السياسية:

يوجد نزاع بحري بين الصين والفلبين، وصل إلى محكمة العدل الدولية، والآن يسعى جو بايدن إلى تأجيجه من خلال التركيز على دعم واشنطن لمانيلا، فلماذا يعتبر هذا الرهان مقامرة مرعبة للطرف الأضعف في المعادلة؟

فبعد أن وصلت الأمور إلى حافة الدخول في مواجهة غير متكافئة بطبيعة الحال، قررت مانيلا اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لإثبات أحقيتها في تلك الجزر، لكن الأمور شهدت تطورات كثيرة على مدى العقدين الماضيين.

ففي أوائل القرن الحادي والعشرين، بدأت الصين في تأكيد ما تسميه “حقوقها التاريخية” للسيطرة على أحد الممرات المائية الكبرى في العالم، والذي يغطي الغالبية العظمى من 1.3 مليون ميل مربع من بحر الصين الجنوبي.

وضعت الصين خرائط جديدة تُظهر ما أصبح يُعرف باسم “الخط المكون من تسعة فواصل”، والذي يمتد جنوباً من البر الرئيسي الصيني إلى المياه التي تقترب من شواطئ العديد من البلدان الأخرى في المنطقة.

الفلبين والصين.. مواجهة بحرية غير متكافئة
تستند الصين في موقفها إلى التاريخ، حيث أحيَت الحجج القديمة من الحقبة القومية حول كيفية تعامل التقاليد الصينية مع المياه، كجزء من المجال السيادي للصين، بالقول إن الملاحين الصينيين هم من اكتشفوا جزر البحر العديدة في العصور القديمة، ونادراً ما كان هناك خلاف منذ ذلك الحين.

وبعد مواجهة دامية مع فيتنام حول إحدى تلك الجزر في سلسلة سبراتلي في عام 1988، حيث أُطلِقَت النيران على 64 بحاراً فيتنامياً ومشاة بحرية في مكان يُدعى جونسون ساوث ريف، أثناء سعيهم للاحتفاظ بمواقعهم هناك، بدا أنه كان هناك فقط دولة واحدة تقف في طريق الصين نحو هدفها في الحصول على القبول الإقليمي.

وتناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه “رهان بايدن المحفوف بالمخاطر على الفلبين لمواجهة الصين”، كيف أن مانيلا تسعى إلى الاستقواء بواشنطن في مواجهة بكين، لكن ما تريده إدارة بايدن أمر مختلف تماماً، ولا يصب في صالح مانيلا بأي حال من الأحوال.

فالفلبين دولة تتكون من جزر في ذلك البحر، والعديد من هذه الجزر صغيرة، وكان اقتصاد الدولة- الأفقر بكثير من جارتها الأكبر- يعتمد على استغلال رواسب النفط في أعماق البحار، في مناطق داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تبلغ مساحتها 200 ميل بحري، وبالتالي حُدِّدَت تقليدياً بموجب القوانين الدولية لجزر البحر.

ونظراً لافتقار الفلبين إلى وسائل مراقبة مياهها الخاصة، في عام 2013، لجأت إلى القانون الدولي، حيث رفعت قضية أمام محكمة تحكيم في لاهاي بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، بهدف إبطال “الخط الصيني المكون من تسعة فواصل”.

ويبدو أن بطاقة مانيلا المتميزة هي أن كلا البلدين وقَّعا على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 1994. وقالت بكين على ما يبدو أن ادعاءاتها كانت على أساس قانوني هش، وقالت إن المحكمة في لاهاي ليس لها ولاية قضائية، وسيتم تجاهل حكمها، حتى إن الصين رفضت رفع قضية.

لكن المحكمة واصلت نظر القضية التي رفعتها الفلبين، وفي يوليو/تموز 2019، أصدرت قراراً بالإجماع بالرفض شبه القاطع لادعاءات الصين، ووجدت أن تأكيدات الاكتشاف تاريخياً لم تكن بديلاً عن سجل راسخ للتحكم الفعلي. ورغم كل خطابها الجريء، وجدت قوة عظمى (الصين) نفسها في موقفٍ دفاعي من قبل قوة صغيرة (الفلبين).

ومع ذلك، لم تتراجع الصين أو تكتفي بأن تلعق جراحها، بل استجابت بتسريع كبير في جهودها للسيطرة على بحر الصين الجنوبي، وهو ممر مائي يمر عبره جزء هائل من التجارة العالمية. وبدأت في بناء الجزر من الصفر وتوسيع الشعاب المرجانية في جميع أنحاء البحر، ما منحها بلدات ومدناً حديثة البناء وبؤراً عسكرية مليئة بالمعدات المتطورة.

الإسلام في الفلبين

وفي سياق السعي لتأكيد أفضليتها في البحار، اعتمدت الصين على ثلاثي الرعب المتمثل في الأسطول وخفر السواحل والميليشيات البحرية، التي هي عبارة عن آلاف السفن الصغيرة التي يصفها الغرب بأنها سفن تابعة للأسطول الصيني، بينما ترفض بكين هذا التوصيف، وتقول إنها سفن صيد مدنية.

وتصدّرت تلك السفن الصينية التي تدور المزاعم حول كونها ميليشيات بحرية عناوين الأخبار، في مارس/آذار 2021، عندما احتشدت أكثر من 200 سفينة صيد صينية حول منطقة الشعاب الصخرية “ويتسون ريف” Whitsun Reef، وهي ملكية فلبينية في سلسلة جزر “سبراتلي” Spratly، الواقعة في بحر الصين الجنوبي.

وقال المحللون في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) في سنغافورة، إنهم لم يروا قط عمليةً صينيةً بحرية بهذا الحجم من قبل: “واقعة (ويتسون ريف) لم يسبق لها مثيل من حيث الحجم، والأهم من ذلك من حيث طول المدة، فقد تجمَّع أكبر عدد شهدناه في أي وقت من سفن الصيد الصينية على تخوم إحدى مناطق الشعاب الصخرية في أرخبيل سبراتلي، وبقيت هناك لعدة أسابيع”.

أمريكا تدخل على خط الأزمة
ومع ذلك، بدا أن كل شيء يشير إلى أن الولايات المتحدة ستحاول تعزيز نظام تحالفها في شرق آسيا، من خلال مساعدة إحدى الدول الأضعف في المنطقة، وهي الفلبين، في حماية مطالبها الإقليمية في البحر.

كان هذا حتى يونيو/حزيران 2016- قبل أسبوعين فقط من إعلان حكم لاهاي- عندما أصبح رودريغو دوتيرتي رئيساً للفلبين. باختصار، استفاد دوتيرتي من الاستياء المستمر في بعض أوساط الاستعمار الأمريكي للفلبين، والذي استمر 48 عاماً وانتهى في عام 1946، وقام بخلط كل هذه البطاقات الدبلوماسية. ووصف أوباما بأنه “ابن عاهرة”، وأعلن بشكل منفصل: “لدينا هذا الاتفاق مع الغرب، لكني أريد أن يعرف الجميع أننا سنرسم مساراً خاصاً بنا، لن نعتمد على أمريكا”.

اقترب دوتيرتي، الذي رفض انتقادات حقوق الإنسان الغربية لحملته من القتل خارج نطاق القانون لتجار المخدرات المزعومين، من الصين. ولتعزيز العلاقات الدافئة بين البلدين عادت بكين إلى دبلوماسية دفتر الشيكات، ووعدت بتعزيز التجارة مع الفلبين وزيادة الاستثمار. اقترب دوتيرتي من إلغاء اتفاقية القوات الزائرة مع الولايات المتحدة، لكنه لم يتخذ هذه الخطوة قط.

ثم انقلبت الأمور مرة أخرى، إذ ورد هذا الأسبوع أن خليفة دوتيرتي، بونغ بونغ ماركوس، ابن فرديناند ماركوس، الديكتاتور السابق وحليف الولايات المتحدة الذي حكم الفلبين لما يقرب من عقدين حتى فر من البلاد إلى المنفى في هاواي في عام 1986، وافق على التعزيز الدراماتيكي لتحالف بلاده مع الولايات المتحدة، والذي من المحتمل أن يشمل الوصول إلى قاعدتين عسكريتين في لوزون، شمال الأرخبيل. كانت حكومة ماركوس المنتخبة مؤخراً حريصة على القول إن علاقاتها الدفاعية المعززة حديثاً مع الولايات المتحدة لا تستهدف أي دولة أخرى، أي الصين.

ومع ذلك، يمكن أن يكون هناك القليل من الشك حول دوافع الفلبين، لقد حاولت بالفعل استخدام سلاح تقليدي للضعفاء- مناشدة القانون الدولي- ولكن دون جدوى. بعد تجربة فكرة أن المزايا الاقتصادية التي تأتي من التعاون مع الصين يمكن أن تعوض عن التعدي على حقوقها الوطنية، يبدو أنها قررت أن السيادة أغلى. ففي حديثه في دافوس بسويسرا، الشهر الماضي، قال ماركوس عن التوترات في بحر الصين الجنوبي: “إنها تبقيك مستيقظاً في الليل، تبقيك مستيقظا في النهار، تبقيك مستيقظاً معظم الوقت”.

رهان بايدن المرعب يضر مانيلا
يبدو أن الرئيس الفلبيني الجديد قد حَسبَ أن تقوية العلاقات مع واشنطن يمكن أن تساعد في ردع بكين عن القيام بأية تحركات أكثر عدوانية تجاه الفلبين، إذا كان الأمر كذلك فسيكون هذا توضيحاً جيداً لبلد يستفيد من ترتيب كلاسيكي في العلاقات الدولية، يُعرف باسم “التوازن الخارجي”، حيث في هذه الحالة يطلب بلد ضعيف المساعدة من دولة قوية بعيدة، للمساعدة في الحفاظ على مكانتها في وجه جارٍ مهيب.

لكن هذا بعيد كل البعد عن الاهتمام الوحيد للولايات المتحدة، فخلال إدارة بايدن كانت واشنطن منشغلة بتعزيز التحالفات مع عدد من الدول في المنطقة، مع وضع القلق بشأن احتمال نشوب حرب في تايوان في الاعتبار، وهذا هو الأمر الوحيد الذي يجعل كبار مسؤولي البنتاغون مستيقظين في الليل.

وفي الأسبوع الماضي فقط، على سبيل المثال، ظهر أن الجنرال مايكل مينيهان في سلاح الجو الأمريكي قد حذر أفراده، في مذكرة أرسلت في 27 يناير/كانون الثاني، من أن الحرب مع الصين بشأن تايوان قادمة قريباً.

كتب: “حدسي يخبرني بأننا سنقاتل في عام 2025”. وأضاف: “حصل (الرئيس الصيني) شي جين بينغ على فترة ولايته الثالثة، وعيّن مجلس حربه في أكتوبر/تشرين الأول 2022. تجري الانتخابات الرئاسية في تايوان في عام 2024، وستقدم لشي سبباً لذلك. تجري الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في عام 2024، وستُظهِر أمريكا في صورة مشتتة أمام شي”.

تقوم الولايات المتحدة حالياً بترقية وتوسيع وجودها في أوكيناوا، سلسلة الجزر الواقعة في أقصى جنوب اليابان، بالإضافة إلى بناء قدراتها العسكرية في المحيط الهادئ، في جزيرة غوام الأمريكية غير المدمجة، على بعد 1600 ميل شرق مانيلا. وقد شعرت واشنطن بالبهجة لجهود اليابان المكثفة لتسليح نفسها بالصواريخ بعيدة المدى، وأنظمة القتال البحرية. وكذلك دعت الولايات المتحدة أستراليا وحتى حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى أن يكونوا جزءاً من جهودها لردع أي هجوم صيني محتمل.

الخلاصة هنا هي أن الفلبين لا تريد أن تستعدي الصين، حتى في ظل الخلاف على الحدود البحرية بينهما، لكن إدارة بايدن تريد تأجيج هذا الخلاف، في إطار السعي “لاحتواء” بكين، فهل تجد مانيلا نفسها متورطة في صراع أكبر من إمكاناتها، ولم تسعَ إليه من الأساس؟

* المصدر: موقع عربي بوست
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع