السياسية- متابعات:

تتمطّى أميركا العظمى لتنهض من كبوتها المتعاقبة لاستعادة مجدٍ تحصّنت بذكراه سنين طوال، من جرّاء سياسية أدخلت البلاد في شراك التفكك والانهيار، فهي التي كانت تمتلك كل المؤهلات التي جعلتها في صدارة الدول كقوة عظمى. اليوم، يشار إليها بالبنان وسط سؤال يطرح نفسه، هل أصبحت هذه الدولة بسياساتها المتمثلة في بسط سلطتها خارج الحدود سبباً في الفوضى التي تضربها من الداخل؟..

وعلامَ تراهن الإدارة الأميركية لتعود كما كانت قبل نصف قرن في أن تكون رأس حربة في الحرب ورابحاً أساسياً في اتفاقيات السلام.

المراقب للأحداث عن كثب يجد أن ما تم ذكره كان من ثلة عوامل وضعت أميركا قاب قوسين أو أدنى من تبعات أرهقت كاهلها على الأصعدة كافة، وجعلتها تبحث عن الخلاص..

 

أميركا ورحلة البحث عن تعويذة البقاء

خلال رحلة نصف قرن من الزمن تمتعت الولايات المتحدة الأميركية بقوة كبيرة جعلتها تتحكّم بسياسات العالم وترسم أسس واستراتيجيات الدول. فمنذ العام 1991 وعقب الإعلان رسمياً عن تفكك الاتحاد السوفياتي، بدأت الحقبة التاريخية لأميركا في الانفراد بقيادة العالم، لتصبح هذه القوة صاحبة الكلمة الفصل في العلاقات الدولية والملفات العالقة في أروقة الأمم المتحدة.

القوة التي تمتعت بها أميركا طيلة السنوات الماضية لم تكن صدفة، وإنما كانت بسبب سيرها على نهج الانفراد بمصادر القرار من دون منازع. أما ما جعلها في المقدمة، فكان بسبب تدميرها لأي قوة تنافسها أو تراها بمثابة الند لها، وهو ما أعطاها كل الصلاحيات لتكون بالصدارة في تسلّم مراكز القيادة العالمية على الساحة الدولية من دون قيود تمنع.

مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة لاقت تحديات كبيرة في تحييد منافسين كبار دخلوا كلاعبين على الساحة الدولية، فلو أخذنا الترتيب التسلسلي للقوة.. لوجدنا أن أميركا تتصدر القائمة، وهذا كلّفها الكثير من الجهد لتحتلّ هذه المكانة التي تتفرّد بها، فقد كان السر في تربّعها على عرش السلطة العالمية هو خلق الصراعات في الدول، وفرض نفسها طرفاً ضامناً لجميع الأطراف المتشاحنة.

وكما يُقال.. ” لكل فارس كبوة”، فقد كان توجّه السياسة الأميركية وصنّاع القرار في أن يفرضوا هيمنة الدولة خارجياً، أما ما غاب عن حسابات الإدارة الأميركية التي سعت إلى كسب الآراء والألقاب فهي التهديدات التي تواجهها داخلياً في ظل التقصير بـحلحلة مشاكلها الداخلية، وهو ما ظهر جلياً في التخبّط السياسي والأمني الحاصل من جرّاء التهديدات التي طالت قواعد الديمقراطية فيها. فضلاً عن ذلك، القوة العسكرية التي ما فتئت تلوّح بها والتي يشار إليها عند كل مشكلة، ألقت بظلالها سلباً على مستقبل الدولة.

 

الرداء الذي عرّى صاحبه

الحرب العسكرية على أفغانستان والعراق أدت الى إضعاف القوة الأميركية اقتصادياً، في ظل عدم وجود المستفيد المطلق الذي يسدد الفواتير المترتبة كاملة، حتى وإن كان الدعم من قبل بعض الدول متاحاً، إلا أنه لم يكن كافياً لتسديد مستحقات الحرب وتكلفتها. إضافة إلى أن ما حصلت عليه القوة النافذة من نتاج هذه الحروب لم يكن بقدر ما تم دفعه سابقاً ومن دون أن يأتي أكله.

أما عن المشكلة التي كانت تعاني منها الولايات المتحدة، فتكمن في أن الحروب تعتبر إحدى أهم الأسباب التي أضرت بأميركا داخلياً، أي أن سلطتها وقوتها كانت تعتمد على الجيش الأميركي بشكل مباشر. وهنا يكمن الخطأ الأكبر في أنها وضعت جلّ اهتمامها على الجيش في حروبها التي كانت بالوكالة، لاغية مبدأ الاستعانة بجيوش من دول أخرى لها منفعة في الحرب. والسبب الذي جعل جيشها يقاتل منفرداً هو الغطرسة الأميركية المعتادة بـإبراز نفسها بدخول أي حرب حتى تظهر بموضع القوي الذي لا يحتاج مساندة أحد.

من جانب آخر فقد سبّبت الهجمات غير المدروسة في نشوء الجماعات المتطرفة والخراب العشوائي، وهو ما جعل أميركا مرتبطة بصفة راعٍ للإرهاب لكونها كانت السبب الرئيسي في انتشار وتمدّد هذه الكيانات المتطرفة في أكثر من اتجاه، فـأميركا لم تتخلّص من الجماعات الإرهابية في أماكن الصراع، وكذلك لم تقيّد نشاطاتهم بل بعثرتهم على طول الدول في سبيل السيطرة على الجغرافيا.

هذه الأفعال أدت إلى عامل واحد ارتبط باسم أميركا كدولة، وهو في أن السياسة الأميركية لم تمتلك معايير الحفاظ على السلام والنظام في العالم، وإنما أضرت بالسلم الأهلي على الصعيد الدولي.

 

خنجر الخاصرة

الأزمة الاقتصادية التي ظهرت في العام 2008 والتي ما زالت أميركا تعاني منها لعامنا الحالي أظهرت واشنطن بصورة مغايرة لما أرادته، فقد اختلفت الصورة النمطية لأميركا من طرف يمتلك قوة عظمى ويحقق ما يريد، إلى طرف مقاول يؤجّر بندقيته لمن يدفع أكثر حتى وإن لم يكن مبدأ العدالة والحرية موجوداً.

بعد معرفة الدول المعادية للفكر الأميركي نقاط الضعف لهذه القوة التي لا تقهر، حرصت الأطراف المهتمة على إنتاج نفسها من جديد. وكان من ضمن هذه الدول “الصين” التي وجدت أن امتلاك السلطة على الاقتصاد العالمي هو الحل لكسر الهيمنة الأميركية، وهو ما جعلها تدخل في منظمة التجارة العالمية عام 2001، لتحقّق الأخيرة نمواً كبيراً من خلال صادراتها التي جعلتها في المقدمة، وهو ما أثّر على الولايات المتحدة في أن منتجاتها باتت تستبدل بمنتجات صينية وتسيطر على منافذ مهمة كانت خاضعة لسيطرة أميركا.

وقد لخّص المشهد الذي حصل مقولة: أن قوة الجيوش لا تكفي لجعلك مسيطراً وإنما معرفة نقاط ضعف الخصم هي الأهم. وهنا أرادت الصين بسط القوة الناعمة في حربها مع أميركا، وباتت تحقّق مكاسب من خلال الانفراد بالسلطة الاقتصادية في كل من أفريقيا وشرق وجنوب آسيا وحتى في أوروبا.

اعتماد الصين على القوة الاقتصادية تطوّر لتكون قوة سياسية أفضت إلى أن تجعلها تتحالف مع دول لها الرغبة في العودة إلى ساحات القرار العالمية في سبيل الثأر من الولايات المتحدة، فكانت أولى وأكبر الدول التي لها مصلحة في أن تكون العدو لأميركا هي روسيا التي شرعت وجودها في الشرق الأوسط لتساند الصين في مشروعها المضاد للمشروع الأميركي والانفراد بالرأي العالمي.

تحالف موسكو مع بكين ساعد في فتح الجبهة بقوة ضد أميركا، الصين بمشروعها الاقتصادي وقوتها الاقتصادية، وروسيا بقوتها العسكرية وتحالفاتها التي رسمتها في الشرق، وهذا ما خلق عثرة في وجه أميركا في إتمام مشاريعها الاستعمارية غير المباشرة.

هذا العداء المعلن بين القوتين الروسية والأميركية جعل الولايات المتحدة تعاني عسكرياً واقتصادياً حتى في الحفاظ على علاقتها مع الحلفاء.

وعن هذا الصدام الذي بدأ يظهر بشكل معلن، فقد احتدم عندما أعلنت روسيا عام 2014 ضم شبه جزيرة القرم لها، فكان هذا الفعل بمثابة تحد مباشر لأميركا التي تعتبر بأنها الحليف القديم لأوروبا التي تعلم أن وجود روسيا في أوكرانيا على حدودها مع بولندا سيشكل خطراً أمنياً حقيقياً يقوّض قوّتها.

روسيا التي كانت تراهن على غرق أميركا في وحل التجاذبات بسبب حروبها الماضية وانخراطها في أحداث “الربيع العربي” وتحديداً في مصر وسوريا، جعل الإدارة الأميركية تواجه الفعل الروسي بالتنديد وبـالتصريحات، وهو ما اعتبر بأنها غير قادرة على تقديم أفعال ملموسة في هذا الملف، الأمر الذي لخّص حالتها بأنها دولة عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه أوروبا لكونها كانت مستندة على أمجاد الماضي والقوة التي كانت تعرف بها.

صمت أميركا وضعفها الذي ظهر في أول مواجهة مع روسيا ومن خلفها الصين جعل روسيا تبدأ التصعيد لإضعاف أميركا أكثر، وتمثّل من خلال سحب بساط ثقة الحلفاء من تحتها، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة كانت في وضع لا يسمح لها بفتح جبهة خطيرة أخرى مع روسيا، فقد كان من الممكن أن يأخذ الصدام منحى التصعيد ليصبح صراعاً طويل الأمد، لكن خطوة روسيا أجبرت الولايات المتحدة على إعادة النظر في سياستها الخارجية تجاه الطموحات الروسية.

على المقلب الآخر، كان هناك قلق متزايد بين حلفاء الولايات المتحدة في الناتو من أن أميركا مترددة وغير قادرة على اتخاذ إجراءات دفاعية ملموسة ضد روسيا.

ومن هنا فقد عزمت روسيا بمساندة جهات مضادة للمشروع الأميركي في المنطقة على المضي قدماً وتقويض الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، هذا وقد استندت نظرة موسكو في أن تقوم بتوعية الشرق بأضرار الوجود الأميركي، وهنا اتجهت في البداية نحو إيران التي ساندتها عسكرياً في سوريا وعززت أمن الحليف السوري ببدء مشاركة القوة العسكرية الروسية في سوريا لبسط الأمن في البلاد عام 2015.

الحليف التالي كانت تركيا التي تمتعت لفترة من الزمن بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة التي كانت تعدها بين الحين والآخر بتزويدها بـبطاريات الدفاع الجوي ما سمي وقتها بمعاهدة الباتريوت عام 2015، وكان ذلك مقابل دعم خطة أميركا في سوريا، ولكن التدخل الروسي أثر على تركيا في أن تضعف القوة الأميركية في سوريا، لتقدم بدورها عرضاً أوفر بتزويد سلاح الجو التركي بمنظومة الدفاع الجوي أس 400، وهو ما تمخض عنه إنهاء الاتفاق الأميركي التركي لاحقاً وتوتر العلاقات الأميركية التركية.

واستكمالاً لسيناريوهات سحب الثقة، فقد حرصت موسكو على تعزيز علاقتها مع بلدان الخليج وكان هدفها إيقاف الدعم المالي عن أميركا التي كانت تعتبر بلدان الخليج بمثابة البنك الممول التابع للخزانة الأميركية، وقد تباينت فروقات التحالف عندما وقفت أميركا عاجزة عن حماية السعودية إبان استهداف إيران للسفن الخليجية 2019، وهو ما جعل روسيا تعري أميركا العاجزة عن الإيفاء بتعهداتها في دعم وحماية حلفائها، الأمر الذي أثر إيجاباً على العلاقات الخليجية الروسية، واضعة في ذلك أميركا خارج الحسابات الخليجية.

وهو ما نتجت عنه لاحقاً المشكلة الخليجية الأميركية، ما عرف وقتها بأزمة الطاقة عام 2022، والتي كان سببها رفض ولي العهد السعودي رفع معدلات إنتاج النفط كما تريد أميركا، والتي نتج عنها خفض إنتاج النفط على غير المعتاد، الأمر الذي أزعج أميركا والتي بدورها اعتبرت بأنه تمرّد سعودي ستكون له عواقب. فقد أطلق بعض أعضاء الكونغرس الأميركي النداءات بوقف صفقات السلاح مع السعودية وقطع العلاقات معها بسبب قرارات أوبك وأوبك بلس.

 

تحديات خارجية وداخلية

روسيا التي عزمت على إنهاء القوة الأميركية صعّدت الموقف بشنها الحرب على أوكرانيا التي ترى فيها السبيل لكسر الصورة النمطية لأميركا بعيون الأوروبيين، وكان هذا بقيام روسيا بعملية عسكرية عام 2022 على أوكرانيا التي وقفت عاجزة تنتظر الدعم الأميركي ليقيها من الهجمات الروسية عليها. ولكن تمّ تكرار السيناريو الذي حصل عندما استحوذت روسيا على جزيرة القرم الأوكرانية، فقد واجه النداءات الأوكرانية صمت أميركي وعجز مطلق لم يخرج عن إطار التصريح والتنديد، وهو ما عرّى القوة الأميركية أمام دول أوروبا الحليف الأخير لأميركا في القارة العجوز، والذين رأوا أن أميركا عاجزة عن الدفاع عنهم..

أميركا وبحسب مجريات الأحداث تعاني من تحديات حقيقية على الصعيد الخارجي تتلخص بتقليص دورها عالمياً ونبذها دولياً من خلال الخطة الصينية الروسية التي تم اعتمادها والمتمثّلة بتجريد الولايات المتحدة من مصادر القوة التي عززت وجودها وهيمنتها، وعليه الخطر الأكبر على أميركا يتمثّل بأن لا تكون قادرة على مواجهة التحديات في الأمن الداخلي الذي يعتبر مشكلة أكبر مما تعانيه على الصعيد الخارجي.

فأميركا التي حاولت رأب الصدع طيلة السنوات الماضية فشلت بذلك عندما اقتحم محتجون مبنى الكابيتول الأميركي في كانون الثاني/يناير2021، والذي تسبب بعمليات إخلاء وإغلاق مبنى الكابيتول وعطلت على إثرها جلسة مشتركة للكونغرس لفرز الأصوات الانتخابية وقتها.

هذا الحدث الذي كان أبطاله متظاهرين دعموا مزاعم الرئيس السابق ترامب، والذي قال إن انتخابات 2020 سُرقت منه، ويجب استعادة الديمقراطية، دعا المؤيدين له لأن يقوموا بهذا الفعل الذي عرّى البنية المتصدّعة والتي أظهرت مدى ضعف الإدارة الأمنية في حماية منشآتها الإدارية والحيوية، وبيّنت حجم الشرخ بين الأحزاب الكبرى الديمقراطيين والجمهوريين.

أما من جانب آخر فإن العنصرية المتمثّلة بـ العداء بين السود والبيض في الولايات المتحدة يزداد حدة يوماً بعد يوم، وهو ما تحاول أميركا إخفاءه دوماً لتظهر للعالم بوجه البلد الديمقراطي والآمن للحريات. ولكن في الحقيقة مضمون الديمقراطية على الحزب الديمقراطي والفئة الثانية المحسوبة على الحزب الجمهوري يعتبر فوز أي مرشح رئاسي يظهر من هذا الحزب أو ذاك هو تعدي طرف على الآخر أبيض كان أو أسود، وهنا تكمن المشكلة في أن الانتخابات الأميركية الدورية هي سبب التخبّط الداخلي والعداء الحاصل في البنية الشعبية. وفي أن التكلفة المالية للحملة الرئاسية في الولايات المتحدة عالية جداً لدرجة أنه لا يستطيع حتى أغنى الناس في البلاد تغطيتها شخصياً.

ومن المعروف، على سبيل المثال، أن الرئيس الأميركي جو بايدن أنفق حوالى 14.4 مليار دولار على الحملات الانتخابية وحدها. وتأتي هذه الأموال الضخمة من مساهمات مختلف الرعاة، لكن الرعاة لا يستثمرون أموالهم بإيثار، بل إنهم يقومون بهذه الاستثمارات فقط عندما يكونون متأكدين من أنه سيتم سدادها في المستقبل القريب.

وفي ظل هذه السياسة فإن الشخصيات السياسية لا يهمها إلا مصالح رعاتها في الدرجة الأولى، أما نقيض ذلك فإنهم قادرون على تأجيج الشارع المشحون أصلاً بصعوبات الحياة في أميركا ونسبة الفقر العالية التي تعدت 11.6/ للعام 2021 بمحصلة 37.9 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر.

فـالحزب الخاسر يمكن أن يعمل على دعم ثورة شعبية أو حرب أهلية بأقل بكثير من تكلفة إنجاح مرشح رئاسي، أي أن البنية المجتمعية المعدومة اقتصادياً والتي تعاني نفسياً واجتماعياً مهيّأة لأن تنفجر في أي لحظة، وهذا كله لأن الدولة لم تعمل على فصل الأحزاب عن العامة بل جعلتهم جزءاً من الصراع السياسي لتحقيق المكاسب.

المراقب لما ذكر أعلاه يفضي إلى أنّ المجتمع الأميركي ليس موحّداً وليس حراً بانتخاب رئيسه، وإنما مرهون بـإملاءات سياسية من داخل البرلمان الأميركي الذي يسيطر عليه الحزبان الأزرق والأحمر، وهو ما يجعل التخبط الحاصل على الصعيد الجيوسياسي والاقتصادي والأمني يطفو على السطح مزعزعاً مكانة الدولة عالمياً، وهو ما قد ينتج عنه أحد أمرين، إما حرب أهلية مدعومة من الأحزاب لتوحيد المجتمع على رأي واحد لصالح جهة معينة، أو تفكيك الولايات المتحدة الأميركية لولايات منفصلة ومنفردة بالقرار والتوجه والجغرافيا لكل منها صيغتها المغايرة الأخرى، ويكون شكلها على مبدأ السيناريو الأوروبي المفكّك داخلياً والموحّد ظاهرياً.

 

النداء الأخير

ما يحاول الرئيس الأميركي جو بايدن فعله، هو إصلاح نظامه لدرء الخطر المقبل، وذلك بالبحث عن تعويذة للبقاء بمعالجة القضايا التي سببت ضعف أميركا، وأيضاً التمسّك بـالرؤية الأميركية بأن قوتها في السياسة الخارجية هو مصدر بقائها، ولكن الخطأ الأساسي لم يتم تخطيه إن بقيت هذه الرؤية سائدة وبعيدة عن التوجّه لإصلاح النظام الداخلي للبلاد.

فـاللقاءات التي يقوم بها الرئيس الأميركي تعتبر بمثابة جر النفس من أجل منازعة الموت، حيث اعتبرت زيارته لقمة العشرين في إندونيسيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 ولقاءه الرئيس الصيني على هامش القمة نقطة ضعف بحقه، وخاصة بعد طلبه من الرئيس الصيني أن تبقى المنافسة الاقتصادية ضمن حدود السلمية وعدم الانجرار إلى الصراع، وهو ما خلص بأن أميركا وعلى غير عادتها باتت تحسب خطواتها قبل الدخول في صراعات قد لا تكون قادرة على مجابهتها.

أما الموضوع الآخر الذي طرحه الرئيس الأميركي جو بايدن والذي كان في موضع نقاشهما، فهو العلاقات الصينية الروسية وتحديداً الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد تمثّل بأن طلبت أميركا من الصين إقناع روسيا بعدم التهديد أو استخدام الأسلحة النووية، وهو ما قابله ردّ صيني بأن استقرار القارة الأوروبية متمثّل بـ”حوار شامل مع روسيا بشكل مباشر”، ويأتي الملخص بأن أي قوة مفرطة أو رد فعل عسكري على روسيا لن يشفع للمعتدي وحلفائه، وعلى الجميع حينها أن يتقي نيران روسيا ويجلس على طاولتها ويحقّق رغباتها التي تريد.

بالتأكيد فإن المراقب للأحداث خلال العشر سنوات الماضية يعرف ما تعانيه الولايات المتحدة، وأيضاً تبدو ظاهرياً القوة التي تمتلكها الصين وروسيا وعزمهما تقويض سلطة أميركا وتغييبها عن كونها في المقدّمة، أما دون ذلك فـمسميّات القوة العظمى ومصدر القرار كلها أسماء واهية تتمتع بها أميركا، ولكنها فعلياً عاجزة ومقيّدة وغير قادرة على فعل شيء يجعلها تجابه أعداءها لتعود كما كانت قبل نصف قرن من الزمن.

وخلاصة ما أتى: أنّ ما أقدمت عليه الصين وروسيا بمثابة الإغماضة الأخيرة ودق آخر مسمار في نعش العهد الأميركي الحالي، وهو ما يمهّد لـ مخاض عهد جديد تتوّلد فيه رؤية جديدة لقيادة العالم لتغيير موازين القوى، أي أن لكل خمسين عاماً دولة ورجالاً.

  • المصدر: الميادين نت
  • المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع