حيّان نيّوف*

 

لم يكن ما جرى في بكين من إعلان لاتفاق حول عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران حدثًا عابرًا، بل يمكن القول إن هذا الحدث كان أكبر من إعلان اتفاق مصالحة بين دولتين إقليميتين بما تمثلانه. الرابحون كثُر والخاسرون كثر أيضًا، ودلالات ما جرى كبيرة وكثيرة وانعكاساته ستبدأ بالظهور تباعًا على الساحتين الإقليمية والدولية.

ما يهمنا في هذا المقال هو تسليط الضوء على حيثيات الموقف الأمريكي من الاتفاق وخلفياته وغاياته، والدوافع التي اضطرت واشنطن لرفع الفيتو عن السعودية خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع إيران، وهي (أي واشنطن) مارست إلى وقت قريب بروباغندا إعلامية وسياسية هدفت لخلق حالة من العداء بين دول الخليج وخصوصًا السعودية وإيران، وامتدت هذه السياسات لأكثر من ٤٤ عامًا منذ انتصار الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩ وحتى الأمس القريب.

بدايةً فإنه لا بدّ لنا من المرور على الموقف الأمريكي من اتفاق بكين والذي كان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون كيربي أكثر المسؤولين الأمريكيين تعبيرًا عنه عندما قال “البيت الأبيض ليس في وضع يسمح له بالوساطة بين إيران والسعودية، الاتفاق السعودي – الإيراني أمر إيجابي لأنه يدعم هدفنا بتحقيق خفض التوتر في المنطقة. كنا على تواصل وثيق مع السعودية خلال محادثاتها مع إيران وكانت تضعنا في صورة التطورات.. لم نستطع أن نلعب دور الوسيط بين السعودية وإيران بسبب علاقاتنا مع طهران”.

بحسب هذه التصريحات فإن واشنطن كانت على علم بتلك المفاوضات وبمراحلها عبر الطرف السعودي.. فكيف يمكن قراءة الموقف الأمريكي؟

أولًا: لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ومنذ وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، سعت إلى اعتماد استراتيجية جديدة تضمنت المواجهة مع روسيا والضغط على الصين وإعادة توحيد أوروبا ضمن الناتو والتهدئة في الشرق الأوسط. وظهرت ملامح سياستها في الإقليم من خلال الضغط على السعودية فيما يخص الحرب على اليمن وإعلان الهدنة، وفي العراق من خلال تمرير حكومة السوداني، والرضوخ فيما يخص ترسيم الحدود البحرية فيما عرف بملف كاريش، بالإضافة إلى جولات المفاوضات في فيينا حول الملف النووي الإيراني. فهذه وغيرها من المؤشرات دلّت على أن واشنطن استخدمت أسلوب التهدئة والتفاوض إلى جانب المواجهة ضمن سقف محدد.

ثانيًا: المواجهة مع روسيا. شكلت الحرب في أوكرانيا التي سعت إدارة بايدن لتأجيجها عبر نظام زيلنسكي الانقلابي عاملًا مهمًا أرادت الولايات المتحدة من خلاله توريط روسيا وإضعافها وصولًا إلى إسقاطها من الداخل عبر العقوبات والضغط الاقتصادي، غير أن الفشل الأمريكي والانتصار الروسي ساهم في إعادة الحسابات الأمريكية، خاصة أن العلاقة بين روسيا وإيران من جهة، وبين روسيا والصين من جهة أخرى، شهدت تسارعًا كبيرًا في التطور والانتقال إلى مستويات جديدة تفوق ما كانت عليه قبل الحرب الأوكرانية، في الوقت الذي كانت واشنطن تسعى لخلق فتنة بين موسكو وكل من بكين وطهران على اثر الموقف من العملية العسكرية الروسية في الدونباس.

ثالثًا: العلاقة الروسية – الإيرانية. شكلت زيارة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي إلى موسكو، وزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران حدثين استثنائيين، نتج عنهما النهوض بالعلاقات بين البلدين إلى مستويات الشراكة الاستراتيجية الأقرب للتحالف، وانعكس ذلك في مجالات التجارة والطاقة والتكنولوجيا والتعاون العسكري والتسليح وغيرها، إلى الحد الذي أرعب واشنطن وحلفاءها الغربيين والإقليميين، وتوّج ذلك بالاتفاق على معبر تجاري يربط الشمال بالجنوب ويمتد من شمال غرب روسيا إلى سواحل إيران على الخليج والمحيط الهندي، وما يعنيه ذلك من الالتفاف على العقوبات الغربية لكلا البلدين وما يحققه من نتائج جيوسياسية واقتصادية وتجارية، هذا بالإضافة إلى الاستغناء عن الدولار في التعاملات التجارية والمصرفية بين البلدين.

رابعًا: العلاقة الصينية – الإيرانية. شكّلت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد التي جرى توقيعها بين طهران وبكين صدمةً كبيرة لدى واشنطن وما تعنيه من كسر للعقوبات الغربية، خاصة أن إيران تمثل أحد أهم المحطات لمشروع الحزام والطريق الصيني، سواء من الشرق إلى الغرب عبر الربط بالسكك الحديدية والطرق السريعة عبر آسيا، أو عبر موانئها الاستراتيجية، ليضاف إلى ذلك أيضًا الاستغناء عن التعامل بالدولار واستبداله بالعملات المحلية بين البلدين، وبالنفط مقابل المشاريع الاستثمارية.

خامسًا: التطور العسكري والتكنولوجي الإيراني. حققت إيران قفزات كبيرة في مجالات علمية وتكنولوجية وعسكرية عديدة أذهلت العالم رغم سياسات الحصار والعقوبات الأمريكية والغربية، وظهر ذلك جليًّا في مجالات الفضاء، والطائرات المسيّرة والتكنولوجيا الرقمية والنانو، وفي مجالات التسليح بأنواعه سواء الأسلحة البحرية والغواصات أو سلاح الصواريخ، ويكاد لا يمر شهر إلا وتعلن إيران عن اكتشاف علمي جديد أو سلاح جديد متطور، وآخر ما أعلنت عنه إيران والذي شكل انقلابًا في موازين القوى كان ما أعلنه قائد القوات الجوفضائية الإيرانية العميد حاجي زادة عن تمكن إيران من انتاج صواريخ فرط صوتية بسرعات هائلة لا يمكن اعتراضها أو مجاراتها لسنوات قادمة، وهذا بحد ذاته كان له أثر بالغ في انقلاب الموقف الأمريكي وهو ما بدا واضحًا في تصريحات مدير الـ”سي آي إيه” وليم بيرنز الذي اعترف لشبكة “سي بي سي” الأمريكية بالعجز عن إيقاف التطور الإيراني في مجال الصواريخ والتكنولوجيا النووية التي وصلت معها إيران الى درجة تمكنها من تخصيب اليورانيوم بالنسبة التي تريدها متى شاءت ذلك.

سادسًا: الملف النووي الإيراني. حرصت إيران فيما يخص هذا الملف على العمل بالتوازي وفقًا لثلاثة محاور، تطوير التكنولوجيا النووية والانخراط بالمفاوضات متعددة الأطراف بالرغم من انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الموقع عام ٢٠١٥ والتعاون المدروس والهادئ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومارست سياسة التنقل بين تلك المحاور وفق ما تقتضيه المصلحة العليا الإيرانية وبما ساهم بإفشال سياسات الخصم الأمريكي. وآخر ما يسجل لإيران في هذا المجال هو الاتفاق الأخير مع مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال زيارته الأخيرة لإيران والتي وصفت بالناجحة وساهمت بسحب الذرائع قبيل اجتماع مجلس محافظي الوكالة والذي كانت واشنطن تسعى لاستغلاله لفرض مزيد من الضغوط والعقوبات.

سابعًا: المواجهة الجيوسياسية في الإقليم وسلاسل التوريد. لا يخفى على أحد حجم وأهمية الانتصارات التي حققتها إيران ومعها محور المقاومة بكل مكوناته، من العراق إلى سوريا واليمن ولبنان وصولًا إلى فلسطين المحتلة، وإفشال المخطط الصهيو-أمريكي في تلك الساحات والميادين، وما نتج عن ذلك من إحكام محور المقاومة القبضة على أهم الممرات والمعابر البرية والبحرية الدولية والتي تتحكم بجزء كبير من حركة التجارة وسلاسل التوريد بين الشرق والغرب وبين الشرق الأوسط وأوروبا، وخاصة تجارة المشتقات النفطية والغاز. من الخليج ومضيق هرمز إلى باب المندب ومن العراق إلى معبر القائم/البوكمال، واجتماعًا في شرق المتوسط، وما يعنيه ذلك من وضع الاقتصاد الصناعي والتجاري والخدمي الغربي تحت رحمة مكونات المحور المقاوم، وخاصة بعد الحرب الأوكرانية والعقوبات على قطاع الطاقة الروسي وتفجير خطي نورد ستريم.

ثامنًا: الجبهة الداخلية الإيرانية. تضاف هذه الجبهة، وهي الجبهة الأهم بالنسبة لإيران، إلى سلسلة الفشل والهزائم الأمريكية، وخاصة بعد الفتنة الأخيرة التي نتجت عن وفاة “مهسا أميني” والتضليل الإعلامي والعبث الاستخباراتي الذي مورس من قبل الغرب وحلفائه وأتباعه في الإقليم.

أخيرًا؛ واستنادًا إلى تلك العوامل التي ذكرت، يمكن القول إن الولايات المتحدة استنفرت كل أدواتها وأسلحتها المتنوعة، الاقتصادية والسياسية والعسكرية وحتى عملاءها في الإقليم، إلى الحدّ الذي بات معه الاستمرار في المواجهة لن يزيدها إلا خسارة وتراجعًا وتآكلًا لنفوذها، خاصة في ظل الصراع العالمي المحتدم لبناء عالم جديد متعدد الأقطاب وبروز محور الشرق وازدياد عدد الدول التي تسعى للتفلت من الهيمنة الأمريكية، وأمام كل ذلك كان لا بد لها من الانكفاء عن استراتيجيتها والتوجه نحو وقف التدهور الحاصل لنفوذها بشكل متسارع مع فشل خياراتها السابقة.

يشكل اعلان بكين اعترافًا أمريكيًا قبل أن يكون سعوديًا، بانسداد الأفق أمام الخيارات الأمريكية التي فشلت طوال سنوات، فكانت السعودية هي عرّابة الاعتراف الأمريكي بالفشل، وكانت الصين التي تتحيّن الفرصة لإنزال الولايات المتحدة وحلفائها عن الشجرة معلنةً انتهاء العصر الأمريكي.

* المصدر: موقع العهد

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع