السياسية:

سلّطت تداعيات الزلزال المدمّر في سوريا وتركيا الشهر الماضي الضوء على الأبنية المقاوِمة للزلازل. الدمار الهائل الذي حلّ بمباني البلدين أعاد البحث بمسألة مواصفات الأبنية الى الواجهة. آثار الهزات الارتدادية في لبنان والتصدعات التي طالت الأبنية أثارت المخاوف الجدية من قدرة المنشآت على الصمود أمام أي هزة أو زلزال قادم. لبنان يقع ضمن خط زلزالي ما يجعل احتمال التعرض لأي هزة أو زلزال واردًا. وعليه، لا بد من وجود أبنية متينة وقوية تصمد أمام قوة الهزة أو الزلزال ولا تنهار على رؤوس قاطنيها، وهو الأمر الذي دفع بالعديد من السكان الى استشارة مهندسين للتأكد من سلامة المبنى الذي يقطنونه. كما سارع البعض للطلب ممّن يرسمون الخرائط لبناء مُنشأة الى التشدد في مراعاة مواصفات البناء ليُقاوم الزلازل. فما هي هذه المواصفات؟ وهل سبق أن جرت مراعاتها في الأبنية اللبنانية؟ وكيف نحوّل البناء من منشأة غير مقاومة الى مقاومة للزلازل؟.

أحد المهندسين الاستشاريين في مجال الهندسة الانشائية ومن لهم باع طويل في هذا المجال على مدار 37 عامًا يتحدّث بإسهاب عن هذا الموضوع الذي يصفه بالحيوي والمهم جدًا خاصة أننا نتحدّث حياله عن أمر يتعلّق بالحياة والموت. يبدأ المتحدّث كلامه من الشق النظري قبل أن ينتقل الى العملي. بعد الهزة القوية التي ضربت لبنان عام 1997 والتي بلغت 5.8 على مقياس ريختر ــ ما أحدث تصدعات في المباني وأضرار مادية وتأثيرات أرعبت الناس ــ سارعت الدولة الى حياكة قانون “السلامة العامة” الذي صدر عام 1997 والمتعلّق بالحريق، المصاعد وسلامة الأبنية حيث حدّد مواصفات البناء المقاوم للزلازل. لكن القانون في حينها لم يكن ملزمًا، تمامًا كما لم تكن له آلية للتطبيق.

وقد نصّ قانون “السلامة العامة” على أن تُصمّم المباني وفق تسارع جاذبية “02 acceleration”. وللتوضيح، فإنّ هياكل المباني تصمّم لتتحمل حمولة الجاذبية الناجمة عن وزن المبنى نفسه إضافة الى حمولات أخرى، وعند حدوث الزلزال تتعرض المباني لتسارع يُقاس نسبة الى تسارع الجاذبية الأرضية. هذا التسارع حدده القانون اللبناني بـ 02 مع الإشارة الى أنّ المواصفات الأميركية والأوروبية حدّدته بـ03، لكن المعنيين في لبنان قدّموا رقمًا أقل من المصنف عالميًا لأسباب مادية. وفق المهندس، المعنيون لا يريدون الانتقال من مبان تبلغ مقاومتها للزلازل صفر الى 03 فهذا الأمر مكلف ماليًا، وتجار الأبنية لن يتكيفوا معه فجأة خاصة أنه يتطلّب المزيد من مواد البناء خاصة “الباطون”، وبدل أن تزداد التكلفة على سبيل المثال 20 بالمئة وفق الـ02 ستزداد 30 بالمئة لدى الانتقال الى “03 acceleration”.

عدم الزامية القانون دفع كثرًا الى عدم التطبيق وسط غياب الرقابة. وفي عام 2005 نص مرسوم صادر حول “السلامة العامة” على إلزامية أن تُشيَّد جميع المباني بشكل مطابقٍ للسلامة العامة، ومن ضمنها، مقاومة الزلازل. وعام 2012 أقرت بالفعل آلية الزامية للتطبيق وبات القانون الزاميًا، وأي مبنى يُصمّم يجب أن يكون مقاومًا للزلازل ووفق المواصفات التي تطلبها نقابة المهندسين. كما جرى رفع تسارع الجاذبية من 02 الى 025 أي ليصبح المبنى مقاومًا لأي هزة أو زلزال بقوة 6 و6.5 على مقياس ريختر.

يُحاول المهندس الإنشائي إدراج المصطلحات التي تُستخدم في علم تصميم المباني المقاومة للزلازل بطريقة مبسطة. عندما نقول 02 يعني أنّنا نُصمم الأبنية على تسارع أفقي يساوي 20 بالمئة من التسارع الرأسي للجاذبية. وعليه، بادر القيمون الى تصميم أبنية متينة وسليمة لكنها لا تقاوم الزلزال الذي يأتي بعد 50 عامًا. تقاوم مستوى معيّنا من الزلازل. ونتيجة الدراسات والخبرة بات بالإمكان إجراء مقاربة بين تسارع الجاذبية وقوة الهزة أو الزلزال على مقياس ريختر. على سبيل المثال فإنّ الـ02 تقاوم هزّة تتراوح بين 5.5 و6 على مقياس ريختر، و025 تقاوم الزلازل من 6 حتى 6.5، والـ03 تقاوم من 6.5 حتى 7 درجات على مقياس ريختر تقريبًا.

بعد عام 2012 بدأ التطبيق الفعلي وجرى تفعيل الرقابة والتدقيق، الأمر الذي تطلّب إجراء نوع من المحاكاة لكل بناية أو منشأة يجري تصميمها لقياس مدى تحملها للهزة والزلزال. وعليه، كل بناية بات يُصمم لها النموذج على الكمبيوتر وفق أحدث البرامج ويتم تعريضها لهزة أو زلزال بكل الاحتمالات بناء على تسارع جاذبية 025 ويجري العمل على تحريكها بقوة الزلزال بكافة الاتجاهات والاحتمالات ما يخولنا معرفة نقاط الضعف والقوة قبل تنفيذ المنشأة. بعد عملية المحاكاة يتم تقديم التقارير مرفقة بتقرير عن الزلازل وذلك قبل أخذ الإذن بمباشرة البناء.

وبعد دراسة التقرير من قبل النقابة، تتم الموافقة على إنشاء المبنى كمبنى مقاوم للزلازل. وللعلم، فإنّ النقابة تفرض على المالك أن يتعاقد مع شركة تدقيق ملزمة بتدقيق الخرائط لإجراء حسابات السلامة العامة. وعليه، تلاحق شركة التدقيق المشروع لدى التنفيذ وتكشف عليه على شكل “كبسات” بطريقة دورية وعلى مراحل ما يمكنها من كتابة التقارير حول ما اذا كان هناك خلل أم لا.

ماذا يحتوي المبنى المقاوم للزلازل؟

ماذا يعني مبنى مقاوم للزلازل؟ بماذا يختلف عن البناء العادي؟ يجيب المهندس بالإشارة الى أنه حتى المبنى غير المصمّم للزلازل عندما يُصمّم بطريقة هندسية صحيحة وتُستخدم فيه المواد بطريقة صحيحة من باطون، حديد وما شابه فهو مبنى يتحمّل هزّة بقوة 5.5 على مقياس ريختر أو أكثر.

وفي ما يتعلّق بالمبنى المقاوم للزلازل فإنّ هذا المبنى يرتكز على عنصرين أساسيين: الحوائط المقاومة للزلازل، والأعمدة. فعندما يصمم مبنى مقاوم للزلازل يجب أن يحتوي على “حوائط باطون مسلّح” مقاومة للزلازل، فالأعمدة تقاوم 25 بالمئة من قوة الزلزال والحوائط تقاوم 75 بالمئة. الحائط يمتد من أساس المبنى وصولًا حتى السطح، مع الإشارة الى ضرورة وضع الحوائط بطريقة لا تسبب عرقلة في حركة السكان، بمعنى عدم وضعها في مكان يعرقل عليهم حركتهم، وعليه فإن أنسب مكان لها هو عند “الدرج” والمصاعد، لتكون كل الحوائط المحيطة بالدرج من الجهات الثلاث مناسبة للباطون المسلح. الأمر ذاته ينطبق على المصعد حيث تكون حوائطه عبارة عن “باطون مسلح”. وفي حال لم تكن هذه الحوائط كافية، يتم وضع حوائط في المبنى من الخارج، فيتم وضع حائطَين باتجاه الطول وحائطَين باتجاه الأرض شرط أن يكونا متماثلين قدر الإمكان. هذه الحوائط غير موجودة في الأبنية العادية وحديدها مدروس بشكل يقاوم 75 بالمئة من قوة الزلازل.

التكلفة تتراوح من 5 الى 10 بالمئة من إجمالي تكلفة المُنشأة

وحول التكلفة، يشير المهندس الى أنّ التكلفة تقدّر بحوالى 15 الى 30 بالمئة من كلفة الباطون، أي من 5 الى 10 بالمئة من إجمالي المُنشأة. على سبيل المثال، أي مبنى تبلغ تكلفته 100 ألف دولار تزيد على المالك التكلفة من 5 الى 10 آلاف دولار ليصبح مقاومًا للزلازل. هذا إن كان من أصل البناء أما اذا كان المبنى في مرحلة ترميم فالكلفة ستتضاعف أضعافًا.

كيف نحوّل مبنى غير مقاوم الى آخر مقاوم؟

هل بامكاننا تحويل مبنى غير مقاوم الى آخر مقاوم؟ هندسيًا كل شيء جائز ــ يقول المهندس ــ ولكن الأمر مُكلف جدًا وقد “يخرّب” كثيرًا خاصة أنّ حوائط الباطون المسلّح تمتد من أساسات المبنى حتى السطح. وهنا يشدّد المتحدث على ضرورة أن يكون هناك صيانة دورية للمباني قبل أي شيء. للأسف نحن في مجتمع تغيب فيه ثقافة “الصيانة”. الناس لا تعلم أن المبنى وبعد مرور 5 الى 10 سنوات يحتاج الى صيانة كاملة كل خمس سنوات ما يعني ضرورة الانتباه الى مسألة عدم انكشاف الحديد وتعرضه للصدأ والمسارعة الى “الطلاء” في حال وجود أي منطقة يظهر فيها الباطون للعيان. هذه التفاصيل ضرورية جدًا ليصبح المبنى آمنًا للسكن العادي قبل أي شيء. بعدها، لا بد من تقوية المبنى ليصبح مقاومًا للزلازل عبر زرع حوائط باطون مسلح من الأساسات حتى السطح، وتكرار هذه العملية على الغلاف الخارجي للمبنى بالاتجاهين الطولي والعرضي، أي زرع حوائط باطون مسلح على الغلاف الخارجي من الأساسات للسطح وربطها بعضها ببعض عبر جسور وأعمدة. وهنا قد لا يتمكن القائمون على المشروع من الوصول الى الأساسات فنضطر لاستخدام آلات لزرع أعمدة باطون في الأرض والحوائط ما يعني أنّ التكلفة كبيرة جدًا وتتضاعف أضعافًا حسب كل منشأة.

هل يفقد المبنى مع الوقت قوته في مقاومة الزلازل؟ ردًا على هذا السؤال يعود المتحدّث ويؤكّد على ضرورة الصيانة الدورية. بعد مرور خمس الى عشر سنوات لا بد من إجراء صيانة دورية وهيكلة للمبنى. المنشأة بحد ذاتها قد يصيبها خلل في الأعمدة التي تتآكل مع الوقت، ومعظم المنشآت بعد مرور 15 الى 25 سنة يصيبها “التصدعات” وتتعرض لمشاكل كثيرة من نش ورطوبة، مع الإشارة الى أنه حتى لو كان المبنى مصمّمًا في الأصل للزلازل فهو بحاجة الى صيانة دورية.

وفي ختام مقاربته، يشير المهندس أولًا الى ضرورة تعديل قانون “السلامة العامة” ليرفع من تسارع الجاذبية وتصبح عند 03 لأنّ لبنان وبحسب تاريخه معرّض لهزات وزلازل بقوة 7 على مقياس ريختر. وثانيًا يدعو لأن تعمّم آلية التطبيق على المنازل والأبنية العادية. يجب أن يشمل قانون “السلامة العامة” كافة الأبنية وعلى شركات التدقيق أن تهتم بهذا الأمر وتفعّل آلية الرقابة كي لا تُمرر أي مخالفة وكي يقف المبنى صامدًا متينًا لامتصاص صدمة أي زلزال.

* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع