لماذا وافقت أمريكا على تفعيل تقنية “مقلقة أخلاقياً” لمواجهة التغير المناخي؟
السياسية:
في ظل تفاقم الاحتباس الحراري العالمي، وضعت حكومة الولايات المتحدة خطة تتضمن مزيداً من الدراسة لفكرة مثيرة للجدل لطالما تناولها رواد الخيال العلمي، فهل تنجح في مكافحة التغير المناخي؟
ظاهرة الاحتباس الحراري مسؤولة عن التغير المناخي، وهو مصطلح يقصد به التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة، مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة، وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار كوارث لا تتوقف.
والمقترح المثير للجدل يتمثل في إدارة الإشعاعات الشمسية وصرفها عن اتجاهها، قبل أن تصل إلى الأرض، لكن تلك المساعي قابلها تنديد متصاعد من بعض العلماء، واحتجاج على أي خطوة في هذا المجال، الذي بات يُعرف باسم “الهندسة الجيولوجية الشمسية”.
إذ واجهت المحاولات السابقة لإجراء تجارب فيما يُعرف بأبحاث “إدارة الإشعاعات الشمسية” (SRM) معارضة شديدة. وجرت إحدى تلك المحاولات العام الماضي في رحلة استكشافية قادها باحثون من جامعة هارفارد في السويد، تتضمن التحليق بمنطاد يُستخدم في إدارة الإشعاع الشمسي على ارتفاع عال، إلا أن احتجاجات دعاة حماية البيئة وزعماء السكان الأصليين أوقفت التجربة.
ما قصة الهندسة الجيولوجية؟
صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تقريراً عنوانه “هل يمكن للهندسة الجيولوجية أن تكون الحل لمواجهة التغير المناخي؟”، ألقى الضوء على قرار إدارة الرئيس جو بايدن إعطاء الضوء الأخضر لأبحاث “التدخلات المناخية”.
حيث بدأ البيت الأبيض في تفعيل خطة تستغرق 5 سنوات من البحث في سبل “التدخلات المناخية”، وتشمل النظر في إرسال أسراب من الطائرات لرش جسيمات عاكسة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، لصرف ضوء الشمس القادم عن وجهته والحيلولة دون زيادة درجات الحرارة المرتفعة على الأرض.
أقرَّ الكونغرس هذه الأبحاث، وقال متحدث باسم مكتب البيت الأبيض لشؤون سياسات العلوم والتكنولوجيا، إنه “ليس بحثاً جديداً، وإنما تقرير يركِّز على النظر في بعض الفجوات المعرفية الرئيسية، والخلاصة إلى توصيات بأوجه الاهتمام المطلوبة للأبحاث ذات الصلة”، فإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تسعى إلى “إزالة فعّالة ومسؤولة لغاز ثاني أكسيد الكربون” من الغلاف الجوي، وإحداث تخفيض كبير في انبعاث غازات الاحتباس الحراري.
يوافق كثير من الباحثين الأمريكيين، وإن جاءت موافقة بعضهم على مضض، على استكشاف السبل المتاحة لإصلاح النظام المناخي، لعلها تُسهم في كبح التفاقم الجامح لظاهرة الاحتباس الحراري، حتى وإن كانوا يقرون بأن الأمر ينطوي على مخاطر غير معروفة لنا بعد.
كريس فيلد، الذي أشرف على تقرير الأكاديميات الوطنية للعلوم، العام الماضي، وأوصى بإنفاق 100 مليون دولار على الأقل في هذه الأبحاث، قال للغارديان: “كنت أرى حتى وقت قريب أن الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة، لكن التقدم البطيء في مساعي خفض الانبعاثات حفَّز التوجه إلى استيعاب بعض التقنيات الثانوية، مثل الهندسية الجيولوجية الشمسية”.
ويرى فيلد أنه “لا داعي لنشر الأبحاث بعد، فلا يزال هناك كثير من المخاوف، لكننا بحاجة إلى تعزيز فهمنا لهذه السبل”، “فالتغير المناخي له آثار واسعة النطاق، ويكلفنا ضحايا وتدميراً لاقتصاد الدول، نحن في موقف حرج، والوقت ينفد منا، لذلك يتوجب علينا أن نعرف المزيد”.
هل تنجح إدارة “أشعة الشمس” في وقف التغير المناخي؟
رغم المعارضة القائمة لتلك الأبحاث، فإن هناك شركات ناشئة أمريكية تسعى الآن إلى المضي قدماً في تجارب الهندسة الجيولوجية الشمسية، ومنها شركة Make Sunsets، التي تستند إلى تمويل من صندوقين للاستثمار، أُنشِئا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وتزعم أنها أجرت بالفعل رحلتي اختبار لتجربة تتضمن حقن الكبريت من خلال بالونات تُطلق في طبقة الستراتوسفير (الطبقة الجوية العليا)، على ارتفاع أكثر من 20 كيلومتراً فوق سطح الأرض.
تزعم الشركة عبر موقعها على شبكة الإنترنت أن مشروعها يحدُّ من الاحترار العالمي، ويساعد في إنقاذ ملايين الأرواح. وتسوِّغ خطواتها بالقول إن “أي كميات من ثاني أكسيد الكربون يطلقها الإنسان هي- في الحقيقة- هندسة جيولوجية. فقد أفسدنا أجواء الغلاف الجوي، وعلينا واجب أخلاقي الآن بأن نصلح ما أفسدناه!”.
استخفّ إدوارد بارسون، الخبير في قوانين البيئة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، بادعاءات شركة Make Sunsets بأن مشروعها يمكن أن يعيد درجة حرارة العالم إلى ما كانت عليه قبل عصر الصناعة مقابل 50 مليار دولار، ووصفها بأنها ادعاءات “سخيفة”.
ومع ذلك، يرى بارسون أن المخاطر المعروضة بشأن البحث في الهندسة الجيولوجية الشمسية مبالغ فيها، وأن الولايات المتحدة “ربما تكون المُبادر الجَسور في هذا الصدد. وإن إقرار برنامج بحثي خطوةٌ كبيرة إلى الأمام”. ويعلل رأيه بالزعم أن “احتمال لجوء الدول إلى بذل جهود جادة في الهندسة الجيولوجية الشمسية خلال الأعوام الثلاثين المقبلة يصل إلى 90%. لأن تداعيات [التغير المناخي] ستزداد سوءاً”.
في المقابل، فإن معارضي الهندسة الجيولوجية الشمسية مذعورون من تأثير هذه التجارب. وقد وقَّع 380 عالماً على رسالة مفتوحة تطالب بإقرار اتفاقية عالمية تمنع استخدام الهندسة المناخية، وتقول إن الدعوات المتزايدة للبحث في هذا المجال “باعثة على القلق”، لأن هذه الأبحاث قد تكون لها “مجموعة من التداعيات غير المعروفة، والتي ستكون لها عواقب متفاوتة في بقاع مختلفة من العالم”، وقد تتعارض مع “الأنماط الطبيعية للطقس والزراعة وتوفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء والماء”.
الكواكب
وقال فرانك بِرمان، خبير الحوكمة العالمية في جامعة أوتريخت الهولندية، إنه يخشى أيضاً من العواقب الأخلاقية التي ستنشأ عن تجارب الهندسة الجيولوجية، وتوقَّع أن تستعيض الحكومات بها للتخلي عن مساعي خفض الانبعاث الحراري، وأن تتذرع بها شركات الوقود الأحفوري لمواصلة عملها.
وزعم بِرمان أن “غالبية العلماء يُجمعون على جنون هذه الفكرة، وإن اختلفت أسبابهم. فما سيحدث قريباً هو أن كل من يعتمد على الفحم والنفط والغاز سيُساند الهندسة الشمسية، ويقول: (يمكننا أن نستمر في الاعتماد على الوقود الأحفوري 40 عاماً أخرى)”، “فهذا النقاش يهدد بتعطيل سياسات المناخ الحالية [الرامية إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري]. إنها مخاطرة كبيرة”.
هل تختفي طبقة الأوزون ولون السماء الأزرق؟
إضافة إلى ذلك، فإن الهندسة الجيولوجية الشمسية ليس لها أي قوانين دولية أو قواعد حاكمة حتى الآن. ومن ثم يخشى المعارضون من أن يؤدي انفراد جانبٍ ما بخطوة في هذا السياق إلى نشوب صراع عالمي إذا استفادت من هذه الخطوة منطقة معينة من العالم، وعانت أخرى عواقب تلك الخطوة بموجات جفاف أو فيضانات مفاجئة.
ومن جهة أخرى، فإن الهباء الجوي المحيط بالأرض ضروري للحفاظ على تبريدها، ومن ثم فإن أي اضطراب، سواء كان مقصوداً أم غير ذلك، قد يسبب موجة متسارعة من الاحترار، أي “كارثة احترار تُنهي الحياة على وجه الأرض”، على غرار ما ورد في رواية الخيال العلمي Termination Shock، من تأليف الكاتب الأمريكي نيل ستيفنسون.
وقالت ليلي فور، خبيرة المناخ والطاقة في مركز القانون البيئي الدولي، إن “الأمر مرعب، إنها مقامرة هائلة تخاطر بالأنظمة التي تحفظ الحياة على وجه الأرض. وهذه التجارب يمكن تحويلها إلى سلاح، وإساءة استخدامها. ولك أن تتخيل، على سبيل المثال، ما الذي قد يحدث إذا تنازعت الهند وباكستان على قيام دولة منهما بهذه التجارب”.
لا يمكن القول إن فكرة تعديل مناخ العالم لمعالجة الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري فكرة جديدة. فقد حذرت مجموعة من المستشارين العلميين الرئيسَ الأمريكي ليندون جونسون من آثار الاحتباس الحراري في عام 1965، وأشاروا وقتها إلى أن “إحداث تغييرات مناخية متعمدة لمعاكسة هذه الآثار يستلزم التأني والفحص الدقيق” لعواقب هذا الأمر.
تزايدت الدعوة إلى التدخل في النظام المناخي خلال السنوات الأخيرة، بدافعٍ من تباطؤ الدول في جهود خفض الانبعاثات، والتأخر في تنفيذ الاتفاق الدولي بشأن بلوغ درجة حرارة تزيد بمقدار 1.5 درجة مئوية فقط على ما كانت عليه درجة حرارة الأرض قبل العصر الصناعي.
وتتنوع أساليب الهندسة الجيولوجية المقترحة، فتشمل: ضخ طبقات من الماء المالح في السحب لزيادة قدرتها على عكس أشعة الشمس، أو وضع جزيئات من الجليد في السحب عالية الارتفاع، للحيلولة دون تخزينها قدراً كبيراً من الحرارة التي ترتد عن الأرض.
التغير المناخي
أما أكثر السبل المقترحة شهرة، فهي إطلاق مادة عاكسة لأشعة الشمس، مثل غبار الكبريت أو الطباشير، في الطبقة الجوية العليا، لتدور جسيمات هذه المواد حول الأرض، وتصرف أشعة الشمس عنها. ويزعم ديفيد كيث، أستاذ الفيزياء التطبيقية في جامعة هارفارد، أننا يمكننا الاستعانة بخطة تتضمن الاعتماد على 100 طائرة تحلق على ارتفاع عالٍ وتطلق مليوني طن من غبار الكبريت سنوياً، وأن ذلك من شأنه تبريد الكوكب بنحو 1 درجة مئوية، أي إزالة الارتفاع الذي حدث في درجة حرارة الأرض منذ الثورة الصناعية.
تشير التقديرات إلى أن هذه الخطة ستكلفنا عدة مليارات من الدولارات سنوياً، لكنها تمنحنا سبيلاً أسرع من غيره لخفض درجة حرارة الأرض. ويزعم كيث أنها أكثر فاعلية من تقنيات احتجاز الكربون وإعادة تدويره، لأنها تحتاج إلى بنية تحتية معقدة ومرتفعة التكلفة.
ومع ذلك، يشير بعض العلماء إلى أن رش الكبريت في غلاف الأرض قد يستنفد طبقة الأوزون، وربما يجعل السماء بيضاء اللون. فضلاً عن تأثيرات أخرى غير مؤكدة على المناخ، مثل موجات الحر المميتة.
الخلاصة أنه كلما تفاقمت آثار الاحتباس الحراري سيزيد الجدل بشأن جدوى التدخل في هندسة المناخ وتداعياتها الأخلاقية. ومع ذلك يرى بِرمان أن الحكومات يجب أن تتعامل مع الهندسة الجيولوجية معاملتها للألغام الأرضية والأسلحة البيولوجية، وأن تصنفها ضمن الأمور المحرمة دولياً، وقال: “يتحدث الناس عن أن الأمر يتعلق بالحق في حرية البحث، لكن الواقع أنه لا يمكن لأحد أن يعطيك الحق في أن تجلس بفناءِ منزلك وتصنع قنبلة كيميائية”.
* المصدر: عربي بوست
* المادة الصحفية: تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع