستمرار الهيمنة الفرنسية على الموارد النووية، من دون ضوابط للاتفاق والأسعار وحجم الإنتاج وحصة أهل النيجر منها.

كان الاهتمام الغربي الكبير بانقلاب النيجر واضحاً بشدة، كتعبير عن حجم المأزق الكبير، بافتتاح جبهة ساخنة جديدة، والانتقال نحو محاصرة دول الاتحاد الأوروبي، التي لا تمتلك من قرارها شيئاً إزاء الصراع الدولي، بعد سيطرة الإدارات الأمريكية المتلاحقة على القرار السياسي الأوروبي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

أهمية النيجر الاقتصادية

تعد النيجر ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية عسكرية بالغة لفرنسا، كما أنها آخر معقل لقواتها بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو. وهذا ما يدفع للتساؤل حول ما بقي لباريس من رهانات في النيجر، وهل يمكن الحديث عن نهاية النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي؟
منذ أول أيام المحاولة الانقلابية، لم تُضِع باريس وقتًا في التعبير عن امتعاضها من الأحداث.
وأعلنت الحكومة الفرنسية، على لسان وزيرة الخارجية كاثرين كولونا، إدانتها الشديدة “لأي محاولة للاستيلاء على السلطة باستعمال القوة”، وتضم صوتها إلى “الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في دعوتهما لاستعادة وحدة المؤسسات الديمقراطية النيجرية”.
وأعلنت الخارجية الفرنسية صراحة، أن باريس لن تعترف بـ”المجلس الوطني لحماية الوطن” في نيامي، سلطة شرعية للبلاد. واعتبر ماكرون في تصريحاته أن: “هذا الانقلاب غير شرعي بتاتاً وخطير للغاية، على النيجريين والنيجر والمنطقة بأسرها”.
ومن ناحية أخرى خرجت مظاهرات في العاصمة النيجرية نيامي تطالب بالقطيعة مع فرنسا وجلاء قواتها من أراضي البلاد. كما هاجم متظاهرون السفارة الفرنسية، وأضرموا النار في مدخلها الرئيس. وفي ظل هذه الأحداث، تخشى باريس ضياع آخر حلفائها في منطقة الساحل، بعد القطيعة مع مالي بعد تدهور العلاقات مع المجلس العسكري الحاكم هناك، وطردها من بوركينا فاسو من الجنود الذين استولوا على الحكم إثر انقلاب عام 2022.

عسكرياً واستراتيجياً، شكلت النيجر نقطة ارتكاز هامة للقوات الفرنسية في الساحل، والمعقل الوحيد لتلك القوات بعد انسحابها من مالي وبوركينا فاسو عقب إنهاء عمليتي “بارخان” و”سابر”. وتحتفظ باريس إلى اليوم بما يقدر بـ1500 جندي داخل الأراضي النيجرية، إضافة إلى قاعدتين عسكريتين، أبرزهما قاعدة نيامي الجوية.
بينما هذه الأهمية تتضاعف في شكلها الاقتصادي، إذ قُدر التبادل التجاري بين البلدين بـ2.8 مليار يورو فقط في النصف الأول من عام 2022، إذ بلغت الصادرات الفرنسية نحو النيجر قرابة 314 مليون يورو فقط. بينما البقية تمثل ما استوردته باريس من البلد الإفريقي موارد طاقة. وحسب الأرقام ذاتها الواردة عن وزارة المالية الفرنسية، فإن واردات البلاد من البترول النيجري ارتفعت إلى 130% خلال الأشهر الستة الأولى من 2022، جراء الحرب في أوكرانيا. وتعد النيجر أحد البلدان الإفريقية الغنية بالبترول والغاز الطبيعي، إذ يقدر احتياطيها النفطي 953 مليون برميل، والغازي بـ24 مليار متر مكعب.

لكن ليس البترول المصدر الطاقي الوحيد الذي تستورده فرنسا من النيجر، بل أهم من ذلك يأتي اليورانيوم النيجري الذي يعد ركيزة البرنامج النووي الفرنسي…! تستورد فرنسا قرابة سبعة آلاف طن من اليورانيوم سنوياً، أي أن 35% منها تأتي من النيجر، وبهذا يكون البلد الإفريقي أكبر مصدر لليورانيوم نحو باريس. وتستولي شركات فرنسية، أبرزها شركة “أورانو”، على يورانيوم النيجر، رابع منتج لهذه المادة عالمياً، بمعية وارداتها من كندا وكازاخستان وأوزباكستان، لتلبية نحو 75% من احتياجات فرنسا من الطاقة الكهربائية النووية.

انقلابات منطقة الساحل

عرفت منطقة الساحل والصحراء خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما يُقدر بـ8 انقلابات على الأقل، في مالي وبوركينا فاسو، وفي غينيا وتشاد، فيما معظم هذه الانقلابات تصب ضد مصالح فرنسا في المنطقة، التي كانت حتى وقت قريب تعدها باريس منطقة نفوذ حصرية لها، عبر شبكة شركاتها التي تعمل هناك في قطاعات متعددة، على رأسها التعدين واستخراج النفط. فالوجود العسكري الفرنسي هناك منذ 2013، عبر كل من عمليتي “بارخان” و”سابر”.

في أغسطس/آب 2022، سُحب آخر جندي فرنسي من مالي، فيما استمرت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في التدهور، وفي بوركينا فاسو هي الأخرى، طلبت السلطات العسكرية من فرنسا سحب جنودها من البلاد، لتعلن بعدها إنهاء عملية “سابر” التي كانت تقودها القوات الفرنسية هناك. وحسب إيفان جويشاوا، أستاذ الأبحاث في مدرسة بروكسل للدراسات الدولية، فإنه: “في مالي، استمر تدهور العلاقات مع فرنسا عدة أشهر، بداية من يوليو/تموز 2021 على خلفية المفاوضات بين المجلس العسكري المالي ومجموعة “فاغنر” الروسية، لتتوج بإقالة السفير الفرنسي المعلن في 31 يناير/كانون الثاني 2022، وفي بوركينا فاسو سارت الأمور بشكل أسرع”، إلى الاندحار الكبير الذي شهدته فرنسا في إدارتها الأحداث، إلا أنه “في كلتا الحالتين، تركت الأحداث فرنسا وراءها في حالة من الذهول”.

يقول المحلل السياسي غازي معلي: خسارة كبيرة مني بها النفوذ الفرنسي في الساحل، حيث أصبحت فرنسا الآن في ضعف كبير جداً، وهي تفقد مناطق نفوذ مهمة جداً في إفريقيا، خاصة في منطقة الساحل، إذ كانت مالي أول نقطة تفقدها فرنسا”.
وأضاف المحلل شارحاً قوله: “يعود ذلك إلى أسباب عديدة أهمها إدارة الأزمة في مالي التي كانت سيئة جداً، بالإضافة إلى تدخل ”فاغنر”. فالروس كان لهم تأثير كبير في إخراج الفرنسيين من المنطقة، ولا ننسى أيضاً حتى حلفاء فرنسا كالناتو، إذ لم يساعدوا فرنسا كثيراً على البقاء، وكأنهم عجلوا برحيلها. بالإضافة إلى الإرث الاستعماري وعدم مراجعة فرنسا لبعض أساليب العمل والتعامل مع الأفارقة”.
وكانت جريدة “ليبراسيون” الفرنسية، في تقرير لها قد أشارت إلى مسؤولية هذا الضعف للإدارة السيئة للرئيس ماكرون. وقالت الصحيفة إن “الانقلاب في النيجر يقدم توضيحاً إضافياً لتدهور العلاقات بين باريس ودول غرب إفريقيا”، وبالرغم من مساعيه لتغيير صورة البلاد في إفريقيا لم يحصد ماكرون سوى النكسات الدبلوماسية.

هجوم محتمل

بحث قادة عسكريون في النيجر ومالي وبوركينا فاسو في العاصمة نيامي الاستعدادات المطلوبة للتصدي للتحرك العسكري المحتمل المدعوم غربيا ضد النيجر من جانب قوات مجموعة “إيكواس”.
وقال تليفزيون النيجر أن السلطات في مالي وبوركينا فاسو ارسلت معدات عسكرية من بينها طائرات ومروحيات لنيامي، مؤكدا أن الخطوة تأتي تجسيدا عن وعود قطعتها مالي وبوركينا فاسو بشأن التصديق العسكري. وفي سياق ذلك تفيد تقارير مراسلين ميدانيين بأن وزارة دفاع جيش النيجر بدأت بتسجيل المتطوعين للدفاع عن بلدهم ضد عدوان التدخل العسكري لدول غرب إفريقيا.

وإلى ذلك بحث رئيس وزراء النيجر “علي الأمين زين” المكلف من قبل المجلس العسكري مع الممثل الأممي في غرب إفريقيا والساحل سبل الخروج من الأزمة الراهنة.
هذا وكان مفوض السلم والأمن في “إيكواس” عبد الفتاح موسى أعلن أن دول المجموعة التي اتفقت على متطلبات العمل العسكري في النيجر، ورفض موسى في ختام اجتماع غانا إعطاء جدول زمني حول نشر قوات احتياطية، وقال :” قواتنا جاهزة لدخول النيجر في الوقت الذي يصدر الأمر بذلك، وأضاف” لقد حددنا توقيت بدء العمل العسكري، لكننا لن نكشف عن ذلك الآن، وبناء عليه لن تكون هناك اجتماعات جديدة لقادة أركان جيوش إيكواس، ومع ذلك سيتم إرسال بعثة إلى النيجر لمواصلة المساعي لحل الأزمة دبلوماسيا واستعادة الوضع الدستوري”.
وأضاف ” في اعتقادي لا يجب تركيز الاهتمام على الجانب العسكري فقط، وقال ” بالتأكيد نحن مستعدون للحل السلمي، لكن هذا مرهون بتعاون الطرف الآخر”.
إلى ذلك أكد وزير دفاع بوركينا فاسو أن بلاده على استعداد لدعم النيجر في مواجهة التدخل العسكري لمجموعة “إيكواس” محذرا من تزايد نشاط الجماعات الإرهابية بالمنطقة، وإغراق النيجر في الفوضى”.
وقال وزير دفاع بوركينا فاسو ” نحن جاهزون لدعم النيجر، مثلما صرحنا من قبل، وأن بوركينا فاسو مستعدة للانسحاب من مجموعة إيكواس، لأن سياستها تجاه النيجر غير منطقية، ومن غير اللائق وضع المصالح الشخصية في المقدمة، وأضاف “أعتقد أنه يجب التفكير في مصالح المنطقة ككل”.

* المصدر: موقع عرب جورنال
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر