من هي “الملكة العذراء” .. ولماذا كان عهدها عصرا ذهبيا لإنجلترا؟
السياسية:
شهد السابع عشر من نوفمبر تشرين الثاني عام 1558 بداية واحد من أزهى العصور التي مرت بها إنجلترا: العصر الإليزابيثي. فقد اعتلت “الملكة العذراء” إليزابيث الأولى عرش البلاد إيذانا ببدء حقبة استمرت 45 عاما، وعادة ما يصفها المؤرخون بأنها “العصر الذهبي” للبلاد.
ورغم أن المملكة الصغيرة التي حكمتها إليزابيث الأولى واجهت مشكلات وانقسامات خطيرة، فإنها تمكنت بفضل دهائها وشجاعتها وإخلاصها من اتخاذ قرارات كان من شأنها توحيد البلاد والنهوض بها.
فمن هي إليزابيث الأولى، وما هي أهم سمات عصرها؟
“ابنة غير شرعية”
ولدت إليزابيث، آخر حكام أسرة تيودر، في 7 سبتمبر/أيلول عام 1533، وهي ابنة الملك المثير للجدل هنري الثامن من زوجته الثانية آن بولين. كان هنري قد تحدى سلطة بابا كنيسة الروم الكاثوليك التي كانت البلاد تابعة لها، كي ينهي زواجه من كاثرين الأرغونية التي أنجبت له ابنته ماري، ويتزوج من آن بولين.
كان هنري الثامن يأمل في أن تنجب له آن بولين مولودا ذكرا يخلفه على العرش، ولذا كان ميلاد ابنة ثانية هي إليزابيث مخيبا للآمال، كما أدى إلى إضعاف وضع الملكة الجديدة آن.
وقبل أن تبلغ إليزابيث عامها الثالث، أمر الملك بقطع رأس والدتها بتهمتي الخيانة والزنا. وبإيعاز من هنري الثامن، أصدر البرلمان الإنجليزي قرارا يقضي بعدم شرعية زواجه من آن بولين، ما يعني كون إليزابيث ابنة غير شرعية، وهو ما كان يراه الكاثوليك من البداية. كما أُعلن أن ماري هي الأخرى ابنة غير شرعية، إذ كان الملك يمهد الطريق لابنه “الشرعي” الوحيد إدوارد الذي أنجبه من زوجته الثالثة جين سيمور لخلافته على العرش.
بيد أنه قرر لاحقا إعادة وضع ابنتيه على خط خلافته على العرش، بالتحديد في عام 1544.
ورغم أن ماري كانت كاثوليكية متدينة، فإن إليزابيث وإدوارد تأثرا بالأفكار البروتستانتية لمعلميهما ولزوجة أبيهما السادسة والأخيرة، كاثرين بار، التي واصلت رعاية إليزابيث بعد وفاة هنري الثامن عام 1547. وقد خلفه على العرش ابنه إدوارد السادس إلى أن توفي عام 1553، لتتولى الحكم أخته ماري.
توجت إليزابيث ملكة للبلاد في أعقاب وفاة الملكة ماري في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1558.
“عقل يخلو من الضعف النسائي”
كغيرها من أبناء الملوك، تلقت إليزابيث الأولى تعليما خاصا على يد بعض من أفضل المعلمين في ذلك الوقت. وقد تفوقت في الموسيقى، وأتقنت اللغات الفرنسية واللاتينية والإيطالية، فضلا عن اللغتين اليونانية والإسبانية اللتين كانت تتحدثهما بثقة.
تلقت إليزابيث تعليما مكثفا عادة ما كان حكرا على أولياء العهد الذكور. وكان التركيز على التاريخ واللغات الكلاسيكية والبلاغة والفلسفة الأخلاقية (أو الأخلاقيات).
من بين أشهر من تتلمذت إليزابيث على يدهم، عالم الإنسانيات خريج كيمبريدج، روجر أشام.
انغمست الأميرة الذكية إليزابيث في الدراسات العلمانية التي كانت مزدهرة خلال عصر النهضة الأوروبية، وتشربت بمبادئ البروتستانتية الإنجليزية في مرحلتها الإصلاحية، على حد وصف دائرة المعارف البريطانية، تلك المبادئ التي شكلت مستقبل البلاد فيما بعد.
في مدح إليزابيث، نُسب إلى أشام قوله – بنبرة ليست غريبة على المجتمع الأبوي في ذلك العصر – إن عقلها “يخلو من الضعف النسائي” وإنها “مثابرة كالرجال، وذاكرتها تحتفظ بما تتعلمه بسرعة”.
كان ينظر إلى المرأة آنذاك على أنها أضعف من الرجل جسمانيا وعقليا، ولربما أعربت إليزابيث نفسها عن وجهة نظر عصرها عندما قالت: “أعلم أن لي جسد امرأة ضعيفة واهنة، ولكن لي أيضا قلب وقوة احتمال ملك، بل وملك جدير بحكم إنجلترا”. ورغم أن الإنجازات المنسوبة إليها كانت دليلا على ما يمكن للنساء أن يحققنه، فإنها لم تكن ترى أن المرأة ينبغي أن تتولى مناصب ذات نفوذ في المجتمع، ولم تفعل أي شيء لتحسين أوضاع النساء في مجتمعها. فقد كانت الملكية استثناء واختيارا “إلهيا”.
“الملكة العذراء”
أعلنت الملكة في الأعوام الأولى من ولايتها أنها “تزوجت المملكة”، و رغم تقدم العديد من النبلاء الإنجليز والأوروبيين لخطبة إليزابيث، ورغم دخولها في مفاوضات زواج مع عدد منهم، إلا أنها لم تتزوج مطلقا.
ويرى بعض المؤرخين أن السبب الرئيسي لذلك يعود إلى عدم رغبتها في تقويض نفوذها وسلطتها.
ورغم أنها كانت تثمن مشورة ونصح وزرائها ومستشاريها، إلا أنها كانت تصر دائما على أن سلطة اتخاذ القرارات النهائية المرتبطة بشؤون الدولة يجب أن تظل حصريا في يدها.
أحكمت إليزابيث قبضتها على البرلمان وكانت تقرر الموضوعات التي يُسمح لأعضائه بمناقشتها وسن القوانين بشأنها. حظرت الملكة على البرلمان مناقشة بعض القضايا كزواجها وخلافة العرش والدين وإعلان الحرب والسلام. لكن ذلك لم يمنع البرلمان من إثارة تلك القضايا من حين لآخر، ولكنه بالطبع لم يكن يتمتع بنفس السلطة التي يتمتع بها حاليا.
تسوية دينية وتسامح نسبي
كانت الصراعات الدينية تمثل مشكلة كبيرة في البلاد وقت تولي إليزابيث الحكم. فقد أخرج والدها هنري الثامن إنجلترا من عباءة الكنيسة الكاثوليكية في روما وأسس كنيسة خاصة به هي الكنيسة الإنجليزية. وبدأ خليفته إدوارد في إرساء دعائم كنيسة بروتستانتية خلال فترة حكمه القصيرة، ولكن أخته الملكة ماري عمدت إلى تفكيك تلك الكنيسة وأعادت البلاد إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية.
ولإنهاء الانقسامات الدينية في البلاد وتخفيف التوترات، توصلت إليزابيث إلى ما عرف فيما بعد بـ”التسوية الدينية”، وأصدرت في عام 1559 قانونين في هذا الشأن.
القانون الأول جعل منها “الحاكم” الأعلى للكنيسة، ما يعني سحب السلطة مجددا من بابا الكاثوليك في روما. كان والدها هنري الثامن قد فعل الشيء ذاته، ولكنه نصب نفسه “رأسا” للكنيسة، ومن ثم فإن صفة “الحاكم” كانت توحي بأن إليزابيث لن تتصرف بنفس الديكتاتورية. كان الهدف هو إرضاء الكاثوليك الذين لم يكونوا يستسيغون فكرة أن يكون الملك رأس الكنيسة فضلا عن كونه رأس الدولة.
القانون الثاني جعل المسيحية البروتستانتية الديانة الرسمية لإنجلترا، لكنه وضع أيضا قواعد للمارسات والعبادات الدينية احتفظت ببعض التقاليد الكاثوليكية ضمن كتاب موحد للصلوات.
كانت إليزابيث تأمل في أن يكون موقفها المتسامح نسبيا مرضيا للجميع، وبالفعل حازت التسوية بتأييد واسع. ولكن الكثير من الكاثوليك لم يقبلوا بها، وآثر البعض السفر للخارج والعيش في المنفى.
واجهت الملكة إليزابيث الأولى أربع مخططات كاثوليكية كبرى للإطاحة بها وتنصيب ماري ملكة اسكتلندا وإعادة إنجلترا إلى الحكم الكاثوليكي، ولكنها تمكنت من إحباطها جميعا.
عصر الاستكشافات والقوة البحرية والرخاء الاقتصادي
شجعت الملكة إليزابيث الرحالة والمغامرين على القيام برحلات استكشافية للعالم. كان من المنطقي أن تسعى إنجلترا، كونها جزيرة، إلى أن تكون لها بحرية قوية قادرة على الدفاع عنها. وكانت إليزابيث ترغب في السيطرة على مناطق أخرى من العالم لمنافسة إسبانيا، التي حصلت على ثروات طائلة من “العالم الجديد” الذي اكتُشف بفضل رحلات كريستوفر كولومبوس. كانت إليزابيث ترى أن إسبانيا تمثل تهديدا عليها، إذ كانت تخشى من أنها ستحاول استبدالها بملك كاثوليكي.
كما كانت إنجلترا بحاجة إلى أسواق جديدة وسلع جديدة تبيعها بعد انهيار تجارة الأقمشة في منتصف القرن السادس عشر، والتي مثلت التجارة الرئيسية للبلاد على مدى عقود.
وقد نجحت بالفعل المغامرات والاستكشافات التي تمت في عصر الملكة إليزابيث في فتح أسواق جديدة للتبادل التجاري، ما أنعش اقتصاد البلاد وأدى إلى إثراء التجار والكثير من الأشخاص الذين استثمروا في التجارة.
حاولت إنجلترا عدة مرات تأسيس مستعمرات خارجية في عهد إليزابيث، ولكن كافة محاولاتها باءت بالفشل.
بيد أن عدة بحارة إنجليز، ومن أشهرهم سير فرانسيس دريك الذي كان يتبع المذهب البروتستانتي ويكره الإسبان كونهم كاثوليك، كانوا يغتنمون كل فرصة لمهاجمة مستعمراتهم وسفنهم، وسرقة الذهب والفضة والحرير منهم. كان يتم ذلك بمباركة من الملكة بالطبع.
نمت البحرية الإنجليزية، وطور الإنجليز من سفنهم ومن مهاراتهم على الإبحار والقتال في البحر – وقد أتى ذلك بثماره لاحقا.
فبسبب الخلافات الدينية بين إسبانيا وإنجلترا، وتدخل الأخيرة في الشؤون الإسبانية في “العالم الجديد” ودعمها لمتمردي هولندا التي كانت تابعة لإسبانيا في ذلك الوقت، قرر فيليب ملك إسبانيا غزو إنجلترا ومحاولة الإطاحة بإليزابيث.
ولكن الإنجليز تمكنوا من صد هجوم أسطول من السفن الحربية الإسبانية، أو ما يعرف بـ”الأرمادا” في عام 1588.
بحلول نهاية العصر الإليزابيثي، أصبحت إنجلترا أعظم قوة بحرية في العالم – وظلت كذلك حتى الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين.
عندما تولت الملكة العرش، كانت إنجلترا مثقلة بالديون. ولكنها تمكنت من سداد تلك الديون وحققت البلاد في فترة من عهدها فائضا ماليا ضخما، بفضل سياساتها الإصلاحية وتشجيعها للتجارة.
ازدهار الأدب والفنون
يعتبر الأدب الإليزابيثي برأي الكثير من المتخصصين الأروع في تاريخ الأدب الإنجليزي، حيث أُنتجت خلاله أعمال كتاب عظماء من أمثال ويليام شيكسبير وكريستوفر مارلو وسير فيليب سيدني وإدموند سبنسر.
ازدهر الشعر بأشكاله المختلفة – من السوناتا والمقاطع السبنسرية إلى الشعر الدرامي غير المقفى، كما كان العصر الإليزابيثي فترة ذهبية للدراما – ولا سيما مسرحيات شكسبير الذي يعتبر برأي كثيرين أعظم أديب في تاريخ اللغة الإنجليزية وأبرز كتاب المسرح على الإطلاق.
شهد ذلك العصر كذلك العديد من الكتابات في مجالات النقد الأدبي والتاريخ، وكانت إليزابيث راعية رئيسية للفنون منذ بداية حكمها.
كانت الفرق المسرحية تُدعى لتأدية عروض في القصور الملكية، ما كان يعزز سمعة تلك الفرق. المعروف أن المسارح كانت تتعرض في السابق لانتقادات لاذعة أو يتم إغلاقها بتهمة أنها “منافية للأخلاق”، ولكن مجلس الملكة الخاص منع عمدة لندن من إغلاق أي مسارح في عام 1580، متعللا بولع الملكة الشخصي بالمسرح.
وكان موسيقيون كبار من أمثال ويليام بيرد وتوماس تاليس يعملون في البلاط الملكي.
عصر ذهبي، ولكن..
رغم الإنجازات التي تحققت في عهد إليزابيث الأولى، إلا أن المجتمع كان يعاني من مشكلة كبيرة تتمثل في زيادة معدل الفقر مع الارتفاع المستمر لعدد السكان.
كان ينظر للفقر بشكل عام على أنه مشكلة الشخص الفقير نفسه، وكانت هناك هوة كبيرة بين الفقراء والأغنياء. ولكن حكومة إليزابيث بدأت تتخذ إجراءات في أواخر عهدها، ربما لتفادي وقوع أي اضطرابات داخلية نتيجة زيادة عدد المتسولين أو تحولهم إلى الجريمة.
في عام 1601، صدرت قوانين تهدف إلى تخفيف معاناة الفقراء. ظلت هذه القوانين مطبقة لمدة 200 عام، ويرى المؤرخون أنها وضعت اللبنة الأولى لنظام الرفاهة الاجتماعي.
بيد أن تلك القوانين لم تنجح في إنهاء الفقر، وظلت غالبية الإعانات التي تلقاها الفقراء تأتي في صورة تبرعات من الأغنياء.
كما أدى فشل حملات عسكرية عدة، أبرزها “الأرمادا المضادة”، وهي الحملة العسكرية التي خاضها الأسطول الإنجليزي بغرض إضعاف إسبانيا وإجبار ملكها على الدخول في مفاوضات سلام، إلى تكبيد إنجلترا خسائر مالية فادحة.
عانت البلاد في أواخر عهد الملكة من معدلات تضخم ونسب بطالة مرتفعة، ما أدى إلى انخفاض المعنويات العامة. كما أدت اتهامات بالفساد والجشع طالت بعض الأشخاص الذين كانت إليزابيث قد منحتهم احتكارات مربحة إلى كراهية شعبية لهؤلاء الأشخاص المقربين من الملكة.
ملكة أسطورية
حرصت إليزابيث الأولى على ضمان استمرار الأمن والسلام الداخلي الذي تحقق في عهدها إلى ما بعد رحيلها.
تشير المراجع التاريخية إلى أنها أعربت عن رغبتها في أن يكون جيمس السادس ملك اسكتلندا هو خليفتها على العرش.
وفي أعقاب وفاتها في مارس/آذار عام 1603، عكف مستشاروها على ضمان انتقال سلمي للسلطة إلى الملك الجديد، الذي أصبح اسمه الملك جيمس الأول، ملك إنجلترا. وبعكس ما حدث في مرات عديدة سابقة عند انتقال العرش، لم تكن هناك أي احتجاجات أو مؤامرات أو انقلابات.
قبل وفاتها بعامين، ألقت إليزابيث ما وصف فيما بعد بـ”الخطاب الذهبي” في البرلمان، حيث قالت مخاطبة أعضاءه: “ليس هناك من جوهرة، مهما كان ثمنها باهظا، أفضل عندي من هذه الجوهرة التي هي حبكم لي”.
حظيت “الملكة العذراء” إليزابيث الأولى بشعبية طاغية بين غالبية أفراد رعيتها، لما تحقق في عهدها من أمن وازدهار رغم ما واجهته البلاد من مشكلات في الداخل والخارج. كانت الملكة صاحبة العصر الذهبي بمثابة حاكمة أسطورية ليس فقط في حياتها، ولكن أيضا بعد وفاتها، إذ ظلت البلاد تحتفل بعيد جلوسها على العرش على مدى نحو 200 عام.
المصدر : بي بي سي
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع