ماذا يعني انتصار روسيا في باخموت؟ وما مسار المعركة المقبلة؟
بعد نحو سبعة أشهر من المعارك في مدينة "باخموت"، قائد مجموعة "فاغنر" يعلن السيطرة الكاملة على المدينة، والرئيس الأوكراني يؤكد قائلاً: "اليوم هي فقط في قلوبنا.. لم يتبق شيء".. ما الأهمية الاستراتيجية للسيطرة على باخموت؟ وما مسار المعركة القادمة؟
السياسية-متابعات:
بعد 224 يوماً من القتال، سيطرت قوات “فاغنر” الروسية بقيادة، يفغيني بريغوجين، على الجزء الأخير من مدينة باخموت (أرتيوموفسك) في جمهورية دونيتسك، غربي دونباس، المعروفة بمنطقة المباني الشاهقة، أو نصب “الطائرة”، وفق ما أكدت وزارة الدفاع الروسية.
باخموت بقيت في قلب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وفق تعبيره، الذي أكد سقوطها قائلاً: “اليوم هي فقط في قلوبنا.. لم يتبق شيء”. فماذا تعني السيطرة على باخموت من الناحية العسكرية والسياسية بالنسبة إلى روسيا؟ وماذا بعد؟
الأهمية العسكرية للسيطرة على باخموت
تكمن الأهمية الاستراتيجية لمدينة باخموت في كونها مركزاً لوجستياً استراتيجياً لإمداد قوات كييف على جبهة جمهورية دونيتسك، التي يواصل الجيش الروسي تحريرها.
الخبير الاستراتيجي والعسكري العميد المتقاعد شارل أبي نادر في حديثه إلى الميادين نت، قال إنّ ” لباخموت أهمية سياسية وعسكرية واستراتيجية”.
فمن الناحية العسكرية يقول الخبير العسكري إنّ “باخموت تقع في منتصف جبهة دونباس، أي جبهة أوكرانيا الشرقية على الحدود مع دونباس بين خاركييف وبحر آزوف، والسيطرة عليها تعني أنها ستقسم جبهة الدفاع الأوكرانية إلى قسمين، وهذه نقطة عسكرية مهمة بالنسبة إلى الروس”.
أمّا من الناحية السياسية والاستراتيجية، فيقول شارل أبي نادر إنّها “متداخلة مع بعضها البعض، لأن الأوكران والغرب أعطوها أهمية. وفي المقابل، أصرّ الروس عليها. وطبعاً، إنّ إطالة المعركة فيها والجهود التي بذلها الأوكرانيون، والخسائر التي منيوا بها جعلتها نقطة ارتكاز قوية، وكأنها أصبحت معركة كسر عظم في المواجهة بين الطرفين”.
ويتابع أنّ أهميتها الاستراتيجية تكمن في السؤال التالي: ماذا يريد الروس من باخموت؟ هل توسيع معركتهم هناك؟
موقع باخموت الجغرافي
تقع باخموت جنوب شرق كراماتورسك، وهي مركز إقليمي رئيسي ومركز إداري في إقليم دونباس، وتضم منطقتي دونيتسك ولوغانسك. اشتهرت هذه المدينة الصناعية، بمناجم الملح والجبس، بيد أنها اكتسبت أهمية رمزية بسبب طول مدّة وضراوة المعارك فيها وحولها، حيث دمّرت أجزاء كبيرة منها بفعل القصف، كما كانت القوات الأوكرانية تستخدمها كقاعدة لإطلاق قذائفها المدفعية نحو سكان دونباس. وهو ما جعل المعركة في هذه المدينة توصف بـ”حرب الاستنزاف” الطاحنة، وفقاً لصحيفة ” واشنطن بوست”.
باخموت بالنسبة إلى الأوكرانيين هي عقدة مواصلات إستراتيجية تبعد 65 كيلومتراً شمال مدينة دونيتسك، المركز الإداري للمقاطعة ونحو 600 كيلومتر عن العاصمة كييف، وتشكل حصناً للدفاع عن باقي مدن منطقة المقاطعة.
وعلى الرغم من أنّ أوكرانيا وضعت دفاعاً صارماً حولها، فقد حققت القوات الروسية في الأسابيع الأخيرة مكاسب لافتة. وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، كان القادة الأوكرانيون يريدون الصمود خلال معركة باخموت، لأطول فترة ممكنة، لإضعاف القوات الروسيةـ، حتى لو لم يتمكنوا في النهاية من منع إسقاطها.
في المقابل، كانت القوات الروسية أكثر إلحاحاً، لأنها ستجعل من المستحيل إعادة إمداد المقاتلين الأوكرانيين من باخموت ومحيطها.
وقد أصبحت لباخموت أهمية أخرى بالنسبة إلى روسيا، إذ باتت البوابة شبه الوحيدة لتقدم القوات الروسية في دونيتسك، والسيطرة عليها يعني فتح الطريق أمامها نحو مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك، وهما من المدن الرئيسية في مقاطعة دونيتسك، التي تشكل مع مقاطعة لوغانسك المجاورة إقليم دونباس، الحوض الصناعي الكبير في أوكرانيا.
منذ الصيف الماضي، شهدت باخموت قتالاً هو الأعنف، حتى أطلق قادة عسكريون على المعركة اسم “مفرمة اللحم”، منذ أن بدأت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022.
خسرت القوات المسلَّحة الأوكرانية في هذه المعركة ما يتجاوز الـ30 ألف عسكري أوكراني، معظمهم من الجنود والضباط الأوكرانيين المدربين تدريباً جيداً، بمن فيهم جنود من قوات العمليات الخاصة، ومقاتلون أجانب، وفق ما تحدثت تقارير إعلامية، من أصل 130 ألف عسكري خسرتهم أوكرانيا بسبب القتل أو الإصابة منذ بداية العملية العسكرية الروسية، وفق ما كشفت وثائق البنتاغون المسربة.
ونتيجة للخسائر الأوكرانية، برزت المخاوف الأميركية – الأوروبية من أن تستنفد هذه الجبهة القوات الأوكرانية وتمهّد للروس هجومهم المرتقب في الصيف، وهو ما برز بشكل جلي خلال مطالبة الإدارة الأميركية لأوكرانيا الانسحاب من المدينة وتسليمها.
وزارة الدفاع الروسية قالت إنّ القوات الأوكرانية بذلت محاولات كبيرة وحثيثة لاختراق دفاعاتها في مدينة باخموت، وأنها في بعض الأحيان كانت تعمد إلى تفجير المباني السكنية خلال الانكفاء والانسحاب إلى الخطوط الخلفية، وهو ما يكشف حجم الخسارة التي منيت بها أوكرانيا، نظراً لما كانت تمثله باخموت من أهمية لها.
ماذا بعد باخموت؟
الخبير الاستراتيجي والعسكري شارل أبي نادر قال،إنه “بعد السيطرة على باخموت هناك ثلاثة احتمالات، وهي ترتبط بماذا سوف تقرر القيادة الروسية، هل ستكمل المعركة أم أنها ستعيد الانتشار والتنظيم، أم ستنتظر المناورة السياسية أم المبادرة الصينية، وكل هذه الاحتمالات تبقى واردة”.
وبحسب أبي نادر، إذا أرادت موسكو إكمال معركة عسكرية انطلاقاً من باخموت، فهناك إمكانية لثلاثة محاور للتقدم، وهي كلها مدن ومناطق مهمة. أولاً شمالاً، في اتجاه سلوفيانسك وكراماتورسك، ومدينتين تابعتين للدونباس، وهي مهمة أيضاً في حوض الدونباس الشرقي. والمحور الثاني غرباً في اتجاه العمق، أي في اتجاه مدينة دنيبرو أو نهر دنيبرو. وثالثاً جنوباً، في اتجاه أفيديسكا، ولاحقاً مناطق قريبة من زاباروجيا.
السيطرة على باخموت وفق الروس، ستكون خطوة نحو التقدم في بقية منطقة دونباس المحيطة، في مقابل ذلك تحاول أوكرانيا التقليل من هزيمتها بالادعاء أنّ “القيمة الاستراتيجية للمدينة ليست مرتفعة”.
ومن شأن النصر في باخموت، أن يمنح روسيا أول تقدم كبير في هجوم شتوي، بعد أن استدعت مئات الآلاف من قوات الاحتياط في العام الماضي. وداخل روسيا، يمكن أن يوفر هذا الانتصار دفعة لمكانة مجموعة “فاغنر”.
ويقول محللون عسكريون لصحيفة “نيويورك تايمز”، إنّ “موسكو ستكافح على الأرجح لاستخدام باخموت كنقطة انطلاق للسيطرة على المنطقة”، وسقوط باخموت سيفتح الطريق أمام القوات الروسية لشنّ هجمات على المراكز الاستراتيجية في سلوفيانسك وكراماتورسك،أي في الأجزاء التي تسيطر عليها أوكرانيا في دونباس.
وتأتي السيطرة على باخموت، مع اجتماع دول ” مجموعة السبع”، وإعلان الرئيس الأميركي جو بايدن إرسال حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا، في ظل موافقة أميركية على قيام دولة ثالثة بتسليم طائرات “أف 16” المقاتلة الأميركية الصنع إلى أوكرانيا، وإعلان بريطانيا وهولندا إطلاق “تحالف دولي” للمساعدة في شراء مقاتلة من طراز “أف 16″ لأوكرانيا. إلا أنّ ذلك لن يؤثر في سير المعارك، فبحسب أبي نادر” يتطلب تدريب القوات الجوية الأوكرانية على هذه الطائرة فترة أربعة أشهر، وهي طبعاً فترة غير قصيرة، ناهيك بأنّ قاذفات (أف – 16) تحتاج إلى مطارات مجهزة غير تقليدية مثل التي في أوكرانيا، وهنا ستكون السيطرة حالياً للروس داخل الأراضي الأوكرانية، نظراً لما تملكه من قاذفات استراتيجية مثل قاذفات “سو 35” أو الصواريخ النوعية “كينغال” و”سارمات”، وبالطبع لن تقبل روسيا أن تكون هناك مطارات داخل أوكرانيا تنطلق منها قاذفات (أف – 16)”. وفق أبي نادر.
من الناحية الأخرى، فإنه من المستحيل أن تسمح الدول الغربية التي ستسلّم أوكرانيا “أف -16” أن تستعمل الأخيرة مطاراتها داخل دول “الناتو”، وفق ما يؤكد أبي نادر، لأنّ هذا الموضوع سيكون محظوراً، وهو يعني دخول “الناتو” مباشرة في هذه الحرب. وحتى الآن لا يوجد قرار بهذا الخصوص من الأطراف كافةً، كما لا يوجد أيضاً إمكانية لأن تستعمل هذه القاذفات من حاملات طائرات “الناتو” في بحر البلطيق أو الأسود أو البحر المتوسط.
ويختم الخبير العسكري والاستراتيجي أبي نادر مؤكداً للميادين نت، أنّ هذا الموضوع حتى الآن يحمل فقط نقاط تهويل وضغطاً سياسياً واستراتيجياً على روسيا، أكثر ما هو عملي. ولكن ربما مع الوقت، قد يدفع الغرب في اتجاه تطوير وتصعيد المواجهة مع روسيا.
المصدر : الميادين
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر