السياسية:

خلف الطعم الحلو للسكر تختبئ مرارات تاريخية كثيرة، وخلف لونه الأبيض يتوارى تاريخ أسود، كرس الملايين من جنس بشري للمقايضة بالبن والشاي، وغيرهما من السلع. وقبل ذلك بقرون طويلة أنتجت المخيلة الشعبية في شبه القارة الهندية التي وفرت لها صناعة السكر وتجارته أرباحاً هائلة، بأنه “سر محروس”، ثم عومل كرمز ديني وباقتنائه لإظهار الثروة والقوة، هذا هو السكر الذي من أجله بدأ تقسيم المجتمع البشري في أفريقيا لقسم عامل من أجل توفير الثراء، وهو مجتمع الرقيق، وآخر مستعمر متلق يدير هذه العملية التجارية المعقدة. وبعد زمن، ومن أجل السكر أيضاً، بدأت تتشابك العمليات الاقتصادية بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها، وظهرت الحاجة إلى تذليل وسائل النقل، ثم تطور الأمر إلى ابتداع طريقة أكثر سهولة لإدارة عائداته عبر البنوك والاستفادة منها حتى آخر بلوراته الساحرة، وذلك بدخوله عهد الاتفاقات التجارية الدولية والمضاربات الجمركية، وغيرها. والأهم هو أن دول القارة السمراء أصبحت مجبرة على تطبيق نظريات النمو الاقتصادي الغربية، والمستندة إلى أفكار التجارة الحرة وخصخصة الموارد الحيوية، من دون أن يعود ذلك على اقتصادها وتنميتها بالفائدة المأمولة.

وفي تلك الحقب كلها، هنالك طرف ينظم العمل ويتلقى الأموال، وآخر يعمل من أجله، وهو الطرف المحكوم والمنظم وفقاً لتقسيم العمل. ومنذ أن أخذ الرقيق إلى مزارع قصب السكر ليتحملوا عبء رفاهية مالكيهم، وكل ما يتعلق بزراعة وحصاد قصب السكر وتصنيعه ثم الاتجار به، لم تنفصل العملية عن طبيعتها الاستغلالية بطريقة ما، هدفها الرئيس مراكمة ثروة كبيرة للأوروبيين. والسكر الذي سماه الأوروبيون والأميركيون في القرن الـ15 “الذهب الأبيض”، لا تقل أهميته عن الذهب الأبيض (القطن)، وبعض المنتجات التي شكلت التاريخ الاستعماري الذي يختلط فيه الاستغلال مع دعاوى المستعمرين الذين برروا لحملاتهم بأنها من أجل نشر الحضارة في مجتمعات بدائية.

مزارع شاسعة

عرفت الأطعمة والمشروبات المحلاة لدى بعض الحضارات منذ آلاف السنين، باستخدام السكر بشكله السائل قبل أن تتدخل فيه يد التصنيع الحديث وتحوله إلى مادة بنية، ثم تنقيته بعد ذلك إلى بلورات بيضاء. الكاتب جيمس هانكوك في كتابه “محاصيل المزارع الشاسعة” ذكر أن “المركز الجغرافي لزراعة قصب السكر تحول بشكل تدريجي عبر العالم على مدار 3000 عام من الهند إلى بلاد فارس، بعد غزو داريوس الأول حاكم الإمبراطورية الإخمينية – الفارسية للهند في عام 510 قبل الميلاد. ومن هناك انتشر عابراً الشرق الأوسط إلى أفريقيا، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط إلى الجزر قرب الساحل الأفريقي، ومن ثم إلى الأميركتين، حيث تم استحداث نوع جديد من الزراعة لإنتاج السكر، وهو ما سمي نظام المزارع الشاسعة”.

أضاف هانكوك، “زرع المستعمرون مساحات واسعة من محاصيل مفردة يمكن شحنها لمسافات بعيدة، وبيعها في أوروبا وتحقيق الأرباح. ومن أجل تعظيم الإنتاجية والربحية في هذه المزارع تم استيراد العبيد أو العمالة ذات العقود طويلة الأجل لمتابعة وحصاد المحاصيل التي تتطلب عمالة كثيفة”. وبحسب هانكوك، فإن قصب السكر المحصول الأول الذي يزرع وفق ذلك النظام، وتبعه عديد من المحاصيل الأخرى، بما في ذلك القهوة والقطن والكاكاو والتبغ والشاي والمطاط، وأخيراً نخيل الزيت.

وبذلك كانت الزراعة هي العمود الأساس الذي استندت إليه المستعمرات البريطانية في تأسيس نظم اقتصادها منذ نشأتها الأولى في مطلع القرن الـ17. وكان السكر من أهم المحاصيل التي نالت حظاً في نمو اقتصاد بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في مرحلة ما بعد استقلالها. ونالت الزراعة عموماً اهتماماً كبيراً في نشوء اقتصاد الولايات المتحدة منذ قيام الاستيطان في قارة أميركا الشمالية وتأسيس المستعمرات فيها. وقد نالت محاصيل عدة الاهتمام اللازم، أما السكر فقد كان من بين المحاصيل التي تنمو في تلك المستعمرات بشكل طبيعي، بدأه السكان الأصليون (الهنود الحمر)، وكان يمكن أن يدر عليهم أرباحاً كبيرة في وقت مبكر، ومن دون أعباء أخلاقية وإنسانية بجلب الرقيق من أفريقيا لولا الصراعات بينهم وبين السكان الأصليين.

عبودية السكر

أدرك البريطانيون أنهم بحاجة إلى القوة البشرية والعمالة لزراعة قصب السكر وحصاده ومعالجته، فكان هذا أحد دوافع استعمار أفريقيا. ووصلت أولى سفن الرقيق إلى الولايات المتحدة عام 1500، واستمرت تجارة الرقيق أكثر من ثلاثة قرون حتى عام 1866. ونقل تجار الرقيق في تلك الفترة نحو 12 مليون أفريقي عبر المنافذ والموانئ البحرية للمحيط الأطلسي، بواقع قرابة 36 ألف رحلة للرقيق بين أفريقيا والأميركتين. وكانت المستعمرات البرتغالية قد أقامت نقاطاً تجارية للعاج والفلفل وسلع أخرى، وكان ملايين الرقيق قد وزعوا أيضاً بين مزارع السكر في البرازيل ومنطقة البحر الكاريبي.

وكانت عبودية السكر هي الضلع الرئيس في عملية “المثلث التجاري”، وآليته أن يشترى الرقيق ويرسلوا للعمل في المزارع الأميركية، ويرسل العائد من إنتاجهم إلى أوروبا، ومن هناك تجلب سلع أخرى ليشتريها التجار الأفارقة مقابل رقيق آخرين، وهكذا. ومع زيادة الإنتاجية، وبعد أن أصبح السكر من أهم السلع الخارجية التي شكلت ثلث اقتصاد أوروبا، ارتفعت مستويات المعيشة وعمت بريطانيا روح استهلاكية حولت السكر من سلعة رفاهية إلى ضرورية.

وسخرت بريطانيا حامياتها العسكرية لحماية مزارع قصب السكر التي تركتها في نهاية حرب السنوات السبع في عام 1763، ولكن نشأ النزوع إلى الحرب والثورة. وبعد توقف القتال وتقسيم الأميركتين، قرر الملك جورج الثالث التنازل عن القليل من سكر منطقة الكاريبي إلى فرنسا من أجل تأمين جزء من أميركا الشمالية. ونتيجة للتقنيات المحسنة المستمرة في الزراعة والتصنيع والتجارة، ضاعف السكر من أهمية المستعمرات البريطانية بتطورها الاقتصادي، وتحفيز تجارة الرقيق. ويعزو مؤرخون أن تحول المستعمرات الأميركية الـ13 المتحاربة مع بريطانيا العظمى إلى ولايات مستقلة، في 4 يوليو (تموز) 1776، إلى انشغال الجيش البريطاني بحماية مزارع قصب السكر.

وتلقى البريطانيون ضربة أخرى في أغنى جزيرة لقصب السكر، وهي سانتو دومينغو (هاييتي) على ساحل البحر الكاريبي عندما ثار الرقيق هناك وأسسوا دولة مستقلة وحصلوا على حريتهم بعد هزيمة الجيش الفرنسي، ثم البريطاني، وأعلنت استقلالها في الأول من يناير (كانون الثاني) 1804.

استغلال مستمر

بعد إلغاء تجارة الرقيق عبر الأطلسي وفق قانون صادر عن برلمان المملكة المتحدة، في 25 مارس (آذار) 1807، إضافة إلى الضغط على دول أوروبية لاتخاذ الموقف نفسه، تحول إنتاج السكر من قصب السكر إلى الشمندر، مما تسبب في ارتفاع أسعار السكر، وبحلول عام 1854 أنتج 11 في المئة من سكر العالم من الشمندر، وفي عام 1899 تم استخلاص 65 في المئة من السكر من الشمندر السكري، ثم بعد نحو 10 أعوام كان قرار “تحرير الرقيق” الذي أعلنه الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن في الأول من يناير 1863، الذي “غير الوضع القانوني الفيدرالي لأكثر من ثلاثة ملايين مستعبد في مناطق معينة من الجنوب الأميركي من رق إلى حر”.

وبعد هذه القرون، بينما تزرع دول الاتحاد الأوروبي الشمندر السكري، ونشطت الولايات المتحدة في زراعته أيضاً بنسبة 50 في المئة، والصين بنسبة 20 في المئة، لا يزال اقتصاد هذه الدول في زراعة الشمندر يعتمد على عمالة رخيصة يستقدمون من خارج مناطق الإنتاج، في ظروف عمل سيئة وبرواتب متدنية.

ومن أشكال استغلال العمالة، يبرز نموذج عمال شركة “هفت تبه” الإيرانية لإنتاج السكر خوزستان، جنوب غربي إيران، الذين نفذوا احتجاجات واسعة خلال الأعوام الأخيرة، مطالبين بدفع رواتبهم المتأخرة، وتجديد التأمين، وعودة زملائهم المفصولين إلى العمل، ولكن النظام الإيراني قابل هذه الاحتجاجات بالحكم عليهم بالسجن والجلد، وفصل عدداً منهم.

وهذه الشركة التي تعد المصنع الأول لإنتاج السكر في إيران، يشغلها نحو أربعة آلاف عامل، وتنتج من قصب السكر الإيراني ما بين 10 و12 في المئة من السكر. الشركة التي أنشأها الشاه محمد رضا بهلوي عام 1961 بغرض تنمية منطقة خوزستان، تعرضت بعد الثورة الإيرانية 1979 إلى توسعة كبيرة بإضافة عشرات المصانع لها داخل منطقة الأحواز العربية بغرض تهجير السكان وتغيير ديموغرافية الأحواز، وقد تسببت بالفعل في إلحاق أضرار بالأراضي الزراعية والأهوار وتجفيف الأنهار والتلوث البيئي، مما أجبر السكان ومعظمهم مزارعون على الانتقال إلى مناطق أخرى.

تشكيل العالم

عندما نشأ تصنيع السكر في خضم ما عرف بـ”الثورة التجارية” التي ركز فيها الأوروبيون على التجارة، من تاريخ الحملات الصليبية وحتى الثورة الصناعية، ومن أجل الحصول على مصادر جديدة للثروة، شهدت فترة “الثورة التجارية” نمو التجارة العامة والخدمات المالية والمصرفية والتأمين والاستثمار. وتبع ذلك التطور ظهور الطرق التجارية الحديثة والمختصرة. وتلك التطورات والقوة الاقتصادية والتأثير العالي، لم يكن التنبؤ بها وارداً حينما بدأ إنتاج وتصنيع السكر من شرق كوكب الأرض في الهند، مروراً بالشرق الأوسط إلى أفريقيا، ووصولاً إلى الغرب.

وحازت البرازيل عام 2018 المركز الأول في إنتاج السكر من قصب السكر بحجم إنتاج بنحو 39 مليون طن، وهي الأولى تصديراً بنحو 42 في المئة من صادرات السكر العالمية، وبعدها الهند، ثم الاتحاد الأوروبي وتايلاند والصين، بينما أتت الولايات المتحدة في المرتبة السادسة.

والآن، بعد قرون، هل يمكننا القول إن السكر غير العالم بإعادة تشكيله مرة أخرى، كما زعم الكاتبان مارك أرونسون ومارينا بودوس في كتابهما “كيف غير السكر العالم؟” الذي سكبا فيه استفهامات مستخلصة من عصارة تجربتهما الشخصية، وعن علاقة السكر بالعبودية والنضال من أجل الحرية، وما تجلى خلال الثورات الأميركية والفرنسية والهاييتية، وانتقال بريطانيا العظمى إلى عهد الثورة الصناعية على أكتاف الرقيق؟

المصدر : اندبندنت عربية
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع