السياسية:

واحدة من أكثر الظواهر الخادعة في وجودنا الحالي هي الأموال التي نستخدمها للشراء والبيع والادخار على أساس يومي.

إنها، ببساطة لا شيء، مدعومة بلا شيء ولا تعتمد على أي شيء، لكنها في نفس الوقت حساسة للغاية وحساسة للتحولات الجيوسياسية والنقدية.

تعتمد العملات التي نستخدمها جميعاً على قوة وأداء الدولار الأمريكي، وهذا الدولار مدعوم بالديون والثقة العالمية في نفسه ونظامه النقدي الدقيق.

كان هناك وقت، قبل نصف عقد من الزمن، عندما كان الدولار والعملات البارزة الأخرى مدعوماً بالذهب، كان ذلك الأصل الآمن والمستقر محصناً إلى حد كبير من التقلبات والانهيارات الشديدة في النظام القائم على الديون اليوم.

كان ذلك حتى رفع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الدولار عن معيار الذهب، هذا في عام 1971، في خطوة محورية وخطيرة والتي ضمنت تفوق أمريكا في الاقتصاد العالمي – على الأقل حتى الآن – واعتبرت واشنطن والنظام النقدي اللاحق في مستقبل حوادث لا مفر منها، ويقول الكثيرون أن الانهيار سيكون في نهاية المطاف.

منذ ذلك الحين، وخاصة في هذا العصر الرقمي، تتكون النقود الورقية من أكثر قليلاً من أرقام على الشاشة، بناءً على نظام الحسابات الآلية والتدخلات اليدوية.

تقوم الشركات بشراء الأموال ويتم دفع رواتب الموظفين، نعم، المستهلكون ينفقونه وهو ضروري للبقاء وتحقيق الضروريات الأساسية، صحيح.

ومع ذلك، تظل الحقيقة أنه في أي وقت، يمكن مصادرة المبلغ أو تغييره أو إزالته من حساب مع تأثير فوري ضئيل على الاقتصاد، حيث لا يتم دعمه بأي أصول مادية أو ملموسة تخضع لقيود.

نحن نتعامل مع مجرد أرقام على الشاشة، والتي يمكن للبنك تعديلها حرفياً حسب الرغبة.

مع النقد المادي، ليس هذا هو الحال تماماً، ولكن حتى هذا يخضع لذلك الواقع.

نظراً لأن عالمنا أصبح رقمياً أكثر من أي وقت مضى وأقل اعتماداً على النقد، فسوف ينمو هذا فقط.

مع انتشار وولف وول ستريت، أصبح نظامنا النقدي الحالي، إلى جانب أسواقه وأسهمه، ببساطة “زائفاً”.

جزء كبير من هذا النظام وهيمنة أمريكا عليه، كان “البترودولار” – دفع الدولار الأمريكي لتجارة وبيع النفط عالمياً من السعودية والدول الأعضاء الأخرى في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، في أعقاب الصفقة التي أبرمت بين واشنطن والرياض في عام 1974، بالصدفة بعد ثلاث سنوات فقط من قيام نيكسون بإزالة الدولار من معيار الذهب.

لم تؤمن هذه الصفقة الدفاع العسكري للمملكة من خلال ضمانات من الولايات المتحدة فحسب، بل ضمنت أيضاً تدفقاً مستقراً للشراء الأجنبي لسندات الخزانة الأمريكية والديون – وهي استراتيجية لإعادة تدوير البترودولارات إلى واشنطن – من خلال احتياطيات الدولة الخليجية.

مثل أي عمل جيد، أدى هذا التدفق المستقر بنجاح إلى تدفق المزيد من الاحتياطيات، مدعوماً بالنجاح المتداول اللاحق للدولار وزيادة الثقة العالمية في استقراره وكان أحد أهم مكونات الماكينة.

لذلك عندما تم الكشف العام الماضي عن أن السعودية تفكر في تداول نفطها مع الصين باليوان، لم يكن ذلك بالأمر الهين أو التحول الطفيف.

قلل العديد من المحللين في ذلك الوقت – المؤيدون للغرب إلى حد كبير – من الأمر باعتباره مجرد لفتة رمزية، أو تكتيك للضغط على الولايات المتحدة أو إرسال رسالة سياسية.

بعد مرور عام تقريباً، يبدو أن المملكة جادة في تلك النوايا المحتملة.

في دافوس في (يناير)، كشف وزير المالية محمد الجدعان عن استعداد الرياض للتداول ليس باليوان فحسب، بل بمجموعة متنوعة من العملات الأخرى.

لم تكن السعودية الدولة الوحيدة، حيث أبرم حلفاء آخرون للولايات المتحدة مثل الهند وباكستان والإمارات صفقات مع روسيا أو الصين لدفع ثمن النفط أو السلع الأخرى بعملاتهم المحلية المختلفة.

كان العراق آخر من نأى بنفسه عن هيمنة الدولار، حيث أعلن هذا الشهر أنه يخطط لتنظيم التجارة الخارجية من الصين مباشرة باليوان.

مثلت قرارات تلك الدول – التي يُتوقع أن ينضم إليها عدد كبير قريباً – تحولاً كبيراً نحو نظام نقدي عالمي أكثر لامركزية بعيداً عن الدولار، ويرجع ذلك أساساً إلى سوء تقدير كبير من جانب واشنطن في عقوباتها الشديدة ضد روسيا في البداية، غزو موسكو لأوكرانيا.

من دون الدفاع عن الكرملين وما يسمى بـ “العملية العسكرية الخاصة”، ودون إدانة العقوبات التي لها استخداماتها كإجراء غير مادي وضغط مالي، يبدو أن الولايات المتحدة قد سجلت هدفاً ذاتياً مدمراً مقابل عملتها.

قطعت روسيا عن نظام الدفع “SWIFT” وجمدت أكثر من 350 مليار دولار من احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية.

هذا العمل وحده قلل بشكل كبير الثقة في النظام النقدي القائم على الدولار بين العديد من البلدان، لاسيما تلك الموجودة في الجنوب العالمي التي لطالما كانت متشككة في الهيمنة الأمريكية، مما جعلهم يشككون في جدوى ومخاطر الاحتفاظ باحتياطاتهم بالدولار.

هذا هو بالضبط سبب كون حرب أوكرانيا قضية محورية – إنها مقامرة الولايات المتحدة على استعداد لخوضها لإعادة تأمين ثروات الدولار، ولديها القدرة على استعادة الثقة به كعملة مستقرة تستحق أن تظل الاحتياطي العالمي المهيمن، هذا إذا فازت أوكرانيا وهزمت روسيا.

ومع ذلك، إذا خسرت كييف وحققت موسكو نصراً، فسيؤدي ذلك إلى كارثة أخرى على الدولار، حيث يعتبر أحد الأسباب الرئيسية وراء اعتماد الكثير على نتائج الحرب في أوكرانيا.

في تلك المعادلة، لا تنوي السعودية الاعتماد على نتيجة الحرب لتحديد سياساتها الخارجية والاقتصادية.

فهي تصر على الحفاظ على علاقات ممتازة مع الولايات المتحدة وفي نفس الوقت توسع علاقاتها مع روسيا والصين وقوى أخرى في الشرق.

ستستمر في التداول بالدولار إلى حد كبير في المستقبل المنظور، لكنها في الوقت نفسه ستكون منفتحة على قبول العملات الأخرى حتى لو كان ذلك على حساب واضح للهيمنة الأمريكية ويمثل خرقاً لاتفاقية البترودولار مع واشنطن كل تلك العقود الماضية.

إن اهتمام المملكة بالانضمام إلى مجموعة بريكس – الكتلة الاقتصادية المكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا – هو جزء من هذه النظرة السياسية، إلى جانب إيران وتركيا والجزائر ومصر الذين يهدفون أيضاً إلى الانضمام إلى الكتلة.

فبدلاً من كونه نادياً حصرياً للاقتصادات الأسرع نمواً في العالم النامي، فإنهم ينظرون إلى البريكس كفرصة لبلدان الجنوب العالمي للالتقاء معاً إما لمضاهاة هيمنة الدولار الأمريكي أو تأمين مكان في محاولة القيام بذلك.

بسبب مناقشة توسيع الكتلة هذا العام، من المقرر أن تتخذ بريكس قريباً قراراً بشأن العضوية المحتملة لتلك الدول.

إذا تم قبول السعودية وانضمت إليها، فسيتم الترحيب بها كضربة قوية للدولار ونهاية لإعادة تدوير البترودولار، حيث ستكون المملكة بعد ذلك أكثر ارتباطاً اقتصادياً مع أمثال الصين والهند على وجه الخصوص.

بالفعل، يتكهن المحللون والاقتصاديون باحتمالية قيام الدول ببيع احتياطاتها من الدولار الأمريكي، لاسيما الآثار المترتبة على إغراق كميات كبيرة من قبل بعض الحائزين البارزين.

الصين، على سبيل المثال، لديها أكبر احتياطيات بقيمة 3.184 تريليون دولار، في حين تبلغ احتياطيات الهند 573.7 مليار دولار والسعودية 457.66 مليار دولار.

إذا كانوا سيبيعون أو يسقطون حتى جزء بسيط من احتياطاتهم، خاصة في جهد منسق، فإن ذلك سيؤثر بشدة على قوة الدولار الأمريكي وسمعته.

هذه ليست بالتأكيد المرة الأولى التي تتعرض فيها هيمنة العملة الأمريكية للتهديد، كما أنها ليست المرة الأولى التي ينخفض فيها إجمالي احتياطيات الدولار العالمية التي تحتفظ بها البنوك المركزية بشكل كبير، حيث كانت تتراجع على مدار العقدين الماضيين أو نحو ذلك وكانت في بعض الأحيان من أدنى المستويات حتى قبل حرب أوكرانيا، لكن الأمر مختلف الآن، ولم يكن هناك تهديد على تفوق الدولار بهذا القدر من الأهمية.

هناك سبب وجيه وراء شراء البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم العام الماضي لأكبر قدر من الذهب على الإطلاق منذ عام 1950، في محاولة لمكافحة التضخم المتزايد وعدم الاستقرار المالي.

إنهم يعرفون بشكل أفضل هشاشة نظامنا النقدي غير المستقر، لأنهم يهدفون إلى تثبيت أنفسهم بالأصول التي ستظل ذات قيمة إلى الأبد.

* 12 شعبان 1444 الموافق 4 مارس 2023، صحيفة ” ميدل ايست مينتور – Middle East Monitor ” البريطانية – ترجمة: نجاة نور، الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”)
* المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر و بالضرورة لا تعبر عن رأي الموقع