السياسية:

لعله من المهم اليوم تأمل سياقات مضت فيما نحن نقرأ شروط واحتمالات الاتفاق السياسي المرتقب في السودان، ونبحث في بعض الاختلافات المعبرة عن دلالات مهمة في تصرفات الفريقين ذاتهما (العسكر والمدنيين) بالعودة إلى الظروف الثورية والسياسية التي لابست اتفاق 17 أغسطس (آب) 2019 الذي تضمن إعلاناً سياسياً ودستورياً في الوقت ذاته، والظروف التي تلابس الاتفاق المرتقب وما يعكسه من مفارقات مثيرة للتأمل.

لذا نتصور أن فحص بعض ما وراء ظواهر الأمور في المقارنة بينهما، سيرصد لنا مؤشرات قد تضعنا أمام تفسيرات محتملة لأوجه الفرق بين الظرفين السياسيين، الظرف السياسي الذي تم فيه اتفاق 17 أغسطس والظرف السياسي الراهن الذي يتم فيه طبخ الاتفاق السياسي العتيد. لعل ذلك يقودنا إلى استنتاج خلاصات مبشرة من ظاهر أحوال الفرق بين الاتفاقين، ويجعلنا أكثر تفاؤلاً في زمن دلت فيه كل مؤشرات الاجتماع السياسي للسودانيين، أن ثمة شياطين تكمن في التفاصيل، لتفجير ذلك الاجتماع على نحو لم يكن يبشر بخير في تجاربنا السياسية السابقة.

فاليوم، حين ننظر إلى الوراء إلى ملابسات اتفاق 17 أغسطس سنجد أن الاتفاق في مجمله كان استئنافاً لتفاهمات متعثرة بين تحالف قوى الحرية والتغيير والعسكر، حتى تم إجهاضها بعملية مذبحة فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في 3 يونيو (حزيران) 2019 (عندما اعتصم الثوار لأكثر من شهرين وهم ألوف أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة) فلزم لاستئناف تلك المفاوضات، مرة أخرى، إجراءات بناء الثقة بتدخل طرف خارجي إقليمي كان لا بد منه وهو الاتحاد الأفريقي الذي قادت جهوده السياسية بإشراف كل من الدبلوماسي الموريتاني، محمد الحسن ولد لبات والإثيوبي محمود درير إلى إبرام اتفاق 17 أغسطس 2019.

وحين نتأمل اليوم في ملابسات ذلك الاتفاق سنجد أن الزخم الثوري والتفويض الشعبي من قوى الثورة لتحالف قوى الحرية والتغيير، بحكم الأمر الواقع، كان زخماً عالياً خصوصاً بعد قيامة الشعب السوداني بالملايين في انتفاضة 30 يونيو 2019 التي كانت مؤشراً واضحاً على أن مذبحة 3 يونيو من الشهر ذاته لن تركع الشعب السوداني أمام استئناف ثورته، ومن ثم كانت التظاهرات سبباً أساسياً قوياً اضطر به العسكر للتفاوض مجدداً مع قوى إعلان الحرية والتغيير، في ظل تعاطف العالم مع سلمية الثورة السودانية وفرادتها.

لكن يمكننا أن نرصد ثلاثة عوامل ارتبطت، آنذاك، بملابسات ذلك الاتفاق، الأول أن الجهة الراعية للاتفاق كانت جهة إقليمية (الاتحاد الأفريقي) وهي بطبيعة الحال لا تملك قوة إلزامية ورافعة ضغط فعال بأنياب وأظافر، حال الإخلال بشروط الاتفاق الذي رعته أو النكوص عنه سوى إجراءات شكلية. والسبب الثاني أن المكون العسكري كان واضحاً أنه اضطر إلى توقيع الاتفاق فيما أنظار الثوار كلها كانت تلاحقه باتهامات على خلفية جريمة مذبحة فض الاعتصام (الأمر الذي يمكن تفسيره بعد ذلك من سياق ما عرف من استخدام المكون العسكري لعمليات شد الأطراف طوال سنتي الاتفاق بهدف تنفير الشعب من حكم المدنيين، وبحثاً عن تفويض منه لحكمه، من دون جدوى) والسبب الثالث، أن الولايات المتحدة لم تكن، حتى ذلك الوقت، منخرطة في دعم الثورة السودانية على النحو الذي أصبحت عليه في ما بعد.

لكننا اليوم حين نتأمل الظروف والملابسات المحيطة بالاتفاق المرتقب، سنجد أنه فيما تذهب قوى الحرية والتغيير وبعض القوى السياسية الرافضة لانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) للتوقيع على الاتفاق المحتمل، سنجد أن ذلك يحدث على خلفية انقسام واضح بين قوى الثورة، وكذلك ضمن حراك مضاد من فلول النظام البائد الذين أحيا قائد الجيش عبدالفتاح البرهان آمالهم في السلطة بانقلابه المشؤوم على المرحلة الانتقالية. إلا أنه، من جهة أخرى، سنجد، هذه المرة، أن الراعي للاتفاق المرتقب هو قوى دولية وإقليمية وازنة (الرباعية الدولية التي تضم كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية ودولة الإمارات) إلى جانب الآلية الثلاثية في الوساطة التي تضم البعثة الأممية المتكاملة، والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد.

مشهد سياسي مختلف

هذا سيعني أننا اليوم، بالضرورة، أمام مشهد سياسي مختلف من حيث المقارنة بين اتفاق 17 أغسطس 2019 والاتفاق المرتقب. فإذا نظرنا إلى الأخير من حيث تمثيل قوى الثورة فلن نجد ذلك التفويض السياسي والزخم الذي شهدناه في عام 2019، نظراً إلى ما شاب تجربة حكم تحالف قوى الحرية والتغيير في الفترة الانتقالية المغدورة من ضعف، حيث بدا واضحاً أنها فرطت في كثير من استحقاقات الثورة الصارمة التي كانت ينبغي أن تكون في مستوى آفاق وآمال الشعب السوداني وما تتطلبه تلك المرحلة من حساسية وصرامة.

لكن في المقابل سنجد أن رعاة الاتفاق المرتقب هم قوى دولية وإقليمية كبرى كالولايات المتحدة والسعودية إلى جانب كل من بريطانيا والإمارات، مع ما يعنيه ذلك من ردود فعل مختلفة كلياً، في تصرف تلك الدول الكبرى عن تصرف المنظمات الإقليمية كالاتحاد الأفريقي، وما يقتضيه تصرف تلك الدول من عروض لجهود وضغوط تتصل بأساليب متعددة لها القدرة على أن تضع المكون العسكري والمدني أمام التزامات لا فكاك منها ولا فرص للتحايل فيها والالتفاف عليها، خصوصاً من طرف المكون العسكري الذي عرف عنه التنصل أكثر من مرة حيال استحقاقات تراجع عنها ووعود غدر بها.

لهذا نتصور أن أمام قائد الجيش عبدالفتاح البرهان مهام عاجلة ينبغي أن تعكس صدقيته في التنفيذ لتهيئة أجواء حقيقية تسبق الاتفاق وتمهد له.

ولعل إرجاع البشير وبعض قادة نظامه إلى الحبس في سجن كوبر، مرة أخرى- بعد أن تم نقلهم إلى مستشفيات خاصة إثر الانقلاب- خطوة في الاتجاه الصحيح، وكذلك اعتقال بعض معاشيي الجيش من فلول النظام السابق الذين أعلنوا قبل أيام عما يسمى “قوات كيان الوطن العسكري” بقيادة الناطق الرسمي السابق باسم الجيش في عهد النظام السابق العميد الصوارمي خالد سعد، بهدف إلغاء اتفاقية سلام جوبا.

يدرك البرهان هذه المرة، تماماً، أن الجهة الراعية للاتفاق المرتقب (الرباعية الدولية) هي كيانات لدول كبرى دولياً وإقليمياً، لهذا فإن الذي أمامه، هو إثبات حسن النوايا والشروع في خطوات عملية نافذة ضد قوى الثورة المضادة، وبخاصة فلول النظام القديم الذين يتجمعون عبر حراك معلن ويتوعدون بإعلان العنف وعدم القبول بأي اتفاق لن يكونوا جزءاً منه.

فالساحة السياسية اليوم، فيما السودان على شفا درجة خطيرة من حافة الهاوية لا تحتمل صناعة الفوضى وإثارة الفتن من طرف فلول النظام البائد، خصوصاً خلال هذا العام الذي أفسد فيه الانقلاب أموراً كثيرة أصبحت فيها الدولة عاجزة عن تغطية تكلفة ما يتعين عليها من تخفيف أعباء المعيشة إلى درجة وصلت فيها البلاد أحوالاً غير مسبوقة من بوادر الانهيار.

ربما نشهد مزيداً من الإجراءات الاحترازية ضد قوى الثورة المضادة من طرف قائد الجيش، في توقيت لا نظن أنه توقيت تجدي فيه المناورة والالتفاف والعبث بحق ما تبقى من أمل لإخراج السودان من هذا النفق المظلم.

مرحلتان

يتوقع كثيرون، وفق تسريبات، أن يسفر اجتماع المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، اليوم الأربعاء، عن اتجاه إلى “فصل الاتفاق المرتقب إلى مرحلتين، مرحلة أولى تمثل اتفاقاً إطارياً يحتوي على كل النقاط المتفق عليها، والمستندة على مسودة الدستور الانتقالي المعد من قبل اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، فيما تشمل المرحلة الثانية عرض الاتفاق وإتاحته لنقاش أوسع لإشراك عموم السودانيين وأصحاب المصلحة، ثم إدخال التعديلات وصياغتها في صورة نهائية تمهيداً للتوقيع عليها”، بحسب موقع “انتقال” الإخباري السوداني.

وفيما تدل كل المؤشرات على دنو أجل الاتفاق المرتقب، على المدى الطويل قبل نهاية العام، هناك تحفظات من طرف المكون العسكري أعلن عنها وتمريرها على بعض بنود مقترح الدستور الانتقالي، على الرغم من موافقته المبدئية على بنود المسودة، وهي، بطبيعة الحال، تحفظات تعكس هواجس ومخاوف المكون العسكري، لكن من الضروري أن تكون هناك صرامة وجدية لوضع النقاط على الحروف عبر موقف واضح وصريح من طرف قوى الحرية والتغيير حيال ضرورة انتقال شركات الجيش غير العسكرية إلى ولاية وزارة المالية، وضم قوات الدعم السريع إلى الجيش، إلى جانب الشروع والتسريع بمهام الترتيبات الأمنية وعمليات الدمج والتسريح لأطراف العملية السلمية في اتفاق جوبا.

هذا الاتفاق المرتقب هو الفرصة الأخيرة لإنهاء الانقلاب بمساعدة المجتمع الدولي، لا سيما الرباعية الدولية والآلية الثلاثية، ومن ثم الشروع في إعادة بناء مرحلة انتقالية جديدة نأمل أن تكون فيها كل الأطراف أكثر جدية في الوصول بالسودان إلى بر الأمان.

المصدر : اندبندنت عربية
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع