عباس الزين

 

في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، أعلنت البحرية الروسية دخول إحدى أهم السفن الحربية التابعة لها، الطراد الروسي “بطرس الأكبر”، إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق جبل طارق، آتيةً من موانئ الشمال الروسي، بهدف استئناف تموضع قطع بحرية روسية في هذه المنطقة بصفة مستمرة، وفق وزارة الدفاع الروسية.

قبل ذلك بأكثر من قرنين، كان القيصر الروسي بطرس الأكبر (1672 – 1725) الذي يحمل الطراد العامل بالوقود النووي اسمه، يحاول جاهداً الحصول على حرية الملاحة التجارية في البحر الأسود، بهدف الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، إلا أنَّ محاولته تلك كانت تصطدم دائماً برفض عثماني وبضعف القوة البحرية لديه لأيِّ مواجهة عسكرية.

 

“كاثرين العظيمة”

كانت فكرة ترسيخ الحضور الروسي في حوض البحر المتوسط، من حيث الجوهر، تشكّل الأساس الذي قامت عليه خطة كاثرين الثانية في حربها ضد الدولة العثمانية، وفق ما يذكره كتاب “روسيا في البحر الأبيض المتوسط: حملة كاترينا العظمى في الأرخبيل”.

بعد 6 سنوات من الصراع بين روسيا والإمبراطورية العثمانية من 1768 إلى 1774، تم توقيع معاهدة “كوتشوك كاينارجا” عام 1774. تلك المعاهدة أتاحت لروسيا، بفعل انتصارها بالحرب، ولا سيما في “معركة تشيزميه” عام 1770 (انتصر خلالها الأسطول الروسي على الأسطول العثماني في المتوسط)، الوصول المباشر إلى منطقة البحر الأسود (عبر ميناءي كيرتش وآزوف) ووضع شبه جزيرة القرم والمناطق الجنوبية من أوكرانيا الحالية تحت نفوذها مع استقلال اسمي. وبذلك، انتهت سيطرة الدولة العثمانية على البحر الأسود كبحيرة كاملة لها.

عام 1783، وبعد 9 سنوات من توقيع تلك المعاهدة، ضم الأمير غريغوري بوتيمكين، مبعوث القيصرة الروسية كاثرين الثانية، شبه جزيرة القرم إلى روسيا، مستغلاً الاضطرابات التي حصلت. وفي العام ذاته، تأسست مدينة سيفاستوبل في القرم على البحر الأسود، إيذاناً بظهور روسيا كقوة صاعدة وانزلاق الإمبراطورية العثمانية في اتجاه مسار الضعف.

خلال تلك المرحلة، أنجزت “كاثرين العظيمة” ما كانت تسعى إليه روسيا تاريخياً، وهو الوصول إلى “المياه الدافئة”، من خلال ضم شبه جزيرة القرم والسيطرة عليها بعدما كانت تابعة للدولة العثمانية.

هدفت الإمبراطورية الروسية من خلال ذلك إلى الوصول إلى مياه صالحة للملاحة على مدار العام، على عكس الموانئ الشمالية التي يكسوها الجليد في فترات طويلة من السنة (البحر الأبيض شمالاً يتجمد 6 أشهر في السنة).

الأمر تجاوز مسألة الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط في حينها، بل تعداه إلى التأثير الفاعل في دوله بشكلٍ مباشر، إذ دعمت روسيا في تلك المرحلة التمرد ضد الحكم العثماني في مصر، كما سيطرت قواتها على بيروت لفترة بين عامي 1773-1774، وباتت صاحبة نفوذ وقرار في تلك المنطقة.

 

حرب القرم: مقدمة لما بعدها ولاغية لما قبلها

عندما سيطر الجيش الروسي بقيادة القيصر نيكولاي الأول على إمارتي الدانوب “مولدافيا ووالاشيا” (رومانيا الحالية) في البلقان في تموز/يونيو 1853، كانت روسيا تواصل توسعها على حساب الإمبراطورية العثمانية المتهالكة في ذلك الوقت، ولم يمضِ أشهر حتى كان الأسطول الروسي في البحر الأسود في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه قد دمر بشكلٍ كامل الأسطول العثماني في سينوب، وتمكن من إقامة وجود عسكري بحري له على الساحل التركي الشمالي للبحر الأسود، ما مكّنه من فرض حضوره وسيطرته العسكرية والأمنية قرب مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط مروراً ببحري مرمرة وإيجه.

جليد البلطيق في حينها كان نقطة القوة بالنسبة إلى الجيش الروسي، لأنه كان يمنع فرنسا وبريطانيا من التدخل، وهما اللتان كانتا تسعيان للضغط على أسطول بحر البلطيق الروسي بالتزامن مع التقدم في البحر الأسود.

استطاعت روسيا التحرك بحريّة في البحر الأسود انطلاقاً من شبه جزيرة القرم في الفترة الممتدة من تشرين الثاني/نوفمبر 1853 إلى آذار/مارس 1854، وهي الفترة التي حددتها لندن وباريس من أجل انسحاب القوات الروسية من المناطق التي سيطرت عليها. بعد ذلك، تغيّرت موازين القوى العسكرية، فجليد البلطيق تفكّك، وهو ما كانت بريطانيا وفرنسا تنتظره.

كانت بريطانيا وفرنسا تريدان الحرب، لكن بتوقيتهما. دخلتاها في آذار/مارس 1954، لكنهما لم تتحركا بداية من البحر الأسود، بل شمالاً من البلطيق، ليس للضغط على روسيا فحسب، بل لإنهاكها في معقلٍ إستراتيجي أيضاً.

في ذلك الوقت، بدأ القتال الفرنسي البريطاني. تم حصار الأسطول الروسي في البلطيق والتقدم للقضاء عليه في البحر الأسود. وفي صيف عام 1855، وبعد هجومين فاشلين وقصف طويلٍ، تمكّن الجنود الفرنسيون من التغلّب على الروس على سواحل القرم، بعد قتالٍ وصل إلى حد التشابك بالأيدي في محطاتٍ عديدة.

رفع الفرنسيون علمهم فوق “Malakoff Redoubt”، وهو تحصين رئيسي في دفاعات مدينة سيفاستوبول الإستراتيجية في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود. وبعد ذلك بأيام، أحرق الروس ما تبقى من سفنهم في سيفاستوبول، وانسحبوا من المدينة الإستراتيجية. وبينما كانت النمسا تهدد بالانضمام إلى الحرب من جانب الحلفاء (بريطانيا، فرنسا) ضد روسيا، قررت الأخيرة إيقاف القتال، ووقعت معاهدة باريس في آذار/مارس 1856. وبموجبها، أعادت الأراضي التي سيطرت عليها إلى تركيا، وتم نزع السلاح من البحر الأسود.

حرب القرم التي امتدّت بين عامي 1853 و1856، والتي دخلتها فرنسا وبريطانيا إلى جانب الدولة العثمانية في مواجهة التمدد الروسي، تعدّ في بعض النواحي أول صراع تكنولوجي حديث، وفقاً لمعهد الهندسة والتكنولوجيا.

للمرة الأولى، تم استخدام البندقيات الجديدة التي تم إنتاجها بكميات كبيرة في المصانع، وهبطت على السواحل سفن هجومية مدرعة، إضافة إلى استخدام الألغام البحرية. أمّا القوات البريطانية والفرنسية، فقد تواصلت بين شبه جزيرة القرم والمقر الرئيسي في باريس عبر خطوط التلغراف للمرة الأولى، وأنشأت خطوط السكك الحديدية لنقل الإمدادات والذخيرة.

ومن أبرز النتائج التي أفرزتها هذه الحرب، منع روسيا من الاحتفاظ بأسطول بحري في البحر الأسود، مع إعلان حياده، على الرغم من إعادة ميناء سڤاستوپول إليها. وبذلك، سحبت سفنها من البحر الأسود إلى البلطيق، بعيداً عن “المياه الدافئة” في مرمرة وإيجه، وأكثر بعداً عن البحر الأبيض المتوسط؛ مسرح موازين القوى العالمية في العقود اللاحقة.

 

المعاهدات الثلاث

بمعزل عن الأسباب المباشرة لحرب القرم، فمع حلول خمسينيات القرن التاسع عشر، كان انهيار الدولة العثمانية بالنسبة إلى الدول الأوروبية وروسيا مسألة وقت. لذا، كان الصراع يدور حول سؤال مهم: لمصلحة من سينهار العثمانيون؟

سعت روسيا القوية في شرق أوروبا وجنوبها في حينها للتوسع والتمدد مستغلة الضعف العثماني بهدف تعجيل الانهيار لمصلحتها. بالنسبة إلى بريطانيا وفرنسا والنمسا، فإن هذا الأمر لا يعني سيطرة الروس على البحر الأسود فحسب، بل على البحر الأبيض المتوسط أيضاً، انطلاقاً من هيمنتهم على المضائق الفاصلة.

كان هذا هو الخط الأحمر الذي جعل العواصم الأوروبية تتدخل سريعاً إلى جانب “عدوها التقليدي” في المفهوم الإستراتيجي، ليس لمنع هزيمته فحسب، بل لمنع هزيمته أمام الروس على وجه الخصوص، تمهيداً وتحضيراً لانهيار الدولة العثمانية على يد الدول ذاتها الداعمة لها في حرب القرم، وهو ما حصل فعلاً كنتيجة للحرب العالمية الأولى.

من نتائج حرب القرم التي انتهت بهزيمة روسيا، كان إنهاء مفاعيل “اتفاقية أدرنة” الموقعة بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية عام 1829، والتي سمحت لروسيا بعد انتصارها بـ”الوصول المجاني” إلى البحر الأبيض المتوسط ​​عبر مضائق البحر الأسود.

وإذا كانت فرنسا وبريطانيا تنتظران تلك الحرب، أو مهدتا لها، أو سعتا لاندلاعها، ففي الحالات كافة لم يكن الهدف إنقاذ الدولة العثمانية، بل إنقاذ “ميراث رجل أوروبا المريض” من الوقوع في قبضة الروس، وإلغاء أي نتائج سابقة للحروب العثمانية الروسية التي تقدمت فيها روسيا.

نتائج حرب القرم أعطت بريطانيا وفرنسا أفضلية على روسيا بالتوسع في البحر الأبيض المتوسط في العقود التي تلت ذلك، ولا سيما أنَّ هيمنة بريطانيا على قبرص الإستراتيجية ضمن “معاهدة قبرص” الشهيرة مع الدولة العثمانية في عام 1878، سبقتها “معاهدة لندن” عام 1871 بين بريطانيا وروسيا.

أعطت معاهدة لندن روسيا الحق بوجود أسطول وميناء لصنع السفن وإصلاحها في البحر الأسود، لكنها أبقت على بند من “معاهدة باريس” يحظر دخول السفن الحربية الروسية وخروجها عبر المضائق.

المعاهدات الثلاث تلك التي تلت حرب القرم امتدت في نتائجها إلى حقبة الحرب العالمية الأولى. خلال تلك المرحلة، كانت لندن، ومعها باريس، تعملان على خطين متوازيين: أولاً، منع أي تمدد روسي خارج البحر الأسود إلى المياه الدافئة والمناطق المؤثرة مع تقييد الحركة العسكرية. وثانياً، تنظيم وترتيب انهيار الدول العثمانية في أقاليمها بما يتناسب مع مصالحهما حصراً، فيما كانت روسيا حبيسة ومكبّلة وأمام أزمات داخلية ونكسات (حرب اليابان 1905) أوصلت إلى “الثورة البلشفية”، وأثرت في حضورها بطبيعة الحال في تلك المرحلة، لا سيما مع انسحابها من الحرب العالمية الأولى.

لذا، في فترة انهيار الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى وما ترتب عليها من نتائج، تحركت بريطانيا وفرنسا ضمن المساحة الجيوسياسية التي أفرزتها المعاهدات الثلاث كنتيجة لحرب القرم، متوسعةً في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. وضمن ذلك:

– لم تتمكن روسيا من ترميم قوتها في البحر الأسود والضغط في اتجاه مزاحمة بريطانيا وفرنسا انطلاقاً منه في اتجاه البحار المحيطة.

– انهارت الدولة العثمانية بفعل الحرب العالمية الأولى، من دون أن يكون لبريطانيا أو فرنسا منافس في البحر الأبيض المتوسط.

– استطاعت فرنسا وبريطانيا استغلال نتائج الحرب العالمية الأولى خارج أوروبا، في الوقت الذي كانت روسيا تعاني تبعات تلك الحرب، وتتحضر لثورة ستغيّر نظام الحكم فيها.

 

حرب القرم والنظام الدولي

أسَّست حرب القرم لمتغيرات جيوسياسية في أوروبا مكّنت بريطانيا وفرنسا من فرض نفوذٍ لهما في النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك من خلال الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، ومنه إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فكان كل ذلك مقدمة للهيمنة على موارد تلك المناطق التي أسست ومهدت في ما بعد للقوة والنفوذ الغربيين على امتداد العقود اللاحقة، باعتبار أن أوروبا القوية في حينها كانت أوروبا القوية الحاضرة سياسياً وعسكرياً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

التغيرات الجيوسياسية لحرب القرم وتأثيرها في القوى الدولية وفاعليتها في النظام العالمي تعود في الدرجة الأولى إلى أهمية القرم الجيوسياسية. وبطبيعة الحال، أهمية البحر الأسود في هذا الشأن.

الاتحاد السوفياتي أيضاً، في مرحلة “الحرب الباردة” ونظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يستطع صوغ علاقات أمنية وعسكرية دائمة في البحر الأبيض المتوسط وفي منطقة غرب آسيا حتى انهياره عام 1991، والسبب أن الغرب سبقه إلى هناك بالسيطرة على مكامن القوة والنفوذ، فباتت القوة السوفياتية تحاول اللحاق لا التأسيس، في الوقت الذي كان الغرب يتحكم في الممرات في البحرية عند تركيا ضمن حلف “الناتو” ويهيمن على الموارد في الشرق الأوسط.

منذ خمسينيات القرن الماضي وطوال الحرب الباردة، تمكّنت روسيا من الحفاظ على وجود دائم في البحر الأبيض المتوسط​​، وكانت تراقب تحركات الأسطول السادس للولايات المتحدة، من خلال قواعد الغواصات في ألبانيا، والتعاون العسكري مع سوريا ومصر جمال عبد الناصر، إلا أن حضورها بالتعاون مع بعض الدول في الشرق الأوسط سبقه تحرّك أميركي مؤثر وحاسم في أحيان عديدة؛ فالخطوات الأميركية كانت سابقة لذلك، وهو ما أثّر في التحرك السوفياتي في البحر الأسود كنقطة انطلاق ومساندة في البحر الأبيض المتوسط.

قبل خمسينيات القرن العشرين، ضغط الاتحاد السوفياتي على تركيا من أجل التفاوض مجدداً بشأن “اتفاقية منترو”، بهدف تقاسم السيطرة على البوسفور والدردنيل مع تركيا. بحلول عام 1946، عزز الاتحاد السوفياتي حضوره العسكري في البحر الأسود، ضاغطاً على حكومة أنقرة لقبول مطالبه. توجهت تركيا إلى الولايات المتحدة وطلبت مساعدتها، فردت الأخيرة بإرسال سفنها الحربية إلى المنطقة.

من خلال ما سمي “عقيدة ترومان” عام 1947، حاولت الولايات المتحدة الأميركية احتواء الحضور الروسي المتزايد في البحر الأبيض المتوسط، وذلك من خلال السعي إلى ضم تركيا واليونان إلى “الناتو”، وهو ما حصل مع حلول العام 1952.

الحضور السوفياتي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود لم يكن حضوراً جيوسياسياً ثابتاً، بل كان صراعاً ضمن مرحلة، وكان للغرب اليد الطولى فيه، سابقاً السوفيات بخطواته؛ ففي حينها، كانت المضائق التركية عند البحر الأسود في “أيدي العدو”، كذلك جبل طارق، مع الأخذ بالاعتبار أن الغرب كان متجذراً في مفاصل الأمن الإقليمي في المنطقة منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى ووصول جيوش “الحلفاء” أولاً إلى هناك وبناء أنظمة حليفة في مناطق التأثير.

الحضور الأمني بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط في القرن العشرين كان في معظم جوانبه نتاجاً لحرب القرم في القرن التاسع عشر. هذه الحرب أعطت بريطانيا وفرنسا أفضلية على روسيا، لأن الأخيرة فقدت توازنها العسكري والسياسي في محيطها الحيوي في المرحلة التي تلتها من خلال المعاهدات التي قيّدت حركتها.

عام 2014، كانت موسكو تعود إلى المربّع الأول وتعالج المشكلة من جذورها. دور روسيا في النظام الدولي، ومواجهة أحادية القطب، والسير في اتجاه التعددية، لم يبدأ من الحرب في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022.

عندما خسرت روسيا أسطولها العسكري في ميناء سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم عام 1856، كان ذلك إيذاناً بخسارتها حضورها الفاعل في البحر الأسود، ومن ثم في البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم في النظام الدولي.

استعادت روسيا توازنها وحضورها خلال حقبة الاتحاد السوفياتي، لكنها خسرت ذلك مع انهياره، وتراجع الوجود البحري الروسي في البحر الأبيض المتوسط ​​إلى لا شيء تقريباً. الأمر لم يقتصر على تراجع النفوذ، لأنه لم يرتبط أصلاً بذلك في المرحلة السابقة، فالحضور افتقد عوامل البقاء الجيوسياسية في الانتشار والتثبيت والمواجهة، وكان حضوراً تكتيكياً متأخراً، وفي إطار ردّ الفعل، لأنَّ الغرب كان يتقدم دائماً بخطوات في هذا المجال بين الحربين الأولى والثانية وخلال الحرب الباردة.

 

العودة إلى سيفاستوبل

من “قوة مهيمنة في القرن التاسع عشر، وقوة مرهقة خلال الحرب الباردة، وقوة منهكة بعد عام 1991″، عادت روسيا وفق مركز “الدراسات الإستراتيجية والدولية” الأميركي إلى منطقة البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط، ​​مع تراجع الوجود الأوروبي والأميركي في المنطقة.

المركز الأميركي، وضمن تحقيقه عن “الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة البحر الأسود: تاريخ موجز”، يرى أنّ العوامل الجيوستراتيجية لمنطقة البحر الأسود لم تتغيّر بالنسبة إلى روسيا منذ عام 1853، إذ استبدل الناتو والولايات المتحدة بالدول الأوروبية الفرديّة كمنافسين جيوسياسيين رئيسيين لموسكو: القرم هي المصدر العسكري، وتركيا هي المحور، والمضائق التركية هي الإنتاجية الإستراتيجية والهدف النهائي للوصول إلى شرق البحر المتوسط ​​والوجود العسكري فيه كقوة موازنة لتوسع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي شرقاً، ووجودها في بحر إيجه ووسط البحر الأبيض المتوسط.

بعد الانقلاب في أوكرانيا عام 2014 لمصلحة سلطة حليفة للغرب، خاطرت موسكو بعملية عسكرية سريعة هدفت من خلالها إلى استرجاع شبه جزيرة القرم وضمها. بشكل أساسي، كانت موسكو تقاتل في حينها للعودة إلى سيفاستوبل على البحر الأسود، وبشكل أدق عدم خسارته مجدداً لمصلحة “الناتو” (داعم الانقلاب) بحلّته المستحدثة، وقبل ذلك في جورجيا عام 2008، حيث تحافظ موسكو على وجود عسكري كبير في منطقة أبخازيا الممتدة مئات الأميال على الساحل الشرقي للبحر الأسود.

خطوات روسيا الأولى في اتجاه التعددية القطبية والنظام العالمي الجديد بدأت من هناك بمنع “الناتو” من الهيمنة على سيفاستوبل وضم جورجيا، وتواصلت في الفترة التي تلت ذلك من خلال ترميم القوة العسكرية في البحر الأسود، مع تعزيز الحضور في البحر الأبيض المتوسط، كنتيجة للتدخل العسكري في سوريا.

كما الغرب، فإنّ روسيا لا تفصل قوتها في البحر الأسود عن تلك الموجودة في البحر المتوسط. ويشرح “معهد الشرق الأوسط” الأميركي ومركزه واشنطن، في تقريره المعنون “يجب أن يكون البحر الأسود من أولويات الولايات المتحدة والناتو”، كيف سمحت السيطرة على شبه جزيرة القرم لروسيا باستخدام البحر الأسود كمنصة إطلاق في دعم العمليات البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، ذاكرةً كيف أدى طراد صواريخ “Moskva”، وهو طراد صواريخ موجه من البحرية الروسية، دوراً حيوياً في توفير الدفاع الجوي للقوات الروسية العاملة في سوريا خلال الأيام الأولى لتدخل موسكو فيها.

وسّعت روسيا من وجودها العسكري في البحر الأبيض المتوسط، خلال العقد الماضي بالتزامن مع مشاركتها في الحرب في سوريا، بداية من إنشاء “سرب البحر الأبيض المتوسط” ​​في عام 2013، وحفاظها على وجود بحري دائم في تلك المنطقة. ويستعرض مركز “جورج مارشال” هذا الأمر بدراسة مهمة عام 2019، قائلاً إن الوجود الروسي في شرقي المتوسط يعتمد بشكل أساسي على سفن من أسطول البحر الأسود، وبدعم من السفن والغواصات من الأسطول الشمالي وبحر البلطيق.

وعلى الرغم من أن الجغرافيا السياسية للمنطقة، والطبيعة الأكثر محدودية للقوات الروسية هناك، تعني أن موسكو ليس لديها السيطرة الدفاعية نفسها كما هي الحال في البحر الأسود، فإن قواتها في البحر الأبيض المتوسط، ​​وفق ما يذكره المركز، “قوية بما يكفي لتشكيل تحدٍ حقيقي للهيمنة البحرية للولايات المتحدة والناتو”.

الآن، وفي قراءة لمسار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإنَّ تركيز موسكو على المناطق الجنوبية للجبهة وإسراعها خلال الأيام الأولى إلى السيطرة على بحر آزوف وتحويله إلى “بحر روسي” يشيان برغبة روسية في توسيع دائرة السيطرة على البحر الأسود ضمن أكبر اتساعٍ لها، وصولاً إلى أوديسا، وهي آخر نقطة أوكرانية على البحر الأسود جنوباً.

وبينما تسمح قناة الفولغا-دون لروسيا بنقل السفن من بحر قزوين إلى بحر آزوف، ثم جنوباً إلى البحر الأسود عبر مضيق “كيرتش”، فإن إمكانية سعي روسيا لضم ترانسنيستريا المدعومة منها في مولدوفا، والتي يحدّها جنوباً البحر الأسود، وأبخازيا من الجهة المقابلة، ستحوّل هذا البحر بشكل شبه كامل إلى “بحيرة روسية”.

وبذلك، يمكن لروسيا فرض تعديلات على “المعاهدات” التي تحدّ من تحركاتها، باعتبار أنّ أيّ تعديل في الإستراتيجيات الخاصة بالبحر الأسود ستؤدي حكماً إلى تعديلات مشابهة في البحر الأبيض المتوسط، من خلال تطوير أو حتى تغيير المعاهدات التي ترتبط بالعبور من البوسفور والدردنيل. وبذلك، يكتمل خط روسيا الإستراتيجي الذي يمتد من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط.

هذا المسار سيؤمّن لروسيا تحركاً حراً في مختلف الصعد الأمنية والتجارية من قزوين إلى آزوف، ثم البحر الأسود، فالبحر الأبيض المتوسط، في حال تم تثبيت المعادلة العسكرية المذكورة التي تعتمد بشكل أساسي على نتائج الحرب في أوكرانيا، وعلى الأهداف المعلنة منها، والتي تتمحور أيضاً حول النظام العالمي بشكلٍ عام، كما يعلن المسؤولون الروس.

لكنَّ السؤال المطروح: هل التعديلات في النظام الدولي التي تنادي بها روسيا يمكن فرضها بعملية خاصة في دونباس فقط؟ وما الذي يمكن أن تستغلّه روسيا في ظل غياب إستراتيجية غربية واضحة بما يخصّ البحرين الأسود والأبيض المتوسط؟

السّؤال الأخير يتحدث عنه “معهد إيغمونت” في تقرير بعنوان “لا يوجد أمن لأوكرانيا أو أوروبا من دون أمن البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط”، ويرى أنَّ الوقت حان لتوسيع مجال رؤية أوروبا الجيوسياسية إلى ما كانت عليه قبل الحرب الباردة، والتي امتدت من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الرين، وشملت المضيقين عند البحر الأسود. سيكون من الصعب على الغرب، وفق المعهد، إن لم يكن من المستحيل، أن يكون لديه ردع موثوق به ورؤية جيوسياسية من دون “إستراتيجية بحرين” (الأبيض المتوسط والأسود) جادة وقابلة للتطبيق ومزودة بموارد جيدة، في الوقت الذي أدى عدم وجود إستراتيجيات أميركية وأوروبية ذات مصداقية في البحرين إلى “خلق فراغ”.

 

التاريخ ذاته بالمفهوم الجيوسياسي

يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومع اختلاف الرؤية والدوافع وطبيعة النظام، يقف عند العام 1783، لكن هذه المرة أمام دول غربية لا تمنعه من الخروج إلى “المياه الدافئة” فحسب، بل تهدد محيطه الحيوي أيضاً، بمعنى أن الغرب، في حال لم يتحرك للدفاع عن دوره وحضوره في النظام العالمي، سيعيده إلى تسعينيات الانهيار والانقسام.

التّاريخ لا يُقرَأ بالشّخصيات والدّوافع ذاتها فحسب، بل أيضاً بتشابه الأحداث والأدوار. وبمعزل عما كانت تريده روسيا في القرن التاسع عشر أو ما تهدف إليه في القرن الحالي، فإن المواجهة بين روسيا والغرب تستعيد العناوين ذاتها.

المسألة لا تتعلق بأهمية البحرين الأسود والأبيض المتوسط في القرار الدولي وموازين القوى، فهذا مفروغ منه بما يخص البحار والمحيطات ودورهما في هذا الشأن، بل تتعلّق بأهمية ذلك بالنسبة إلى روسيا ضمن إطار ما تسعى إليه من استعادة للدور والفاعلية، وهو ما يتحدّد من خلال القراءة التاريخية التالية:

– عندما انتصرت روسيا على الدولة العثمانية في حرب السنوات الست بين ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر، وضمت شبه جزيرة القرم، وفرضت سيطرة مؤثرة في البحر الأسود تسمح لها بالخروج بحرية إلى البحر الأبيض المتوسط، تغيّرت موازين القوى الأوروبية والدولية، فصعدت روسيا إلى مستوى “القوى العظمة” كقوة مؤثرة بعد فرنسا وبريطانيا على الصعيد الدولي.

– عندما هزمت في حرب السنوات الثلاث في القرن التاسع عشر لمصلحة فرنسا وبريطانيا، وخسرت حضورها ونفوذها في البحر الأسود والبحر المتوسط، تراجعت قوتها وتأثر حضورها، وبقيت حبيسة الجغرافيا المحيطة بها، وأزيحت من التأثير في النظام العالمي، وإن كان يختلف بمفهومه عن الواقع الحالي.

– عندما خسرت روسيا حضورها في البحرين الأسود والأبيض المتوسط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، برزت الأحادية القطبية كمؤثر وحيد في القرار الدولي على حسابها.

تعود روسيا إلى سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم، وطرادها “بطرس الأكبر” يتجوَّل في البحر المتوسط، فيما تحاول السيطرة على المنطقة الشمالية من البحر الأسود، في وقت يمكن لخطواتها أن تكون سابقة لقوى الغرب، مع عدم توفر إستراتيجية مواجهة عند الأخيرة.

هنا، التاريخ ذاته بمفهومه الجيوسياسي: لا يمكن أن يكون لروسيا قرار مؤثر في النظام العالمي، ولا يمكن لها أن تسقط أحادية القطب أو التفرد الغربي في القرار، كما تنادي من خلال الحرب في أوكرانيا، ما دامت غير مؤثرة في حضورها العسكري والأمني والسياسي في البحرين الأسود والأبيض المتوسط ضمن “إستراتيجية بحرين” خاصة بها. وبمعنى أدق، أن يكون وجودها في البحر الأبيض المتوسط بحماية واتصال مع أسطولها في البحر الأسود، والعكس صحيح، بما يتيح لها مواجهة النفوذ الغربي ومقارعته.

هذا ما كان يحلم به “بطرس الأكبر”، وأنجزته كاثرين الثانية، وفرّط فيه نيكولاي الأول، وحاول السوفيات الدفع به، فما الذي سيفعله فلاديمير بوتين لاستعادة دور “روسيا التاريخية” الذي تحدث عنه في خطابه في شباط/فبراير 2022؟

  • المصدر: الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع