من اليمن إلى فلسطين: عهد الأحرار باقٍ
علي ظافر*
بكل اهتمام، بكل ألم وبكل فخر، تابع اليمنيون في كل المستويات الرسمية والشعبية والحزبية يوميات “ثأر الأحرار”، نظراً إلى ما تحتله القضية الفلسطينية في ضمير كل يمني حر ووجدانه. وكان الألم أن العدو ظن أن في مقدوره الاستفراد بفصيل جهادي مقاوم من خلال عمليات الاغتيال الجبانة لعدد من القيادات العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، واستهداف منازل المواطنين الفلسطينيين، لكن اليمنيين كانوا فخورين جداً بوحدة الفصائل الفلسطينية ضمن غرفة العمليات المشتركة، وفخورين برد المقاومة وإدارتها المعركة بكل حنكة واحترافية وحكمة وهدوء، بحيث استطاعت ترميم بنيتها القيادية في ظرف حاسم وحرج، وكانوا فخورين وهم يرون الصواريخ تنهمر على القدس المحتلة و”تل أبيب” وكثير من المدن المحتلة والمستوطنات، وفخورين أيضاً وهم يرون الصهاينة في حالة رعب شديد في الشوارع والطرقات والملاجئ.
وفي المقلب الآخر، كانت وسائل الإعلام اليمنية تعطي الأولوية والأفضلية للملف الفلسطيني في نشراتها وتغطياتها الإخبارية والبرامجية، وهو أمر انتقده البعض، ورأوا أن الإعلام اليمني الوطني تجاهل القضايا الوطنية لمصلحة القضية الفلسطينية.
النقطة الأهم أن القيادة اليمنية كانت تتابع من كثب سير العمليات، وكانت على تواصل مع قيادات المقاومة، وكانت مستعدة للقيام بأي دور يُطلب إليها وتطلبه المسؤوليات الدينية والأخلاقية والإنسانية والسياسية ضمن الغرفة المشتركة لمحور المقاومة.
في مسيرات مليونية: اليمن يبارك انتصار غزة
توّج اليمنيون هذه العلاقة الوجدانية المتجذرة في مسيرات مليونية في العاصمة صنعاء وعموم المحافظات اليمنية، يوم الأحد الماضي، في ترجمة واضحة تعكس اهتمام اليمنيين بالقضية الفلسطينية، “من موقع الإيمان بالقضية الواحدة الجامعة لكل أحرار الأمة”، وفق ما جاء في بيان المسيرات.
ورأوا أن العدو فشل في “ترميم تأكُّل الردع”، وفشل أيضاً في “كسر إرادة حركة الجهاد الإٍسلامي وسرايا القدس وسائر حركات المقاومة”، كما أشادوا بدور المجاهدين في غرفة العمليات المشتركة في إدارة المعركة، وشلّ “الحركة العامة في مستوطنات الاحتلال، وبث الرعب والهلع لدى مستوطنيه طوال خمسة أيام من المواجهة”، الأمر الذي دفع العدو إلى البحث عن وساطات ووسطاء “مهزوماً أمام صمود الشعب الفلسطيني العزيز وثباته وحركات المقاومة في غزة”، ورأوا أن “اغتيال القادة لن يكسر إرادة حركات المقاومة في فلسطين وعلى امتداد محور المقاومة”. والأهم من ذلك تأكيد الملايين أن الشعب اليمني سيبقى وفياً وداعماً لشعب فلسطين، ومستنفراً شعبياً وعسكرياً للحضور في أي مرحلة من مراحل الصراع للمشاركة الفعلية والمباشرة، كالتزام ديني والتزام أخلاقي تجاه قضيتنا المقدسة.
ما أهمية الموقف اليمني؟
يأتي الموقف اليمني في مرحلة لا تزال الأمور فيها مرشحة للعودة إلى دورة مواجهات جديدة – ربما -لحسم المراوحة القائمة في عدم التوصل إلى نتيجة يبنى عليها كخلاصة لمفاوضات رمضان بين صنعاء والرياض، وتأجيل مفاوضات الأسرى التي كانت مقرَّرة منتصف مايو، وبالنظر إلى التصريحات السلبية التي أطلقتها دبلوماسية رباعية العدوان، بما فيها سفير السعودية محمد آل جابر، الذي خرج إلى الحديث عن ضبابية في الخطوات المقبلة، بعد أن كان مؤمَّلاً أن تخرج السعودية عن الضبابية عبر رد إيجابي بشأن طروحات صنعاء، بعيداً عن التبعية العمياء للولايات المتحدة الأميركية التي تعزز حضورها العسكري، جنوباً وشرقاً، وتدفع عبر الإمارات لتكريس مشاريع الانقسام والانفصال كما حدث مؤخراً في عدن.
بعيداً عن ذلك، وبينما تدرس صنعاء موقفاً بشأن هذه المؤشرات السلبية، عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، خرج الملايين في العاصمة وكل المحافظات الواقعة تحت سيطرة المجلس السياسي الأعلى، حاملين لواء فلسطين، مناصرةً ومباركة، في دلالة واضحة على أن فلسطين وقضيتها تحتلان الصدارة في سلّم أولويات القيادة والشعب، وهو أمر لا يختلف فيه اثنان، إذ أثبتته التجربة خلال ثمانية أعوام من العدوان والحصار المفروضين على اليمن من جانب دول التطبيع. كما أن هذا الحضور وهذا التفاعل المتميزين في اليمن يعطيان أملاً، مفاده أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة بقوة في الوجدان الشعبي، عربياً وإسلامياً، لولا التكبيل الرسمي العربي لإرادة الشعوب، والعمل المنظم على محاولة محوها والتقليل منها في الاهتمام الشعبي العام بالقضية، وخصوصاً خلال الأعوام الأخيرة، وهي أعوام الفرز، وكشف الحقائق، والهرولة، علناً وسِرّاً، إلى التطبيع مع العدو الصهيوني وكيانه الموقت.
تأتي قيمة هذا الخروج المليوني من أنه جاء في زمن الهرولة والتراجع لدى الكثيرين، إذ نلحظ تشبث اليمنيين بالقضية الفلسطينية ودعمها عبر الموقف والكلمة والمال، بل يستعد اليمنيون لتقاسم كسرة الخبز. وهذه المواقف ليست من قبيل الدعاية والمزايدة وإسقاط الواجب، بل لها خلفياته الدينية والسياسية والإنسانية والأخلاقية. فمن الناحية الدينية، يرى اليمنيون أن هذه المواقف واجب، دينياً وأخلاقياً وإنسانياً، وموقف مبدئي، كما يؤكد ذلك السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في كل خطاباته. والمظاهرات، بما أنها فعل شعبي رسمي، فهي تندرج ضمن المواقف العملية بعيداً عن بيانات التنديد والشجب والإدانة، التي لم تغير واقعاً، ولم تدفع شراً عن فلسطين وأهلها.
الخلفية الثانية، في اعتقادي، هي أن هناك كثيراً من المشتركات التي تجمع اليمن وفلسطين، سواء في المظلومية، أو في الانتصار، أو في الولاء والعداء. فالذين يعتدون على فلسطين ويتآمرون عليها، هم أنفسهم من يعتدي على اليمن ويتآمر عليها.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن اليمنيين، وخصوصاً على المستوى القيادي، يطمحون إلى ما هو أكبر من المسيرات والدعم المالي، وإن كان متواضعاً، ويتمنون مشاركة المقاومة الفلسطينية عسكرياً في قتال العدو الصهيوني.
وعبّر السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي صراحة عن ذلك في أكثر من مناسبة وأكثر من خطاب. وسبق أن كشف الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي لقناة الميادين أن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي عرض التدخل في إبان معركة “سيف القدس”، وربما تكرر الموقف خلال عملية “ثأر الأحرار”، لولا أن العدو لاذ بالوساطات للخروج من هذه الجولة القتالية في أسرع وقت ممكن، بعد أن بدا عاجزاً عبر قبته “الحديدية” وما يسمى “مقلاع داوود” أمام صواريخ المقاومة الفلسطينية، التي عززت نظرية “تأكّل الردع” خلافاً لما هدف إليه نتنياهو.
ربما كانت التقديرات أن تطول الجولة القتالية أكثر من خمسة أيام، وتتدحرج الأمور نحو حرب مفتوحة متعددة الساحات داخل فلسطين ومن خارج فلسطين (محور المقاومة)، وهذا ربما ما يفسر تأخر المسيرات المليونية في اليمن، التي تحولت من مسيرات تضامن ونصرة لفلسطين إلى مسيرات مباركة للمقاومة بانتصار إرادتها على العدو المدجَّج بأسلحة الموت والدمار، والذي رضخ لشروط الفلسطينيين بتحييد المدنيين والمنازل عن أيّ استهداف.
قبل خروج المسيرات المليونية تابع اليمنيون باهتمام تطورات الجولة القتالية على مدى أيامها الخمسة، وكان لوسائل الإعلام اليمنية حضورها وتفاعلها ومواكبتها المتميزة على مدار الساعة، حتى إن البعض انتقد اهتمامها بالملف الفلسطيني على حساب الملف اليمني. وهذا مؤشر آخر يعكس اهتمام اليمنيين بقضية القضايا (فلسطين).
وهنا، لا نستبعد أن اليمن كان حاضراً لأي دور عسكري يناط به ضمن الغرفة المشتركة لمحور المقاومة، وأعتقد أن يوماً ما سيأتي، وسيكون لليمنيين حضورهم في المعركة الكبرى لتحرير فلسطين؛ معركة وعد الآخرة، أو ما يسميها الصهاينة: “الخراب الثالث”.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع