علي فواز

 

تتضافر عوامل مختلفة في الحرب الدائرة على أرض أوكرانيا. مع اقتراب العام الجديد، تتدحرج التطورات ككرة ثلج ملتهبة لا تشبه الصقيع في الميدان. تتراكم الخطوات والخطوات المضادة منذرة بتصعيد حدة الصراع. يستقبل الرئيس الأميركي جو بايدن، للمرة الأولى، نظيره الأوكراني فولوديمير زيلنسكي.

في المقابل، يحطّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بيلاروسيا في أول زيارة له منذ 3 سنوات. يصرح بايدن بأن بوتين يحاول استخدام الشتاء كسلاح، واعداً بتوفير منظومات باتريوت للأوكرانيين، فيما يؤكد بوتين أنَّ أسلحة جديدة فرط صوتية “لا مثيل لها في العالم” ستدخل الخدمة مطلع العام الجديد.

تتلقى القوات البيلاروسية، حليفة موسكو، أحدث أنظمة الدفاع الجوي الروسية “إس 400” وصواريخ “إسكندر”، فيما يرد الناتو بعزمه على نشر قدرات وأسلحة حساسة في مولدوفا.

أجواء محمومة تنذر بالأسوأ

بموازاة التطورات السياسية والعسكرية، تلوح في بعض التصريحات دلالات مكثفة على مخاطر كامنة في الأفق. ليس عادياً اتهام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الولايات المتحدة بالسعي لقتل فلاديمير بوتين. يحذر لافروف من أن نهج الدول الغربية بشأن الحرب في أوكرانيا يحمل مخاطر حدوث صدام مسلح مباشر بين القوى النووية، في تصريح ليس الأول من نوعه روسياً.

سبق ذلك تهديدات روسية بأن الأقمار الاصطناعية المستخدمة في أوكرانيا يمكن أن تصبح هدفاً مشروعاً، في خطوة تشكّل ارتقاء في مستوى المواجهة في حال تم اللجوء إليها. وسط هذه الأجواء المحمومة، لا يلعب الوقت في مصلحة الروس، فكلّما طال أمد الصراع ازدادت احتمالات النقمة والسخط داخل روسيا، كما احتمال غرقها في مستنقع الاستنزاف البشري والمادي في أوكرانيا وإرهاق مواردها، إضافة إلى نشوء تحديات جديدة في محيطها الحيوي.

تذكر صحيفة “لوباريزيان” الفرنسية أنَّ موسكو كانت تخطط لحرب سريعة في أوكرانيا، مشيرة إلى أنَّ الكرملين، بعد 300 يوم من القتال، لا يزال يقدم الأمر رسمياً على أنَّه “عملية عسكرية خاصة”، رغم اعتراف بوتين بأن الصراع قد يستمر “طويلاً”.

بوتين كان قد تعهد منذ أيام بأن روسيا ستسعى لإنهاء الصراع في أوكرانيا قائلاً: “كلما كان ذلك أسرع كان أفضل”. من هذا المنطلق، هل يمكن أن تقدم موسكو على خطوة مفاجئة تكسر معادلات الميدان السائدة حالياً، مستغلة ظروف الشتاء؟

الشتاء تاريخياً إلى جانب الروس

تجذب الإخفاقات الروسية اهتماماً أكبر بكثير من الإخفاقات الغربية والأوكرانية، بحسب تعبير فاسيلي كاشين، مدير معهد الدراسات الأوروبية والدولية، في مقال له في موقع “المجلس الروسي للشؤون الدولية”. روسيا، وفق كاشين، هي قوة عسكرية عظيمة لها تقاليد عمرها قرون، وقليل من الناس أخذوا أوكرانيا على محمل الجد في بداية الصراع.

صحيح أنَّ عامل الوقت ليس من مصلحة الروس في غياب الحسم والعجز عن تحقيق الأهداف التي وضعوها، لكنّ الوقت يضغط أيضاً على الأوروبيين في ظل ارتفاع تكلفة الحرب وانعكاسها عليهم بشكل مباشر. توقعات نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف أخيراً تكشف أن متغيّر الوقت ليس ثابتاً إذا ما تجاوز الصراع بأبعاده الاقتصادية والجيوسياسية حدود الصراع القائمة اليوم.

يتوقع الرجل أن يتفكك الاتحاد الأوروبي في العام الجديد، وأن يتجاوز العالم نظام بريتون وودز المالي، وأن يتم التخلي عن اليورو والدولار كعملات احتياطية عالمية والعودة إلى معيار الذهب من بين جملة أمور، ما يعني عملياً انهيار النظام العالمي القائم حالياً على الهيمنة الأميركية.

سبق ذلك إقرار وزير الدفاع الأميركي بأن أوروبا تواجه أسوأ أزمة أمنية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإعلان رئيس وكالة الطاقة الدولية بأن أوروبا تعيش أزمة كبيرة ومتنوعة بسبب إمدادات الغاز؛ أزمة تتفاقم مع فصل الشتاء الذي لا تقتصر تداعياته على الأوكرانيين، فهل يجيّر الروس خصوصية هذا الفصل لمصلحتهم أم يصعب قلب الطاولة في ظل موازين القوى الحاكمة التي قد تستمرّ فصولاً، وربما تفضي إلى حرب عالمية؟

تاريخياً، تدخّل الشتاء مرات عدة لمصلحة الروس في حروب خاضوها على امتداد حقبات مختلفة. دأب ضباط نازيون على تسمية الشتاء الروسي بـ”الجنرال جليد”، فيما تصف صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية هذا الفصل بـ”الجنرال الأبيض”. تستعرض الصحيفة 4 محطات تاريخية حالف فيها الشتاء روسيا: ضد المغول أولاً، ثم ضد السويديين، وضد نابليون بونابرت، وأخيراً ضد ألمانيا النازية، سائلةً عما إذا كان سيفعلها هذه المرة في حرب أوكرانيا؟

ولكن مجلة “بوليتيكو” تشكّك في اعتبار الشتاء صديقاً دائماً لروسيا، وتستشهد بما سُمي “حرب الشتاء” حينما قلب الفنلنديون الطاولة خلال حربهم الشتوية عام 1940 على الروس، عندما كانوا ينزلقون عبر الجليد بواسطة الزلاجات لشن ضربات خاطفة.

في نهاية هذه الحرب، نجح الروس بفرض شروط الاستستلام على فنلندا، لكنَّهم لم يتمكنوا من الوصول إلى هذه النتيجة إلا بعدما تكبدوا خسائر فادحة. وبحسب تقرير “بوليتيكو”، يأمل الأوكرانيون أن يلحقوا أضراراً مماثلة بروسيا “التي لم يعد بوسعها الاعتماد على فصل الشتاء في كسب الحرب على أوكرانيا، وهذا العام ربما تكون ولاءاته غير مؤكدة”.

وبمعزل عن تقارير الصحافة الغربية التي يتسلَّل إلى كثير من تقاريرها نوع من البروباغندا والانحياز، سيكون هذا الشتاء هو الأول من نوعه لأطراف الصراع منذ شباط/فبراير الماضي؛ تاريخ بداية العمليات العسكرية الروسية، وهو اختبار يتجاوز بالضرورة ميدان الحرب وطرفيها المباشرين ليطال كل الدول المنضوية في عضوية الناتو. صحيح أن العملية بدأت في الشتاء قبل نحو 10 أشهر، لكنّ موسم الثلوج كان قد بدأ يشارف على نهايته آنذاك، مفسحاً المجال أمام تحدٍ سيبقى ماثلاً أمام الروس في الربيع.

في العادة، تتعقّد المشاكل اللوجستية خلال ذوبان الثلوج والجليد، وتشكّل الوحول والأراضي الطينية عوائق في حالات المناورة والهجوم. هذا الأمر ظهر جلياً نهاية الشتاء الماضي، عندما تثاقلت حركة الآليات الروسية وغرزت في الوحل وتعطل بعضها، ما عرقل تقدمها.

لكنَّ المشكلة لا تقتصر على الروس. عموماً، تؤثر الحرارة المتدنية والثلوج في كفاءة القتال ومعنويات الجنود وصحتهم، وكذلك في المعدات العسكرية، إذ تغدو تحركات المشاة والمدرعات أكثر صعوبة، كما عمليات التمويه.

على هذا الأساس، يعدّ الشتاء والثلوج سلاحاً ذا حدين ضد روسيا وأوكرانيا، لكنه وفق خبراء عسكريين سيخدم الطرف المدافع أكثر من المهاجم، علماً أن الطرفين الروسي والأوكراني يتبادلان حالتي الدفاع والهجوم وفق الجبهات والمحاور التي تدور فيها العمليات العسكرية.

تحوّل في مسار الأعمال العسكرية؟

تنقل صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين في الإدارة الأميركية تأكيدهم أنّ حلول فصل الشتاء سيؤدي إلى تباطؤ التقدم العسكري لكلا الجانبين، فيما تشير “فايننشال تايمز” إلى أنّ إستراتيجية بوتين تتكيّف مع واقع البرودة التي تؤدي عادة إلى إبطاء وتيرة العمليات العسكرية.

وبحسب الصحيفة، سيساعد ذلك روسيا في الحفاظ على خطوط دفاعها والاحتفاظ بالأراضي التي ضمتها، وهو نهج يقول المحللون، بحسب الصحيفة، إنه أساسي في تفكير الجنرال سيرغي سروفيكن الذي عُيّن قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا.

ويرى محللون غربيون أنه بالنسبة إلى روسيا، التي تسيطر الآن على أراضٍ أوكرانية أقل مما كانت عليه منذ الأسابيع الأولى من الهجوم، قد يكون أفضل خيار إستراتيجي هو أن تتمكن من الصمود خلال الشتاء، وتتجنب المزيد من الخسائر الجسيمة، وتأمل أن يقوم البرد بمهمة إضعاف المقاومة الأوكرانية.

الحديث عن العمليات العسكرية في ظل درجات حرارة متدنية لا يقتصر على الجانب البشري وأداء المقاتلين، بل يطال فعالية السلاح وعمليات الإمداد. يحدد المحلل العسكري الروسي ألكسندر ميخائيلوف، عبر صحيفة “كومسومولسكايا برافدا”، 3 عوامل ستغير مسار العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا خلال الشتاء؛ أولها الضربات على منشآت الطاقة الأوكرانيّة، إضافةً إلى المخاطر المحتملة في انخفاض الدعم الغربي، وأيضاً الهروب الجماعي لوحدات المرتزقة في ظل شكوك في استعداد أفرادها للقتال في درجات حرارة دون الصفر وفي غياب الدعم المناسب.

ويرى ميخائيلوف أنه ستكون هناك نقطة تحول في مسار الأعمال العسكرية بين نهاية عام 2022 وشباط/فبراير من العام الجديد، لأن الجيش الروسي، في رأيه، أكثر استعداداً لفصل الشتاء مادياً وتقنياً، ولأن المعدات العسكرية الروسية تعمل في درجات حرارة منخفضة، على عكس المعدات الغربية التي لا يتم اختبارها دائماً في هذه الظروف.

يصبّ في هذا الإطار تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، إذ يسلّط الضوء على مشكلة صيانة المعدّات والأسلحة في الجانب الأوكراني. يتقاطع التقرير مع مشاكل الإمدادات التي أشار إليها ميخائيلوف، وهي مشاكل تفاقمت إثر استهداف البنى التحتية الأوكرانية، ما أدى أيضاً إلى تضرّر الخدمات اللوجستية المتمثلة في نقل الذخيرة والأسلحة الجديدة والأفراد، ونقل الجنود الجرحى من خط الاشتباك، وشحن المعدات المتضررة التي تحتاج إلى إصلاح.

وتكشف “وول ستريت جورنال” أن عدداً من الأسلحة الغربية التي تسلمتها كييف تنتظر حالياً عملية الصيانة بعيداً من خط المواجهة، إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في أن بعض الأسلحة يتطلب نقلها مئات الأميال من خط المواجهة، إذ يتعيّن صيانتها على أراضي بولندا وليتوانيا وسلوفاكيا بسبب السرية المحيطة بها أو بسبب تعقيدها التقني، ما يشكل، بحسب الصحيفة، تحدياً كبيراً لأوكرانيا التي تغيب عنها بعض أقوى الأسلحة الغربية لفترات طويلة بسبب هذه الإجراءات، تُضاف إليها المشاحنات بين الحلفاء الأوروبيين. هذه الأسباب معطوفة على عوامل أخرى، مثل الطقس، يمكن، وفق الصحيفة، أن تبطئ التقدم العسكري لأوكرانيا.

هل بدأ العد التنازلي لانطلاق الحملة الشتوية؟

تتجاوز مجلة “فورين أفيرز” المشاكل المعقّدة في الجانب الأوكراني، وتتوقع في أحد مقالاتها أن تنتهي الحرب في أوكرانيا بهزيمة روسيا بسبب ما أظهره جيشها من ضعف في التفكير وسوء في التنظيم، إضافة إلى الدعم الكبير من الغرب للنظام في كييف.

وعلى الرغم من أنّ مسار الصراع دحض التكهنات المبكرة بأن أوكرانيا سوف تسقط بسرعة، فإن المقال يبقي الاحتمالات مفتوحة على حدوث انتكاسات في الجانب الأوكراني، في رأي كاتبيْه.

من ضمن المفاجآت الشتوية المحتملة التي قد تحدث انتكاسات في الجانب الأوكراني، إمكان شنّ موسكو هجوماً كبيراً مباغتاً أو فتح جبهة جديدة تجبر سلطات كييف على سحب عدد كبير من قواتها لتخفيف الضغط عن القوات الروسية المتمركزة شرق أوكرانيا وجنوبها.

الاحتمال الأخير هو ما تذهب إليه صحيفة “برافدا” الروسية، التي توقعت أن يكون الهدف من الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي إلى بيلاروسيا منذ أيام هو التعرف إلى مدى استعداد وحدات القوات الروسية المتمركزة هناك، ما يوحي ببدء العد التنازلي لانطلاق الحملة الشتوية في أوكرانيا.

وعلى الرغم من أن التقرير الوارد في الصحيفة يشير إلى أن الزيارة تأتي لإقناع “العدو” بقدرة روسيا على مهاجمة أوكرانيا من بيلاروسيا، فإن خبراء يشككون في ذلك استناداً إلى أسباب موضوعية، منها عدم استعداد مينسك لتحمّل تبعات ذلك.

تتبدّد هذه الشكوك وتُقابل بشكوك مضادة في ظل مناورات عسكرية مشتركة بين موسكو ومينسك أُعلن عنها أخيراً، وبعد إنشاء قوات إقليمية مشتركة، ونشر جنود روس في بيلاروسيا، إضافة إلى ما أعلنه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو إثر زيارة بوتين التي أثارت الكثير من التكهنات والأسئلة من أنه لا يمكن استبعاد اندلاع حرب ضد بلاده، مشدداً على الاستعداد لهذا السيناريو.

سيضع هذا الشتاء كلّ شيء في مكانه، بما فيه التكهنات والتحليلات التي تميل إلى هذا الاتجاه أو ذاك. بعد أقل من شهرين من الآن، تكون العملية العسكرية الروسية قد أتمّت عامها الأول، وأفرجت الأحوال الجوية عن معالم، وربما مفاجآت، تتوارى خلف ضباب أوكرانيا.

  • المصدر: الميادين نت
  • المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع