قراءة في فكر فلاديمير بوتين.. روسيا لم ولن تُلدغ من الجحر نفسه مرتين
أحمد موسى حوماني
“إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا، فعليك أن تعرف ماذا يجري في البرازيل”، جملة كانت دوماً حاضرة على لسان الممثل الراحل نهاد قلعي في دور “حسني البورظان” في مسلسل “صح النوم”، وهي تعبّر عن واقعنا في الوقت الحاضر، فالعالم أصبح مترابطاً بشكل كبير، وأي حدث يحصل في أي مكان من العالم يؤثر، بطريقة ما، على الأحداث في مناطق أخرى من هذا العالم.
وليس بعيداً من ذلك، إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في أوكرانيا، فعلينا أن نعرف ماذا جرى في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي أواخر القرن الماضي.
كان دخول روسيا الاتحادية إلى أوكرانيا مفاجئاً لكثير من المحللين السياسيين الغربيين، الذين رأوا في الدخول الروسي محاولة لتغيير النظام في أوكرانيا، وأن ذلك جزءٌ من الأطماع الروسية في أوكرانيا؛ لما لها من أهمية اقتصادية عالمية.
أما المحللون السياسيون المؤيدون لروسيا، فقد عدّوا التدخل الروسي حمايةً للناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا، لا سيما في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وما تعرضوا له من مضايقات خلال السنوات الماضية. لكن الحقيقة كشف عنها الرئيس بوتين في خطابه بتاريخ 21/12/2022 أمام جمع من القيادات العسكرية الروسية بقوله: “إن الهدف الرئيسي لأعدائنا هو تفتيت روسيا”.
بوتين عاد بالذاكرة إلى تسعينيات القرن الماضي، حيث كان الاتحاد السوفياتي هو الدولة العظمى المقابلة للولايات المتحدة الأميركية، والمناهضة لسياستها في مختلف أنحاء العالم. يومها، كان الاتحاد السوفياتي يضم خمس عشرة دولة، ومثلها تقريباً تدور في فلكه السياسي والاقتصادي والأمني. وعلى ما يقرب من خمسين عاماً، وقف الاتحاد السوفياتي، ومن معه، نداً للسياسات الأميركية خصوصاً، والغربية عموماً، فيما عُرف حينها بالحرب الباردة.
وبالرغم من أن هذه الحرب الباردة أوجدت بؤراً ساخنة في العالم، وبالرغم من الضغط الغربي والأميركي والسياسي، لم ينحنِ الاتحاد السوفياتي أمام أميركا والغرب.
ما لم تستطع أميركا الحصول عليه بالضغط السياسي حيناً وبالعسكري أحياناً، استطاعت الوصول إليه عبر النموذج الاقتصادي، وصورة اقتصاد الرفاه والشركات العابرة للقارات التي شكلت نموذجاً للحياة تطمح إليه شعوب العالم كافة.
الثورات التي بدأت في بولندا استكملت مسيرتها في المجر وألمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وألبانيا ويوغسلافيا ودول البلطيق، كانت نقطة التحوّل في خنق الاتحاد السوفياتي، الذي سرعان ما انهار أمام هذه الموجة العالمية من الضغط الداخلي والخارجي.
وبحلول عام 1991، حل الاتحاد السوفياتي نفسه ما نتج منه (إضافة إلى روسيا) ميلاد أربع عشرة دولة، هي: أرمينيا وأذربيجان وروسيا البيضاء وإستونيا وجورجيا وكازخستان ولاتفيا وليتوانيا ومولدافيا وطاجكستان وتركمستان وأوكرانيا وأوزباكستان وقيرغزستان.
هذا الانهيار أدى إلى إلغاء الاتحاد السوفياتي بصيغته المعروفة، ونتج منه أيضاً إعلان الاتحاد الروسي الذي يضم نحو 85 مقاطعة روسية. لكن، لم يمر زمن طويل حتى استطاع الاتحاد الروسي إعادة بناء قوته السياسية والعسكرية من جديد، وهذه المرة ضمن اقتصاد فعّال وعملي ومنتظم، يملك كل مقوّمات القوة والاقتدار.
أعاد فلاديمير بوتين روسيا الاتحادية إلى الساحة العالمية، واستطاع إعادة لمّ شمل عدد من دول الاتحاد السوفياتي السابق، لكن ضمن اتفاقات ومعاهدات ترعاها الأنظمة الدولية المعروفة، وبدا أنه قد استعاد بعض أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق. لكنه كان منتبهاً جداً لنقاط الضعف الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي ساهمت في سقوط الاتحاد السوفياتي السابق.
عودة روسيا الاتحادية إلى الساحة الدولية، وبهذا القدر من الإمكانات الاقتصادية القوية، والانفتاح الثقافي والفكري والسياسي على العالم، لم يَرُق للولايات المتحدة الأميركية التي اعتقدت أنها أصبحت منفردة على رأس الهرم العالمي، وأنها ستقود العالم كما تشاء، وهذا ليس بعيداً من التنظير لنهاية العالم، كما روّج لها فرانسيس فوكوياما.
اليوم، روسيا الاتحادية ليست بحاجة إلى مساعدات اقتصادية، والشركات العالمية موجودة في كل أرجائها، وكل ما هو موجود في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا من تكنولوجيا ومطاعم وألبسة وسيارات وغيرها أصبح موجوداً في روسيا الاتحادية. وأكثر من ذلك، فقد أصبح أصحاب رؤوس الأموال الروس من مالكي عدد من الشركات والمصانع والأندية العالمية في أوروبا وغيرها. وفي الوقت نفسه، لم يعد النموذج الأميركي حلماً للشعب الروسي، ولا لكثير من شعوب العالم.
لم يتحمّل صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأميركية هذا الصمود الروسي، وبدا أن روسيا قد تتحوّل لاحقاً إلى نموذج جديد يكون قدوة لعدد من الدول في العالم، خصوصاً أن شبكة علاقاتها الدولية امتدت على قارات العالم أجمع. لذا، كان المخطط الأميركي إضعاف الاتحاد الروسي وعودته إلى الحظيرة الأميركية من جديد.
وكعادة السياسة الأميركية التي تلجأ إلى تفعيل خططها التي أصبحت معروفة لمن يريد أن يفهمها، فالاتحاد الروسي اليوم بعيد من القيام بأي انقلاب عسكري، ولا الشعب الروسي تنفع معه خدع الثورات الملوّنة، ولا بين سياسيي روسيا اليوم من هو من عملاء “السي آي إيه”، بل ليس بينهم اليوم من يؤيد السياسات الأميركية في كل أنحاء العالم.
لقد سدّ بوتين كل المنافذ التي من الممكن أن تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية لإحداث تغيير في الاتحاد الروسي، لذا لجأت إلى سياسة التقطيع والتقسيم، ولكن ليس بشكل علني.
أولاً، عبر محاولات عزله، من خلال الانقلابات في الدول المجاورة للاتحاد الروسي، مثل كازخستان وروسيا البيضاء وغيرهما، وثانياً حرمان روسيا من بعض نفوذها القريب منها كما في جزيرة القرم، لوغانسك ودونيتسك، وصولاً إلى الولوج إلى أقاليم روسيا الاتحادية المهمة لإيجاد نزاعات عرقية وقومية والعمل على انفعال بعضها، خصوصاً من يملك منها إمكانات اقتصادية مهمة.
لكن فلاديمير بوتين، الذي عايش انهيار دول أوروبا الشرقية من حول الاتحاد السوفياتي، ولاحقاً انفصال عدد من الدول عن الاتحاد السوفياتي، التقط باكراً الخطة الأميركية التي ستضع أراضي روسيا الاتحادية تحت الخطر، من خلال سيطرة الجيش الأوكراني على لوغانسك ودونيتسك وجزيرة القرم، فقام بما لم يتوقعه صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأميركية، ودخلت قواته العسكرية إلى أوكرانيا؛ معلناً أن تفتيت روسيا الاتحادية سيبقى حلماً أميركياً لن يتحقق، وأن الاتحاد الأوروبي والولايات الأميركية هي التي ستكون في دائرة خطر التفكك والانفصال لأسباب عديدة، أهمها أن الحرب في أوكرانيا سيجعلها بوتين السبب المباشر في ذلك.
- المصدر: الميادين نت
- المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع