أثر عملية محمد صلاح على توسيع الصراع مع كيان “إسرائيل”
وسام أبو شمالة*
مرّت القضية الفلسطينية بعدد لا يحصى من التحوّلات، لا يخلو عدد منها من حقب سوداء، ظنّ فيها عدو الأمة كيان “إسرائيل” أنه اقترب من حسم الصراع لصالحه، مستلهماً فكرة المفكّر السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي دفعته النشوة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي لإصدار كتاب بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، أشار في مضمونه إلى أنه بانتصار الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة “أطلق عليها الليبرالية الحديثة”، على الاتحاد السوفياتي والحلف الشرقي، ينتهي التاريخ الذي لن يشهد قوة تتحدّى أميركا والغرب “أطلق عليها عولمة الديمقراطية والليبرالية”، الأمر الذي سيفضي لهيمنة أميركية مطلقة على العالم ستبقى إلى الأبد.
وكما سقطت نظرية فوكوياما، ولم ينتهِ التاريخ ولم تكتب الولايات المتحدة وحلفاؤها السطر الأخير منه، في ضوء تراجع الهيمنة الأميركية وصعود الصين وقوى دولية وإقليمية أخرى، ونشوء تحالفات جديدة طامحة لكسر التفرّد الأميركي، حتى لو بثمن الحرب في قلب أوروبا، على غرار الحرب في أوكرانيا، ها هي فكرة نهاية الصراع باتت من أحلام الماضي لـ كيان “إسرائيل”، والتي استبدلت بكوابيس الحاضر وهواجس المستقبل، وأضحت مفاعيل الصراع لا تفارق العدو صباح مساء، كما لا تفارق مناوراته العسكرية سماء فلسطين.
إنّ مراحل التسوية والتطبيع التي انطلقت منذ اتفاقية كامب ديفيد في سبعينيات القرن الماضي مروراً بأوسلو ووادي عربة في أواخره، فالاتفاقيات الإبراهيمية قبل بضع سنين، برّرها أطرافها من العرب، بأن التعامل مع كيان “إسرائيل” بات ضرورة ملحّة في ظل حالة الخلل الاستراتيجي والأمني معها.
إلاّ أنّ مبرّرات النظام العربي الرسمي، لم تجد آذاناً صاغية من القاعدة الشعبية، ولم تفلح كل محاولات “إسرائيل”، وأنظمة التطبيع في تدجين الوعي العربي، فكانت قضية فلسطين على الدوام، محوراً أساسياً في الوعي العربي والإسلامي الجمعي.
وقد تحوّل الكيان الصهيوني إلى بؤرة كراهية لغالبية العرب والمسلمين وشرائح تتزايد كلّ يوم من أحرار العالم، بينما انغرست فلسطين بقدسها وأقصاها وأبطالها وشهدائها، في ضمير الأمم والشعوب الحرة، ولا سيما جيل الشباب، ولا أدل على ذلك من تلك الشعارات والهتافات التي تُرفع في ملاعب كرة القدم، والتي لم تبدأ مع مونديال كأس العالم الأخير في قطر، ولن تنتهي في مباراة الأهلي المصري والوداد المغربي قبل أيام، عندما صدحت الحناجر “بالروح بالدم نفديك يا فلسطين”.
لم تكتفِ الشعوب بالتعبير عن تضامنها مع فلسطين ورفضها للتطبيع مع العدو، عبر الهتافات والشعارات و”الترندات” في وسائل التواصل الاجتماعي، على أهميتها، بل كشفت العملية الفدائية للشهيد المصري البطل محمد صلاح، المجنّد في الجيش، وحالة التضامن والتأييد الشعبي الواسعة لما أقدم عليه، عن مخزون ثوري شعبي هائل مستعد لتقديم ما هو أكثر من الهتاف والشعار والمنشور التفاعلي، ليس في أوساط الجمهور المدني، بل حتى داخل أفراد المؤسستين العسكرية والأمنية، الأمر الذي سينعكس على طبيعة الصراع مع العدو في المستقبل.
إنّ عملية الشهيد محمد صلاح، جاءت في توقيت قيام العدو بتنفيذ مناورة واسعة تحت عنوان “اللكمة القاضية”، حاكت سيناريو الحرب على جبهات متعددة، وأحد أبرز أهدافها ترميم الردع الذي تأكّل على مختلف الجبهات، فإذا بعملية صلاح تحدث اهتزازاً عميقاً للصورة التي سعى العدو لتصديرها عبر المناورات، وهي القدرة على المبادرة والإحباط والقدرة الاستخبارية والجوية والتكنولوجية، إلى جانب استعادة بعض الثقة المهتزّة بقدرات سلاح البر.
إنّ عملية جندي واحد مسلح ببندقية واحدة قديمة تمكّن من اختراق الحدود مع فلسطين المحتلة واجتياز نحو 5 كلم مشياً على الأقدام وقتل مجنّدين محصّنين في برج عسكري، ثم الاشتباك بعد ساعات مع قوة من سلاح البر محمولة على دبابات المركافاة “فخر صناعات العدو” وبغطاء جوي، فيقتل جندياً ويصيب آخرين، الأمر الذي يعني شيئاً واحداً، أن الصورة التي بنتها كيان “إسرائيل” لجيشها وجنودها، هدمت أمام مجنّد وحيد، خطّط ونفّذ عمليته منفرداً.
هو شاب لم يتجاوز الـ 22 عاماً، ولم يخض حروباً أو مواجهات عسكرية سابقة، ولم يتخرّج من كلية حربية، ولم يشارك في مناورات عسكرية، على شاكلة “اللكمة القاضية”، وإنما امتلك الإرادة والدافعية للقتال ضد “إسرائيل” التي تحتل أرضاً عربية وتنتهك حرمات قبلة المسلمين الأولى صباح مساء ولم تُجدِ معها مشاريع السلام والتطبيع.
إنّ آثار عملية صلاح لن تنتهي باستشهاده، لأن حالة الإلهام ستترك بصماتها في وعي آلاف الجنود المصريين والأردنيين واللبنانيين والسوريين، والعرب والمسلمين، سواء القريبون من الحدود مع فلسطين المحتلة، الذين يرون بأم أعينهم جنود العدو وهم يتراقصون على جراح وأشلاء إخوانهم في فلسطين، أو البعيدون الذين تهتز مشاعرهم مع كل صيحة لامرأة مرابطة في باحات الأقصى تعرّضت لاعتداء مستوطن أو جندي أو وزير صهيوني غاصب بعد أن حاولت أن تثنيهم عن تدنيس الحرم القدسي الشريف.
كما أنّ حالة الفخر والاعتزاز بصنيع صلاح في أوساط الرأي العام، ستدفع أبطالاً من غير المجنّدين، لاستهداف مصالح العدو في بلدانهم، ولن تكتفي الشعوب الحرة برفض التطبيع والدعوة لمقاطعة العدو على أهمية تلك الدعوات، إلا أنّ ظاهرة محمد صلاح ستنتشر وتتمدّد وستجد لها مريدين سيقتدون بفعله، حتى يشعر كل مستوطن أو مسؤول صهيوني بالخطر على حياته في حال وطئت قدماه أرضاً عربية أو إسلامية، وربما نشهد حالات اندفاع لمواطنين على حدود فلسطين المحتلة ومحاولات اختراق للحدود والاشتباك مع جنود العدو، كما حدث مؤخراً على الحدود اللبنانية الفلسطينية المحتلة.
إنّ تحول محمد صلاح إلى ظاهرة ستعقّد خطط العدو الذي يعترف بأنه يخشى من مواجهة متعددة الساحات، إلا أنه لم ترد في حساباته، مواجهات على الحدود مع مصر والأردن أو في العمق مع دول أخرى، وفي حال تكررت العملية على إحدى الجبهات، فستتحوّل هواجس العدو ومخاوفه إلى واقع مرير لن يقوى على مواجهته.
إنّ نجاح حالة محمد صلاح في التحوّل إلى ظاهرة، أمر ممكن وليس مستبعداً، في ضوء كونه شاباً عادياً غير “مؤدلج”، ولا يمكن العمل على شيطنته بوصمه بالانتماء لأحد التنظيمات، فهو تصرّف بدافع قومي ووطني، الأمر الذي قد يدفع آخرين للاقتداء به باعتباره ملهما لهم.
إنّ حالة الفخر والتمجيد العارم بفعله ونجاح عمليته، ستحوّله إلى رمز، سيقتدي به شباب آخرون، كما أن اهتزاز الصورة النمطية عن جنود العدو، من جهة، واستمرار عدوانهم على الشعب الفلسطيني ومقدسات العرب والمسلمين من جهة أخرى، ستعزّز دوافع الانتقام من العدو والانتصار لفلسطين وقضيتها العادلة على نحو سيؤدي إلى توسيع دائرة الصراع مع العدو.
* المصدر: موقع الميادين
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع