السياسية- متابعات:

خلال الأشهر التي سبقت إطلاق موسكو عمليتها العسكرية، بدأت عملية تحشيد عسكري غير مسبوق عند الحدود الروسية مع المقاطعات الأوكرانية في شرقي البلاد وشماليّها، تضمنت عملية نقل لقوات روسية إلى الحدود البيلاروسية الأوكرانية شمالاً، وإلى القرم جنوباً.

عشية 24 فبراير الفائت، قُدّر حجم القوات الروسية التي شاركت في إطلاق العملية العسكرية ميدانياً بـ150 ألف عسكري روسي، توزّعت على 4 محاور للهجوم، ضمن نحو 40 كتيبة تكتيكية معززة، تركّزت بصورة أساسية في الشرق والجنوب.

بدأ الهجوم الروسي مع قصف جوي ليلي نجح، إلى حدّ كبير، في استهداف المراكز العسكرية وتجنب إيقاع خسائر مدنية، وتزامن مع بدء تقدّم الكتائب الروسية في محور القرم جنوباً في اتجاه خيرسون وميليتوبول، ومحور دونباس شرقاً من جهتين في اتجاه دونيتسك ولوغانسك، ومحور خاركوف وسومي شمالي شرقي أوكرانيا، ومحور كييف شمالاً، من جهات متعددة.

وشكّل الهجوم الروسي المباغت في اتجاه كييف من جهة بيلاروسيا، والوصول إلى مشارفها خلال الأيام الأولى من الحرب، ضغطاً هائلاً على النظام الأوكراني وقيادته العسكرية، التي كانت تتوقع هجوماً من الشرق، كما أدّت نتائجه إلى تغيّر في مسار الحرب وشكلها ووتيرتها.

 

معركة كييف

بعد قصف جوي واسع طال الدفاعات الجوية الأوكرانية والقواعد والثُّكَن والمخازن العسكرية والمطارات، شرعت القوات الروسية مع الفجر في هجوم هدفه شمالاً السيطرة على العاصمة الأوكرانية كييف؛ المدينة التي تحيط بها الغابات والأنهار وقرى ومدن صغيرة، وتتضمن طرقاً داخلية ضيقة.

وبسبب بدء ذوبان الثلوج في أواخر فبراير في المنطقة، بدأ الوحل يتشكل في الأراضي الزراعية، الأمر الذي جعل سلوك الطرقات الأساسية بالنسبة إلى كتائب الجيش الروسي ضرورة لا بدّ منها.

دخل نحو 40 ألف من قوات الجيش الروسي من جهات تشرنوبيل وتشيرنيهيف وسومي، وتمكّن نصفها من تجاوز نهر الدنيبر ودخلت مباشرة من جهة بيلاروسيا إلى الضفة الغربية منه، في وقت عطّلت روسيا اتصالات الجيش الأوكراني بصورة تامة.

 

محور تشيرنوبيل

في أقصى الغرب، سيطر الجيش الروسي على تشيرنوبيل وبريبيات ومحيطها، بعد معارك في إيفانكيف وديمر، وتقدّم بشكل سهمي جنوباً، نحو مطار أنتونوف قرب هوستوميل، حيث قامت قوات الكومندوس الروسية، في 25 فبراير، بإنزال نحو 300 جندي خلف خطوط الجبهة للسيطرة على المطار.

بعد معركة طاحنة، سيطرت قوات الكومندوس الروسية على المطار، بمساندة من قوات تتراوح بين 3 و4 كتائب قتالية روسية قامت بالالتفاف على المناطق العمرانية المشتعلة في الشمال، وسيطرت على هوستوميل في 26 فبراير.

في موازاة ذلك، قامت القوات الخاصة الروسية بعمليات أمنية في عمق المناطق الأوكرانية، هدفت إلى إشغال القوات الأوكرانية وتشتيتها وكسر معنوياتها، فضلاً عن تحقيق ضربات حساسة، فحدثت معركة في فاسيلكيف جنوباً للسيطرة على مطارها، كما جرت اشتباكات في عدة مناطق في كييف وضواحيها، لكنها لم تؤدِّ إلى اختراقات لأنّ الهجوم السهمي الروسي كان لا يزال يتقدم جنوبي هوستوميل.

بعد معارك محتدمة في بوتشا استمرت نحو أسبوعين، تمكنت القوات الروسية من السيطرة عليها والتقدم نحو إربين. وفي منتصف شهر مارس، وصلت القوات إلى وسط إربين، واخترقت عدة أحياء في موسشون ومكاريف، شرقي إربين وغربيّها، وسط معارك مستمرة مع القوات الأوكرانية. وكانت هذه الوضعية هي التقدم الأقصى الذي وصل إليه الهجوم على كييف في هذا المحور.

 

محورا تشيرنيهيف وسومي

كان يفترض أن يكون هذان المحوران من الشرق والشمال الشرقي للبلاد، الداعم الأساسي للهجوم من الشمال عبر تشيرنوبيل. تقدمت قوات روسية من 15 ألف عسكري، من بيلاروسيا إلى تشيرنيهيف فجر اليوم الأول من العملية العسكرية، بشكل طولي وحركة سريعة، هدفت أولاً إلى تقطيع طرق الإمداد إلى كييف من الشرق، وإسناد القوات المتقدمة إلى العاصمة عبر تشتيت القوات المدافعة عنها.

لم يستطع الروس السيطرة سريعاً على المدينة، فاكتفوا بالسيطرة على محيطها ومناطق واسعة في محاولة لمحاصرتها، لكنّ معركة كبيرة جرت في لوكاشيفكا، أدّت إلى تأخير إطباق الحصار الروسي على تشيرنيهيف، فتقدّم جزء من القوات المهاجمة في اتجاه كييف، لكن هذه القوات اصطدمت بكمائن كبيرة في الطرقات الأساسية التي لم يكن من الممكن تجاوزها، وكان آخرها في بوفاري على مشارف كييف، حيث توقف الهجوم الروسي.

حدث الأمر نفسه في سومي، حيث تقدمت قوات روسية تقدر بـ 15 ألف جندي بتشكيلات طولية، وتجاوزت مركز المدينة والمناطق العمرانية قدر الإمكان، متجهة نحو كييف غرباً، لكنّها اصطدمت بمواجهة عنيفة في زوغوريفكا، جنوبي تشيرنيهيف، الأمر الذي أوقف الهجوم من ناحية سومي عند هذه النقطة.

 

نقطة التحوّل الأولى: إلغاء الهجوم على كييف

في 29 مارس، بعد أكثر من شهر على بداية العملية العسكرية، بدأ الانسحاب الروسي من جميع المحاور التي تقدّمت في اتجاه كييف. وخلال أيام، كانت القوات الروسية تراجعت عن خطوط المواجهة الأساسية، ولاحقاً انسحبت إلى الحدود البيلاروسية. وقررت القيادة الروسية التركيز على تقدمها في دونباس والساحل الجنوبي.

لكنّ هذه النتيجة لم تكن بعيدة عن التوقع، والسبب هو أنّ القوات الأوكرانية، خلال العقد الأخير، تلقّت تدريبات واسعة في دول الناتو، ولا سيما على أيدي القوات الأميركية والبريطانية. ووصل عدد القوات المدربة إلى نحو 30 ألف جندي أوكراني. كما تدرّبت على استخدام تقنيات “ستارلينك” لتجاوز تقنيات الحرب الإلكترونية الروسية والمحافظة على قدرات الاتصال والتنسيق والسيطرة، وامتلكت الأسلحة الملائمة والمضادة للدروع، واستخدمت المسيّرات للاستطلاع والاستهداف.

من جهة روسيا، كان مخاطرةً كبرى تقدمُ القوات بشكل طولي مع عدم وجود خطوط إمداد ملائمة، وتأمين خلفي وجانبي كافٍ، ومع عدم إمكان استعمال التغطية الجوية بصورة مكثفة بسبب احتفاظ الأوكرانيين بدفاعات جوية لم تدمَّر في غارات الأيام الأولى. كما أدّى تجنّب استهداف الروس للمناطق المدنية بشكل واسع، في بداية الحرب، إلى استغلال القوات الأوكرانية للمناطق المدنية للاختفاء والتمركز وتوزيع المدفعية ونقاط الدعم، ولم يكن الروس مستعدّين لدفع فاتورة بشرية كبيرة من أجل اختراق الدفاعات الأوكرانية في كييف.

 

معركة دونباس والجنوب

بعد تحويل الهجوم عن كييف، تركّز الجهد الروسي، في العملية العسكرية، على دونباس ومناطق خاركوف ولوغانسك ودونيتسك وماريوبول وميليتوبول.

شكّل وجود حاضنة شعبية كبيرة للروس في المنطقة تسهيلاً كبيراً للعمليات العسكرية، لكنّ المعركة لم تكن سهلة، إذ إنّ القوات الأوكرانية، التي كانت تتوقع أن يكون الهجوم الروسي الأساسي من الشرق، لا من الشمال، عززت تموضع قواتها بشكل كبير عند تخوم دونباس.

وأدّت قوات دونيتسك ولوغانسك دوراً مهماً في توطئة الميدان ودعم القوات الروسية، إذ منعت أن تتكرر مشاكل الهجوم الأول نحو كييف إلى حدّ كبير، مع تأمينها الدعم وطرق الإمداد الأساسية، ومشاركتها في عمليات الاستطلاع والتوجيه ميدانياً.

تقدّم الروس بشكل عرضي في دونباس، وتجنّبوا الاختراقات السهمية المكلفة. دخلت القوات الروسية عبر كريمينايا وإيزيوم وبروباسنا شمالي لوغانسك، وحاصرت مدينة خاركوف المهمة، كما ثبتت سيطرتها على جزء كبير من دونيتسك، وحاولت التقدم في اتجاه أدفييفكا ومارينكا.

أمّا جنوباً، فسقطت خيرسون، بضفتيها، سريعاً، في يد موسكو، في منتصف مارس، وتقدّمت المدرعات الروسية نحو كريفوي ريغ. أما في ماريوبول الساحلية، المدينة الاستراتيجية بالنسبة إلى روسيا، نظراً إلى إشرافها على القرم وقربها من المناطق الروسية، فسيطر الروس بشكل سريع على معظم المدينة. وبعد السيطرة على الميناء، بقيت المدينة الصناعية في آزوفستال أشهراً تحت حصار تامّ، انتهى باستسلام القوات الموجودة فيها، والتي تضمنت قوات من عدة جنسيات، في 20 مايو.

في وسط أبريل، بدا واضحاً أنّ القوات الروسية بدأت تثبت سيطرتها على حزام دونباس بالكامل، وتتجه إلى تحرير سائر المناطق الغربية فيه. وعلى الرغم من المعارك الطاحنة التي شهدتها الجبهة، فإن القوات الأوكرانية، المدعومة من الغرب، لم تتمكن من منع السيطرة الروسية التامة على المناطق الرئيسة في دونباس، والتي توّجت بإعلان انضمام الجمهوريتين، دونيتسك ولوغانسك، إلى روسيا أواخر سبتمبر.

 

السيطرة على الساحل واستهداف “موسكفا”

كانت العملية الروسية جنوباً تتجه نحو السيطرة على الساحل الأوكراني، والذي تُعَدّ مدينة أوديسا محوره الأساس. وكانت التقديرات تشير إلى توجّه الروس نحو القيام بإنزال بحري كبير يترافق مع تقدم برّي، على نحو يمكن أن يُسقط المدينة.

لكنّ استهداف البارجة الحربية “موسكفا”، في 13 أبريل، أدّى إلى مراجعة الروس حساباتهم مجدداً، إذ إنّ التقدّم السريع، الذي لم ينجح براً في تحقيق النتائج المرجوة منه بداية الحرب، وأدّى إلى تغيّر الاستراتيجية الروسية التي تعتمدها موسكو في عمليتها العسكرية، انسحب بدوره على البحر، بحيث أظهر استهداف البارجة “موسكفا”، عبر صواريخ دقيقة، أنّ الأمور تحتاج إلى نمط قتال أكثر هدوءاً.

 

الدعم الغربي يتعاظم

بعد نحو 3 أشهر من بداية العملية العسكرية الروسية، تكبّد الجيش الأوكراني خسائر فادحة في قواته وعتاده، وتحدّثت تقديرات عن أنّ الجيش الأوكراني، الذي كان موجوداً قبل إعلان موجات التعبئة الشعبية عقب بداية الحرب، فقدَ معظم تشكيلاته وفعاليته، وتحوّل إلى جيش من القوات الشعبية قليلة الخبرة في المعارك والقتال.

لكنّ الدول الغربية بدأت، في المقابل، حملة واسعةً لدعم صمود الحكومة في كييف والقوات الأوكرانية في الجبهات، عبر الدعم العسكري المباشر من خلال تقديم المعلومات الاستخبارية المهمة بشأن توجيه الضربات المدفعية، أو كشف التحركات الروسية، أو عبر تأمين أجهزة الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية من خلال شبكة “ستارلينك”، وكذلك عبر تقديم الاستشارات العسكرية والخبراء، وعبر تدريب آلاف الجنود الأوكرانيين وتقديم الأسلحة والذخائر.

لكنّ الدعم الغربي تدرّج عبر مراحل، رسمت كلّ واحدة منها معادلات جديدة في الميدان، إذ شكّل تقديم الناتو والدول الغربية أكثر من 100 مدفع هاوتزر من نوع “أم-777″، مع عشرات آلاف القذائف، في مايو، أولى النقلات التي شهدتها المعارك ضد القوات الروسية، إذ أصبحت قادرة بصورة أكبر على تأمين تغطية نارية مدفعية بعيدة المدى لتحركاتها، كما أصبح في إمكانها استهداف المناطق التي سيطرت عليها القوات الروسية، وتصعيب قدرتها على التموضع فيها.

وشكّل تقديم منظومات الصواريخ الأميركية، سريعة الحركة، من طراز “هيمارس” و”MLRS 270″، بدءاً من يونيو الفائت، نقطة تحوّل أخرى، إذ أصبح في إمكان القوات الأوكرانية أن تستفيد من الإحداثيات الدقيقة التي تصلها من الاستخبارات الغربية والأقمار الاصطناعية، ومن صواريخ “هيمارس” الدقيقة، والتي يصل مداها إلى نحو 80 كم، لضرب القوات الروسية بدقة، ولا سيما المراكز الحساسة ونقاط التجمع ومخازن الذخيرة.

وبدأت المدرّعات القتالية الخفيفة وناقلات الجند المدرّعة، كـ”بي أم بي” المحدّثة و”ماستيف” و”هاسكي” و”هامر”، تتدفق على كييف من الدول الأوروبية، ولا سيما من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبولندا، من أجل تعويض خسائر المرحلة الأولى من الحرب، ولتأمين انتقال الجنود الأوكرانيين بصورة فعالة في مناطق الجبهة. كما وصلت عشرات المدافع ذاتية الحركة، كـ “مستا-أس” و”قيصر” و”أم-109″، بالإضافة إلى دبابات “تي-72” المحدّثة.

 

استمرار التقدم الروسي في يونيو

عرف الشهر الرابع من العملية العسكرية تقدماً روسياً مهماً في جبهة دونباس، ولا سيما شمالي الحزام الذي شكّل محور الاهتمام الروسي في المرحلة الثانية من العملية، إذ سيطرت قوات موسكو على مناطق مهمة في إيزيوم، ليمان، سيفيرودونيتسك، وليزيتشانسك، عقب هجوم منسق ومتوازن استمرّ منذ منتصف أبريل، بقيادة الجنرالين ألكسندر لابين وسيرغي سوروفيكين، الذي سيصبح قائد العملية العسكرية لاحقاً.

كذلك، شكلت السيطرة الروسية على معظم خيرسون سبباً في البدء بإصدار جوازات سفر روسية لسكانها، بينما كانت القوات الروسية تتقدم بصورة بطيئة في سائر الجبهة. لكنّ التقدم والانتشار الروسيّين في مساحات واسعة، تحت أعين الاستطلاع الغربي، وعدمَ ضخّ أعداد كافية من الجنود الروس تكفي لتغطية الجبهة، كانت مخاطرة دفع الروس لاحقاً ثمنها.

كذلك، انسحبت القوات الروسية من جزيرة زمينيي (الأفعى) في مقابل أوديسا، بعد عدة محاولات أوكرانية للسيطرة عليها واستهدافها، وبعد معلومات روسية مفادها أنّ صواريخ مضادة للسفن وصلت إلى كييف، في محاولة لتكرار ضربة البارجة “موسكفا”، الأمر الذي أشار بمنظور أوسع إلى أنّ الخطط الروسية بشأن التقدم نحو المدينة الساحلية أوديسا لم تعد أولوية لدى القيادة العسكرية في موسكو.

 

نقطة التحوّل الثانية: الانسحابات الروسية الجزئية في الخريف

تركت نحو 6 أشهر من المعارك العنيفة، بعد تقدم غير متناسق، خريطة الجبهة الأمامية للعملية العسكرية الروسية مبعثرة ومترامية الأطراف.

فعلى الرغم من النجاحات العسكرية في مختلف مناطق جبهة دونباس، لم يكن عديد القوات الروسية كافياً للحفاظ على زخم المعارك في مقابل الحملات الأوكرانيّة للتعبئة والتجنيد، والتي أمّنت عشرات الآلاف من القوات، وساهمت المساعدات العسكرية وعمليات التدريب الميدانية في تحضيرها لهجوم واسع بدأ يتسارع منذ منتصف أغسطس.

 

خيرسون

بعد قصف متواصل لأسابيع، تمكنت القوات الأوكرانية من رفع الضغط عن الجبهة الغربية من خيرسون. وعلى الرغم من السعي الروسي لتحشيد القوات جنوباً، فإن موسكو لم تتمكن من مجاراة حجم التجنيد الأوكراني.

لاحقاً، سيصبح هذا الأمر سبباً في إعلان الرئيس الروسي بوتين حملة تعبئة جزئية في روسيا في 22 سبتمبر، لرفع عديد القوات المشاركة في الحرب، وهو مطلب كان عدة قيادات روسية تضغط في اتجاهه منذ الأشهر الأولى من العملية.

في منتصف سبتمبر، كان واضحاً أن التقدم الأوكراني في المنطقة يدفع الروس في اتجاه الانسحاب منها، أو المخاطرة بتكلّف خسائر كبيرة للدفاع عنها.

قامت القوات الأوكرانية بمناورة مهمة. فمع نقل موسكو مزيداً من قواتها من الشمال إلى جنوبي الجبهة، لمعالجة مشكلة تفاوت الزخم البشري بين الطرفين، قامت بمخاطرة كبيرة بتخفيض عديدها في إيزيوم وليمان ومعظم جبهة خاركوف، بينما كانت الاستخبارات الغربية تراقب توزيع القوات الروسية بشكل حثيث.

 

خاركوف

أطلقت القوات الأوكرانية هجوماً مفاجئاً وموازياً على جبهة خاركوف، مستفيدة من عدة عوامل ميدانية، الأمر الذي اضطر القوات الروسية إلى تنفيذ عملية انسحاب كبيرة من خاركوف، وإيزيوم، ومناطق واسعة من ليمان وكوبيانسك.

سوروفيكين، القائد الجديد للعملية العسكرية في أوكرانيا، اقترح الانسحاب من خيرسون لمنع وقوع خسائر كبيرة في القوات نتيجة أي هجوم أوكراني جديد، ولا سيما أنّ نهر الدنيبر يشكل العائق الطبيعي الأفضل الذي يسمح بإعادة تحضير القوات الروسية لهجوم مفترض، وهو ما يحتاج إلى وقت نظراً إلى ضرورة تدريب القوات الجديدة وتغيير عدد من التكتيكات التي أثبتت عدم نجاعتها.

في منتصف نوفمبر، انسحبت القوات الروسية بشكل كامل من الضفة الغربية لخيرسون، فيما بدا أنه يُدخل العملية العسكرية في تعقيد يتطلب تغييرات كبيرة في طبيعة القتال الروسي في مقابل الزخم الغربي المتزايد في دعم كييف.

 

نقطة التحوّل الثالثة: عودة التقدم الروسي والتراجع الأوكراني

مع انتهاء التعبئة الجزئية في روسيا مع بداية نوفمبر، وبدء التدريب الواسع للقوات الجديدة، كان واضحاً أن موسكو لا تزال عازمة على تحقيق أهداف عمليتها العسكرية بالكامل وعدم تقديم أي تنازل عن مكاسبها الحالية أو المخطط لها، كما كان يراهن الغرب.

استفادت القوات الروسية من عدة عوامل وظفتها القيادة العسكرية الجديدة للجبهة في تغيير معادلات الميدان، وهي اقتراب الشتاء الذي يعني نسبياً انخفاضاً في القدرة الأوكرانية على تنفيذ عمليات قتالية مباغتة وهجوم واسع، وزيادة الضغط على الدول الأوروبية التي ستمرّ في أوّل شتاء من دون تدفقات الغاز الروسي.

كذلك، استفادت من عاملين ميدانيين مهمين، أولهما استحداث تكتيك الهجمات الصاروخية الدقيقة والواسعة، والتي استهدفت البنية التحتية الأوكرانية في مختلف مناطق البلاد||، ومن ضمنها العاصمة كييف، وثانيهما ضخّ المسيّرات الانتحارية بعيدة المدى في الأجواء الأوكرانية ضمن تكتيكات ناجحة، أدّت في مجملها إلى إشغال القيادة الأوكرانية بمعالجة أوضاع الجبهة الداخلية، التي ظلت طوال الفترة الماضية بعيدة نسبياً عن المواجهة.

وأدى ذلك إلى تدمير مخازن ومصانع ومراكز عسكرية مهمة، وضرب خطوط إمداد آمنة، كانت استفادت منها كييف خلال الفترة الماضية في تأمين نقل الجهود الميدانية وعمليات الهجوم المباغتة. وأثبت ذلك أنّ موسكو لا تزال في جعبتها خيارات متقدمة لم تستخدمها بشكل واسع بعدُ، وعكس تفوقاً تقنياً نوعياً في مقابل السلاح الغربي، ولا سيما الدفاعات الجوية التي فشلت في صدّ الهجمات الصاروخية أو المسيّرات الانتحارية بعيدة المدى.

أعاد كلّ ذلك، تزامناً مع تدريب ما يزيد على 150 ألف عسكري روسي جديد وبدء ضخّ قوى بشرية جديدة في الجبهة، التوازنَ إلى خطوط العملية العسكرية، بينما عملت مصانع الذخيرة والسلاح بشكل مكثف على عمليات تصنيع دبابات “تي-90” والمدرعات القتالية الحديثة والقذائف المدفعية بشكل خاص، والتي ستكون ركيزة أي عملية عسكرية برية روسية جديدة.

 

القوات القتالية الخاصة – فاغنر

في الوقت الذي استحوذ انسحاب القوات الروسية من خاركوف وخيرسون على معظم الاهتمام في الخريف، كانت القوات القتالية الخاصة، “فاغنر”، في المقابل، تدافع بشكل ناجح عن خط الجبهة في وسط دونباس، وتحافظ على وتيرة ثابتة من التقدم البطيء المعتمد على عمليات عسكرية مغايرة، إلى حدّ كبير، لتلك التي اعتمد عليها الجيش الروسي طوال الفترة الماضية.

ركّزت تكتيكات “فاغنر” على التقدّم بناءً على اختراقات بالاعتماد مجموعات قتالية خفيفة لا تتجاوز العشرات، مع تنسيق عالٍ لنيران المدفعية والاستطلاع وحيوية ومرونة كبيرتين في الميدان، مبنيتين على طبيعة المعركة ومتطلباتها وظروفها المتغيرة، الأمر الذي قلل الخسائر بصورة كبيرة لدى الروس.

لاحقاً، ستصبح هذه الطريقة في القتال هي المشكلة الرئيسة للقوات الأوكرانية، إذ سيصبح التفوّق الكبير في الخبرات القتالية لدى مجموعات “فاغنر” عاملاً كاسراً للتوازن مع القوات الأوكرانية، التي تفوقها من ناحية العدد، وتتخذ مواقع دفاعية وتحصينات، كان يفترض أن تزيد في أفضليتها في أرض المعركة.

يمكن القول إنّ السيطرة التامة على سوليدار، في مطلع كانون الثاني/يناير، بعد أشهر من القتال المنتظم والمنسق، ووضوحَ عدم قدرة القوات الأوكرانية على تنفيذ أي هجوم مضاد، نظراً إلى قوة التثبيت الدفاعي المتزامن مع التقدم الروسي هناك، مثّلا، إلى حدّ كبير، نقطة تحوّل في معركة الشتاء.

لقد شكّل نصراً معنوياً لموسكو بعد أشهر من الضغط الأوكراني، كما عبّر عن أنّ “فورة” الدعم الغربي لكييف لم تكن أكثر من “إبرة أدرينالين”، كما عبّر بعض القادة الروس، هدفت إلى إطالة أمد المعركة، بينما يعلم الغرب بأنها عاجزة عن تغيير موازين القوة نحو تحقيق أي نصر أوكراني، ولا سيما أنّ التكاليف البشرية للحرب خلال الخريف كانت باهظة على كييف.

 

إلى أين وصلت الأمور اليوم؟

بعد سوليدار، استمرّ التقدم الروسي البطيء على طول محاور التقدم عند خطّ دونباس، ولا سيما في اتجاه تطويق أرتيوموفسك (باخموت) ومدينة أوغليدار، مع تثبيت دفاعي محكم في المناطق المسيطر عليها. كما حدثت تقدمات مهمة في محور زاباروجيا جنوباً وكريمينايا شمالاً، الأمر الذي عكس تغيّراً جذرياً في تكتيك الحرب بعد قرابة عام على انطلاقها.

فالعملية، التي أراد الضباط الروس أن تكون سريعةً وخاطفة، أظهرت أنّ الغرب مستعدّ للتضحية بكلّ أوكرانيا في سبيل هزيمة روسيا، الأمر الذي جعل عقلية العمليات العسكرية السابقة في جورجيا عام 2008، والقرم عام 2014، غير ناجحة، وأثمر بعد أشهر طويلة من القتال تحوّلاً نحو منطق أكثر عقلانية في التخطيط وأكثر عملانية في التنفيذ، يمكن اعتباره الإنجاز النوعي الأكبر للجيش الروسي وقيادته خلال الحرب، والأخطر على صنّاع القرار الغربيين الذين يراقبون بقلق مجريات الميدان الأخيرة.

تعكس الهبّة الغربية المستعجلة خلال الشهر الأول من عام 2023، نحو تسليح كييف بمئات الدبابات ومليارات الدولارات من العتاد، قلقاً حقيقياً من أنّ موسكو تحضّر شيئاً جديداً في أوكرانيا، مغايراً تماماً للهجوم السابق، العام الفائت.

فالعمليات البطيئة نسبياً للجيش الروسي والقوات القتالية الخاصة، مع استخدام تكتيكات متقدمة وفعالة على مستوى استخدام المدفعية والصواريخ والمسيّرات الانتحارية والاستطلاعية، يمكن أن تشكل المفتاح لاستنزاف هائل لقدرة الجبهة الأوكرانية على الصمود، وتمهّد لانهيارات مفاجئة في صفوف القوات التي تزداد يوماً بعد يوم تكلفة دعمها، سياسياً واقتصادياً، على العواصم الغربية.

ويبدو أنّ القيادة العسكرية الروسية، التي خبرت الميدان الأوكراني خلال العام الفائت، باتت تدرك أنّ الحماسة نحو تحقيق الإنجاز الميداني هو نقطة الضعف التي استغلّتها أوكرانيا خلال الفترة الماضية، والتي في حال تقدّمت عليها الدراسة المتوازنة للقدرات والميدان والعدو، مع طبيعة الهدف المرحلي والأهداف الاستراتيجية من العملية، ستكون أكثر قدرة على تحقيق نصر حقيقي يجبر كييف على التنازل والرضوخ للشروط الروسية لوقف الحرب، ولو احتاج الأمر إلى مزيد من الوقت، الذي بات مكلفاً للغرب، في مختلف المستويات.

فبعد عام على الحرب الطاحنة بين موسكو والتحالف الغربي في أوكرانيا، يبرز أمر مؤكّد واحد، وسط كل تعقيداتها واحتمالاتها: لا يزال الوقت مبكّراً على التنبؤ بالشكل الذي ستنتهي إليه.

  • المصدر: الميادين نت
  • المادة تم نقلها حرفيا من المصدر وبتصرف ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع