إلى أين يتجه التوتر في شبه الجزيرة الكورية؟
السياسية:
لم تفلح العقوبات الدولية القاسية المفروضة على كوريا الشمالية في شيء سوى أن جعلت بيونغ يانغ أكثر عدوانية في تهديدها النووي والصاروخي للأمن الإقليمي والدولي، لتصف واشنطن التوترات الراهنة في شبه الجزيرة الكورية بأبرز تحد يواجه الأمن العالمي.
واختبرت كوريا الشمالية بنجاح “محركاً يعمل بالوقود الصلب بقوة دفع كبيرة” بهدف تطوير سلاح جديد وفق ما ذكرت وكالة الأنباء الكورية الشمالية الرسمية مساء الجمعة 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وأجري الاختبار بإشراف الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في قاعدة لإطلاق الأقمار الاصطناعية “وقد وفر ضمانة علمية وتكنولوجية لتطوير نوع جديد من السلاح الاستراتيجي”.
وبينما تسعى الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية إلى تمتين احتوائهم الثلاثي نظام كيم جونغ أون، لا سيما عبر تنسيق العقوبات وسد الثغرات في نظام العقوبات الدولي على كوريا الشمالية، وجدت طوكيو وسيول في حال القلق الدولي من النظام الأمني الإقليمي الهش في المنطقة فرصة لمزيد من خطوات عسكرة سياسة الأمن القومي للبلدين، في ظل اهتزاز الثقة في الحليف الأميركي الذي عمل لعقود مزوداً رئيساً للأمن للحليفين في مواجهة الصين وروسيا وكوريا الشمالية، مما يفتح الباب أمام سباق تسلح نووي وتقليدي، ليس في مصلحة واشنطن أن تتصاعد حدته في ظل استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، وفق مراقبين.
توتر في شبه الجزيرة الكورية
تتنازع شبه الجزيرة الكورية خلال الأشهر الأخيرة ثنائية التجارب الصاروخية لبيونغ يانغ والمناورات العسكرية التي تجريها واشنطن وسيول، لكن المتغير الجديد في تلك المعادلة المستقرة تمثل في إقرار استراتيجية الأمن القومي اليابانية، التي تخصص للمرة الأولى ميزانية تاريخية لقوات الدفاع الذاتي اليابانية، وكذا التوتر بين الصين وتايوان، ناهيك بإنتاج بيونغ يانغ صواريخ أكثر تطوراً باستخدام الوقود الصلب، مما يعتبره المحللون “أكثر قدرة على المناورة، ويمكن إطلاقها بسرعة أكبر وإخفائها”.
فالصين أكدت عبر مناوراتها العسكرية حول تايوان في أغسطس (آب) الماضي، من خلال إطلاق صواريخ باليستية سقطت في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، أن الصراع في مضيق تايوان سيؤثر بشكل مباشر في الأمن القومي الياباني، بينما تواصل كوريا الشمالية تطوير برامج الأسلحة النووية والصواريخ المتوسطة المدى والعابرة للقارات القادرة على تهديد الولايات المتحدة وكذلك جارتها الجنوبية القريبة سيول، وصولاً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى حلق فوق اليابان.
ويذهب السيد صدقي عابدين، الباحث المختص في الشؤون الآسيوية، إلى أن كوريا الجنوبية أعادت توصيف جارتها الشمالية كعدو، وتتعامل على هذا الأساس بعد نحو خمس سنوات من التهدئة النسبية، ليصل التصعيد إلى ذروته في الوقت الراهن، منذ أن قامت بتفجير مكتب الاتصال بين الجانبين في مدينة كايسونغ، وصولاً إلى تجاربها الصاروخية الأخيرة.
مؤشرات التصعيد في شبه الجزيرة الكورية بادية للعيان بحسب عابدين، وتشمل المناورات العسكرية الأميركية في المنطقة وبالأساس مع كوريا الجنوبية حيث تكثفت وزاد نطاقها وامتد زمنها، وكذا عمليات إطلاق الصواريخ من قبل كوريا الشمالية، التي بلغت معدلاً غير مسبوق وشملت القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى، فضلاً عن اللهجة الحادة في الخطاب السياسي، وأعلى درجات الحدة تجدها لدى بيونغ يانغ، فضلاً عن الذهاب بالقضية إلى مجلس الأمن أكثر من مرة في الفترة الأخيرة، وكثافة الحديث عن ملف حقوق الإنسان في كوريا الشمالية، وإثارته في المحافل الدولية، وفرض عقوبات أحادية إضافية من جانب الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على بيونغ يانغ، وكذا رفض كوريا الشمالية المطلق للحوار مع الولايات المتحدة، في حين أن الأخيرة ما زالت تقول إن باب الحوار مفتوح وبلا شروط مسبقة.
ويستكمل عابدين في إشارة إلى مؤشرات التوتر بشبه الجزيرة الكورية التي تشمل أيضاً “الرفض الكوري الشمالي لمبادرة الرئيس الكوري الجنوبي بخصوص تقديم مساعدات للشمال على أن تقوم بخطوات في سبيل نزع سلاحها النووي، والأمر لم يقف عند الرفض، بل كان هناك تسفيه لما هو مطروح من جانب القيادة في الشمال، وكذا إصدار بيونغ يانغ قانوناً يكرس وضعها كدولة نووية، مع رفض مطلق للتخلي عن هذا السلاح، وبيان حالات استخدامه، أي أنه بات لكوريا الشمالية عقيدة نووية، فضلاً عن السير قدماً من قبل بيونغ يانغ في تطوير محركات الصواريخ، بما في ذلك تجربتها الأخيرة بالنسبة إلى محرك الدفع العالي الذي يعمل بالوقود الصلب، والتي أشرف عليها كيم جونغ أون بنفسه، وكذلك توقع كل من واشنطن وسيول إقدام كوريا الشمالية على إجراء تجربة نووية سابعة في أي وقت، وكذا حالة الاستقطاب حول ما يجري في شبه الجزيرة الكورية ومن المسؤول عنه والطريق الأمثل للتعامل معه بين كل من واشنطن وحلفائها من ناحية والصين وروسيا من ناحية أخرى”.
روسيا اللاعب الخفي
زاد التصعيد الكوري الشمالي مع انطلاق الحرب الروسية في أوكرانيا، مما يكشف عن التحالف الضمني بين موسكو وبيونغ يانغ في مواجهة الغرب، وتزامناً يكرر كيم جونغ أون تأكيد عزمه على أن اعتماد كوريا الشمالية السلاح النووي “لا رجوع عنه”، معرباً عن نيته امتلاك أقوى ترسانة نووية في العالم.
وبعد أن انضمت اليابان إلى مجموعة السبع في فرض عقوبات على موسكو في أعقاب غزو أوكرانيا، وصفت روسيا اليابان بأنها دولة “غير ودية”، وزادت من نشاطها العسكري بالقرب من اليابان، لتصب مزيداً من الزيت على نار التوتر في شبه الجزيرة الكورية، رغبة في إزعاج خصمها الغربي، بحسب مراقبين.
وفي المقابل، أيد الاجتماع الأخير لوزراء خارجية مجموعة السبع اليابان في طلبها إلى مجلس الأمن عقوبات أكثر صرامة ضد كوريا الشمالية عقب إطلاقها “المتهور” صاروخاً باليستياً قادراً على بلوغ البر الرئيس الأميركي.
وفتح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف النار على طوكيو، الأربعاء الماضي 14 ديسمبر الحالي، خلال مؤتمر بعنوان “الخيار الأوراسي كأساس لتعزيز السيادة”، موضحاً أن “الناتو أصبح ينتشر في المحيطين الهندي والهادئ”، وزعم أن “اليابان تنشر هياكل تابعة للناتو في المحيطين الهندي والهادئ”.
والأسبوع الماضي، اتهم لافروف، حلف شمال الأطلسي (الناتو) باللعب بالنار وبتأجيج التوتر قرب الصين، فيما يسعى الغرب ومعه اليابان إلى تفكيك البرنامج النووي لكوريا الشمالية “بشكل يمكن التحقق منه”.
ومن جهتها، رأت فردوس عبدالباقي، الباحثة بوحدة الدراسات الآسيوية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، أنه في ظل التطورات التي تفرضها الحرب الروسية الأوكرانية، يبدو أن كوريا الشمالية تسعى إلى أن يكون لها فرصة لإثبات قوتها على الساحة الدولية عبر تأكيد عدم استعدادها للتنازل عن برنامجها النووي. مستندة في ذلك إلى الدعم الذي يمكن أن تقدمه لها كل من الصين وروسيا في مواجهة التحالفات الأميركية على المستويات الإقليمية والدولية، وتستهدف ترتيبات جديدة في النظام الدولي الذي بات يميل بشكل أكبر إلى تعددية قطبية بصبغة تنافسية بين وجهات نظر شرقية وغربية.
ومن جانبها، تحاول كوريا الشمالية استغلال الحالة العميقة من الانقسامات بين الولايات المتحدة والصين وروسيا للإفلات من العقاب الدولي، وهو ما دفعها إلى تعزيز تحالفها مع كل من موسكو وبكين تحت تعاون “استراتيجي وتكتيكي” يوفر لها غطاء لاختبارات صاروخية أكثر في ما بعد، وهو ما ظهر في إحباط القوتين الجهود الأميركية لتوسيع العقوبات الدولية ضد كوريا الشمالية.
الحلف الثلاثي ضد كيم
لم يأت التصعيد الكوري الشمالي من فراغ، إذ يعتقد بعض المختصين في الشؤون الأمنية الآسيوية أن ما تفعله بيونغ يانغ ردة فعل لسياسة الاحتواء الثلاثي التي تتبعها واشنطن وطوكيو وسيول، وصولاً إلى ما تعتبره كوريا الشمالية استفزازات لا يمكن الصمت إزاءها.
وخلال قمة آسيان في كمبوديا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن البيت الأبيض بيان بنوم بنه حول الشراكة الثلاثية بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث جدد الرئيس الأميركي جو بايدن التزام واشنطن بالدفاع عن اليابان وكوريا ضد تهديدات بيونغ يانغ “التزاماً صارماً مدعوماً بمجموعة كاملة من القدرات بما في ذلك القوة النووية”، مع تزايد التحديات التي تواجه البيئة الأمنية الإقليمية هناك.
وترى عبدالباقي أنه من أبرز مؤشرات التصعيد الأخير بين الكوريتين كان إطلاق كوريا الشمالية عدداً من الصواريخ الباليستية لإبداء اعتراضها على التدريبات والمناورات العسكرية التي تجريها كل من الولايات المتحدة مع كوريا الجنوبية، التي كان آخرها “درع الحرية” في أغسطس الماضي بعد توقف أربعة أعوام، بجانب البدء في مناورات “باسيفيك دراجون” الثلاثية في أغسطس أيضاً قبالة سواحل جزيرة هاواي، إضافة إلى التدريبات العسكرية الثلاثية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان في سبتمبر (أيلول) الماضي ضد غواصات كوريا الشمالية.
من دوافع التصعيد الراهن أيضاً، سعي كوريا الجنوبية لتعزيز ترسانتها العسكرية في مواجهة كوريا الشمالية، مما يرفع خطر سباق التسلح في المنطقة. من مؤشرات التصعيد أيضاً كان إعلان الإدارة الجديدة في كوريا الجنوبية بقيادة يون سوك يول النية بالانسحاب من الاتفاق العسكري الرمزي الموقع بين الطرفين حال لم يكن هناك تغير في موقف كوريا الشمالية الحالي، قائلاً إنه سيدعو الشمال إلى التزام اتفاق 19 سبتمبر العسكري والموقع عام 2018. إضافة إلى إعلان استعداده للمشاركة في تحالف العيون الخمس الاستخباراتي الذي يضم كلاً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، إلى جانب رغبته في المشاركة في الحوار الأمني الرباعي “كواد”، فضلاً عن إعادة تنشيط التخطيط العسكري للضربات الوقائية والانتقامية ضد القيادة الكورية الشمالية، بحسب المتحدثة ذاتها.
وأضافت الباحثة، “قد يكون حفاظ كوريا الشمالية على برنامجها النووي إحدى خطوات عدم الانزلاق نحو مواجهة عسكرية شاملة، لأن من وجهة نظرها إبداء استعدادها للنقاش حول نزع السلاح النووي يعني خضوعها لشروط ستؤدي في النهاية إلى القضاء على نظامها السياسي، وهو ما لا تريده روسيا والصين في الأقل في الوقت الراهن في ظل تنافسهما مع الولايات المتحدة”.
مصير مجهول للتصعيد
وفي شأن سيناريوهات التصعيد في شبه الجزيرة الكورية، أعرب الباحث في الشؤون الآسيوية السيد صدقي عابدين عن اعتقاده بأنه في ظل حالة التصعيد تلك وفي ظل التحفز الأميركي – الكوري الجنوبي والياباني، بخاصة إذا ما أقدمت بيونغ يانغ على إجراء تجربتها النووية السابعة فإن الأمور قد تزداد تعقيداً، ومن ثم يزيد مستوى التوتر والتصعيد. مضيفاً “لكنه على الأغلب سيظل تصعيداً منضبطاً، بحيث لا تنزلق الأمور إلى اشتباكات كثيفة قد تؤدي إلى حرب طويلة الأمد، لكن هذا لا ينفي احتمالية وقوع اشتباكات محدودة بحرية أو حتى برية من خلال المدفعية بين الكوريتين، أما وجود عمليات برية تقوم بها قوات المشاة على أراضي الطرف الآخر أو غارات جوية تظل أقرب إلى الاستبعاد. إلا إذا انزلقت الأمور بسبب حسابات خاطئة أو سوء إدراك، وحتى إذا ما وقع ذلك فعلى الغالب ستكون هناك مساع لتدارك الأمر لئلا تدخل الأمور إلى نطاق الحرب الشاملة”.
وبدوره، رأى أحمد عليبة، الباحث المتخصص في شؤون الدفاع والتسلح في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، أن العالم فقد القدرة على التنبؤ بشكل يقيني في ما يتعلق بالتوترات والأزمات، على سبيل المثال حلف شمال الأطلسي (الناتو) حينما أصدر مفهومه الاستراتيجي الجديد للفترة بين عامي 2022 و2030 استبعد القدرة على التنبؤ، مع الاستناد إلى القدرة على امتصاص الصدمة وتوقعها، والبقاء في حال تأهب دائم لمتغير كبير في أي صراع دولي أو إقليمي، أو ما يسمى “بالأحداث الانفجارية”، كما جرى في أوكرانيا، على رغم كل المؤشرات السابقة التي كانت تدل على اندلاع الحرب.
إذاً التوتر في شبه الجزيرة الكورية من الصعب التنبؤ بمآلاته، لكن عليبة يرى أن الوضع هناك يرتبط ببيئة تفاعلات متشابكة وشديدة التعقيد تتعدد أطرافها بين اليابان والصين وكوريا الجنوبية وتايوان وروسيا، مما يجعل من الصعب وجود تفاعل منفرد من جانب كوريا الشمالية، لكنه أمر وارد إذا غاب الانتباه العالمي إلى خطوة التصعيد الراهن.
لكن الباحثة فردوس عبدالباقي تتفق مع ذهبت إليه تقديرات عدة خلصت إلى أنه “قد تدفع هذه التوجهات التصعيدية إلى زيادة احتمالات سباق التسلح بالمنطقة واستدعاء مزيد من التدخل الأميركي، بخاصة مع ترجيحات بأن تصل قدرة الصاروخ الكوري الشمالي من طراز هواسونغ 12 إلى مسافة نحو 4600 كيلومتر بارتفاع يقارب 1000 كيلومتر، مما يعني قدرته على الوصول إلى جزيرة غوام الأميركية الموجودة في المحيط الهادئ”.
تعديل العقيدة النووية
في لحظة دولية شديدة الحساسية، جاء إعلان كوريا الشمالية تعديل عقيدتها النووية بما يعطيها الحق في تنفيذ ضربات نووية وقائية، غير أن بيونغ يانغ التي أعلنت رسمياً عدم تخليها عن تطوير أسلحتها النووية للدفاع عن نفسها، ومنحت ذاتها مشروعية الهجوم النووي الوقائي في ضوء تراجع الولايات المتحدة عن منحها الحوافز الاقتصادية والأمنية اللازمة التي لوح بها الرئيس السابق دونالد ترمب، يرى بعض المراقبين أنها تسعى إلى ابتزاز المجتمع الدولي من جديد وفي مقدمته الولايات المتحدة من أجل شروط أكثر مرونة للتفاوض مع واشنطن، وأن تعديل عقيدتها النووية محض إعلان سياسي، ولا يكشف عن نية يقينية لاستخدام السلاح النووي في صراعها الإقليمي بمنطقة شبه الجزيرة الكورية، إذا وصل التصعيد إلى مستوى يحتم عليها توجيه الضربة النووية الوقائية.
ومنذ الاحتفال بالذكرى 75 لتأسيس حزب العمال الحاكم في عام 2020، وضعت كوريا الشمالية هدف تحقيق قدرة متقدمة على القيام بضربة نووية استباقية وانتقامية بما يجعلها “دولة نووية مسؤولة ولديها قوة نووية للدفاع بما يحمي سيادة وسلامة أراضي البلاد وحياة وسلامة الشعب من التهديدات العسكرية والعدوان والهجوم الخارجي”، مستبعدة الدخول في أية محادثات لنزع السلاح النووي.
وبخلاف ذلك، يعتقد عليبة أن كوريا الشمالية غيرت في “المبدأ والاتجاه”، وليس في العقيدة النووية القائمة على الردع، إذ يأتي التصعيد كرد فعل لوجودها في بيئة تهديد استراتيجي ونتيجة عدم تقديم حوافز كافية من الولايات المتحدة، وغياب المصداقية في تلك الحوافز، وفي تحركات كوريا الجنوبية تجاه جارتها الشمالية، فضلاً عن التحركات الأميركية في منطقة الإندوباسيفيك، وخطط واشنطن لتحديث الثالوث النووي للقيادة الاستراتيجية “ستراتكوم” للقوات المسلحة الأميركية، وفق ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن قبل عدة أيام.
ويشير الباحث أيضاً إلى أنه على أي حال، رؤية مختلف البلدان القوة النووية تغيرت مع انهيار آخر حاجز أمام سباق التسلح النووي، في إشارة إلى انتهاء صلاحية معاهدة ستارت الجديدة بين روسيا والولايات المتحدة بحلول عام 2026، والتلويح بالخيار النووي في صراعات عدة في آسيا وأوروبا.
سباق تسلح جديد
التلويح المستمر باستخدام الأسلحة النووية في الحرب بأوكرانيا، أعاد الاعتبار إلى أهمية امتلاك القدرات النووية لتحقيق نظرية الردع في علاقات دولية قائمة على القوة بمفهومها الشامل، لكن الموقف الاستراتيجي في شبه الجزيرة الكورية يمر بمنعطف خطر، يضع النصف الآخر من الكرة الأرضية أمام كل سيناريوهات الحرب والتصعيد العسكري.
وعلى أي حال، يعتقد الباحث المتخصص في شؤون الدفاع والتسلح في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، أن الوضع في شبه الجزيرة الكورية يطلق سباق تسلح متعدد المستويات إقليمياً ودولياً، لا يقتصر على الكوريتين فقط، لكن في القلب منه تأتي الصين واليابان والولايات المتحدة أيضاً، التي أشار إلى أنه “ليس من مصلحتها سباق التسلح هناك، لا سيما في أبعاده النووية”.
ويستكمل الباحث “واشنطن ترى أن الصين بامتلاكها ما بين 1000 و1500 رأس نووي ما زالت تحت الحد الأدنى لكنها تسبق الولايات المتحدة في تسريع التحديث النووي، وفي المقابل اليابان لديها المعرفة التقنية اللازمة لحيازة القدرات النووية، ويمكنها تطوير سلاح نووي في فترة وجيزة، وإذا نظرنا إلى الوصول العسكري لواشنطن والمظلة النووية الأميركية، سنجدها أضعف من الصينية في تلك المنطقة من العالم وليس على مستوى العالم ككل، مثلاً الولايات المتحدة لديها حاملة طائرات واحدة هناك، بينما للصين ثلاث حاملات في المنطقة نفسها، ولديها تسريع في امتلاك الرؤوس النووية من خلال الصوامع والصواريخ والحاملات تحت السطحية (الغواصات)، بينما واشنطن ليس لديها وصول عسكري شامل في تلك المنطقة”.
عودة “الساموراي”
شرعت اليابان في حشد عسكري تاريخي في أجرأ خروج لها عن الموقف السلمي الذي تم تبنيه في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكتب كريستوفر جونستون مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، تقديراً استراتيجياً في شأن التحول “الثوري” لاستراتيجية الأمن القومي لليابان، بعدما أعلنت وزارة الدفاع اليابانية زيادة قياسية في الإنفاق الدفاعي، معتبراً أن الاستراتيجية الجديدة “من شأنها تحطيم المعايير السياسية المعمول بها في معظم الفترة منذ الحرب العالمية الثانية”.
نمو الميزانية الدفاعية اليابانية لتبلغ نحو 43 تريليون ين، أي نحو 315 مليار دولار على مدى خمس سنوات تبدأ من السنة المالية المقبلة في أبريل (نيسان) المقبل، أثار هواجس خصومها، قد تضاعف حجم نفقات الدفاع في البلد “المسالمة” منذ فترة طويلة، إلى مستويات قريبة من الإنفاق العسكري في روسيا، بينما تتجاوز دولاً كبرى أخرى مثل فرنسا.
وتخطط طوكيو للحصول على صواريخ كروز “توماهوك” من الولايات المتحدة، وتطوير صواريخ كروز بعيدة المدى الخاصة بها وتعزيز الدفاعات الإلكترونية لمواجهة التهديدات العدوانية المتزايدة للصين، وفقاً لما نقلته صحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية نقلاً عن مسؤولين شاركوا في المناقشات المتعلقة باستراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان.
الميزانية العسكرية لليابان تشمل زيادة بنسبة 57 في المئة، مقارنة بميزانية الدفاع في السنوات الخمس الأخيرة التي تبلغ 27.5 تريليون ين، مما يدفع بالأسئلة نحو إلى أين سيقود تغيير سياسة الإنفاق الدفاعي في اليابان، التي احتفظت بدستور سلمي صاغته الولايات المتحدة منذ هزيمة الأولى في الحرب العالمية الثانية، لا سيما في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. وذلك وسط تهديدات الصين تجاه تايوان والطموح النووي لكوريا الشمالية ضمن العوامل مما دفع طوكيو إلى زيادة إنفاقها العسكري.
لماذا تضاعف طوكيو نفقات جيشها؟
ويحظى قرار التوسع الكبير في الإنفاق العسكري بتأييد شعبي واسع بعد أن عزز الغزو الروسي لأوكرانيا المخاوف من احتمال نشوب صراع في تايوان. و”تاريخياً، كانت المقاومة الشعبية لزيادة الإنفاق الدفاعي متأصلة في دستور اليابان، الذي تنبذ مادته 9 (بند السلام)، التهديد باستخدام القوة أو استخدامها في تسوية النزاعات الدولية”، بحسب الصحيفة البريطانية.
وقد تكون أحد الأسباب الدافعة إلى التحول في الاستراتيجية الدفاعية اليابانية هو الرغبة في حماية الأمن القومي من احتمالات الهجوم الكوري الشمالي، بحسب الباحثة فردوس عبدالباقي التي أشارت إلى مدى تفاعل اليابان بجدية مع التهديد الكوري الشمالي، بخاصة بعد إعلان اليابان أخيراً إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى عابر للقارات من كوريا الشمالية عبر الأجواء اليابانية، في تحد واضح أدى إلى لجوء الإدارة اليابانية إلى تحذير المواطنين بالتدريب على الذهاب للملاجئ، تحسبًا من تهديدات لم تحدث منذ سبتمبر عام 2017، وهو ما أثار تخوفات من إجراء بيونغ يانغ تجربة نووية سابعة من ناحية.
ووفق عبدالباقي هناك دافع آخر يتعلق بالاستعداد لأي مواجهات مستقبلية مع الصين في بحر الصين الشرقي أو مضيق تايوان من ناحية أخرى، وهو ما جعل طوكيو تلجأ إلى بحث تعديل الدستور في مادته التاسعة وتغيير الحد الأقصى للإنفاق الدفاعي البالغ واحداً في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتقترب من اثنين في المئة بحلول نهاية الخطة الخمسية في عام 2027، وهو ما ظهرت بوادره في عام 2015 بعرض رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي لتشريع يوسع أدوار ومهام قوات الدفاع الذاتي استجابة للتحديات المستجدة في المنطقة، وأضافت “يبدو أن تأثير الحرب الروسية الأوكرانية واضح في هذه التوجهات أيضاً، إذ بات من الضروري أن تعمل البلاد على ضمان قدرتها على الدفاع عن نفسها، بجانب تقوية التحالفات الموثوقة مثل الولايات المتحدة”.
المصدر : اندبندنت عربية
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع