أحمـــد فؤاد

 

في أجواء يوم الشهيد، وهي مناسبة لها جلالها ونورانيتها، ما أحوجنا أفرادًا وجماعات، ودولًا قد وصلت للحد الأقصى من الضغوط الأميركية عليها، وفي ظرفنا الدقيق الحالي، إلى العودة للحظة البدايات الكبرى للذكرى الملهمة، والأهم إلى أن نستعيد قراءة مشهد اليوم في لبنان والمنطقة معكوسًا.

في هذه اللحظة الخشنة تتزامن انعكاسات الأزمة الاقتصادية في أغلب دول العالم، مع وقاحة التدخلات الأميركية في قلب المجتمعات العربية، عبر أبواق ومنابر وعملاء، وكلها تقوم بدور واحد هو ترويج صورة الرفاهية الغربية والثراء البالغ المترف للمواطن الغربي، ويرسمون الصور البراقة حول مدى التقدم والرخاء الذي يحياه الأميركي والأوروبي، في مقابل فقرنا وعجزنا عن التعامل مع تحدياتنا اليومية، فضلًا عن مستقبل مشوّه ينتظرنا، وأيام ثقال قادمة، إن لم تكن حلت بالفعل.

يقفز البعض بخفة ونفاق عن السياق كله، فمن كان إلهه هواه وكان كلاهما أميركيًا، لن يرى الحصار الغربي الخانق، ولا العدوان الغربي المباشر على المنطقة كلها، سواء بيد الكيان أو مباشرة بحاملات الطائرات والغارات والاحتلال المباشر في دولتي الجوار، سوريا والعراق، ولن يعترف بالحقيقة البسيطة والمباشرة، وهي أن كل ما عانيناه ونعانيه وسنعانيه مرده الأول العصر الأميركي الذي نحياه، ونعيش تحت شروطه ومظلته.

ما هو واضح، وكشفته الأزمة الاقتصادية العالمية التي تسببت بها جائحة كورونا ثم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أن سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على رأس ومفاصل القرار العالمي، عبر تحكمها في صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها، قد جعلها المستفيد الأول – وربما الوحيد – من انتشار الأزمة وزيادة حدتها، عبر امتلاكها إمكانيات وسبل نزح الفوائض المالية العالمية إليها، بشكل مستمر ودائم.

على سبيل المثال، فإن إعلان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي رفع سعر الفائدة للمرة الرابعة على التوالي بمقدار 75 نقطة أساس، في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، لتصل إلى ما بين 3.75- 4%، يُترجم على الفور في سحب حصة هائلة من الأموال من أسواق دول الأطراف، الأضعف، وبالتالي تصدير أزمة أميركية وهي التضخم، لتصير أزمة عالمية بامتياز، فيما ينعم الأميركي بثرواتنا وأموالنا، التي تعود إليه دون جهد كبير.

ارتفاع أسعار الغذاء والدواء والملبس والمسكن، وكل احتياجات الإنسان الأساسية والضرورية، يمكن ردها إلى النهب الأميركي أولًا وأخيرًا، وإلى التبعية المقيتة التي نرزح تحتها ونسير في ظلالها، وتضربنا متى شاءت وأين شاءت، ليزداد بريق مدنها ولمعانها، فيما تنطفئ أنوار عواصمنا وشوارعنا.

واختصر سيد المقاومة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله الموقف كله بكلمات عبقرية دالة وعميقة المعنى والدلالات، خلال حديثه في يوم شهيد حزب الله، حين وصف ولخص أزمة الواقع كله بأن: “الإدارة الأميركية هي التي تمنع المساعدة عن لبنان، وهي الطاعون واللعنة والوباء”.

على الضفة الأخرى من النهر، والنهر هنا هو الوطن، يقف الفعل الوحيد الذي يضمن للأمة كلها العبور بسلامة من العصر الأميركي ومن الحصار والذلة واللعنة الأميركية التي ضربتنا فأوجعتنا وشلت أغلب قدراتنا على الوصول إلى مستقبل آمن، هؤلاء هم الشهداء وفعلهم الأعظم هو الفداء والبذل، وهو اليوم 11 تشرين الثاني، والذي يوافق عملية البطل الخالد أحمد قصير، فاتح عصر الشهادة ومطوِّب هذا اليوم الشريف.

سطر الشهيد الخالد أسطورته بمداد الدم الزكي، على خطى الحسين (ع) واستعادة لصرخته التي تجاوزت كل زمان ومكان، “هيهات منا الذلة”، وأعاد تقديم الواقع لعقولنا، ليس عبر القتال والشهادة فقط، لكن بواسطة بوصلة إيمانية سليمة، عرّفت العدو وواجهته، وكسرت مخططه، وحصدت الأرواح الطاهرة في المقابل الحسنيين، النصر والشهادة.

لا يتعلق يوم الشهيد بشخص واحد، مهما بلغ من عظم التضحيات التي قدمها أبطالنا الخالدون، ولا يتعلق بحزب الله وحده، ولا حتى بلبنان كله، بل بهذا الفعل الإيماني المجرد، الدائر حول المقاومة كفكرة وطريق ومنهج حياة، وانعكاس هذه الفكرة على الواقع اليومي ومعركة الحياة يضمن لنا أن نعرف وأن نفهم العدو واللعنة التي تسلطت علينا وعلى أوطاننا، ومن إلهام المنهج نستطيع أن نملك القدرة والقوة لتغيير الشروط الموضوعية للواقع، ومن جلال التضحيات ما نمتلك به مصباحًا يفتح طريق الأزمة متسعًا إلى حل.

وتجتهد الدول والمجتمعات، طوال التاريخ الإنساني المعروف، لتكريس نموذج الفداء، حتى لو اضطرت لصناعته صنعًا أو اختلاقه، كأهم محفزات التضحية والبذل، والتفنن في مزج الصورة الرمزية بالغة القداسة بحكايات البطولة المتفردة، لكن الفارق العظيم والعميق في يوم شهيد حزب الله، هو أنه يستمد ألقه وبريقه من نور الماضي الخالد، ممثلًا في دم سيد الشهداء وموقفه، متراسًا ضد اليأس والقنوط، وصرخة ضد الاستكبار وغرور القوة، كل قوة وأي قوة.

كتب الدم الزكي، في لبنان كما في كربلاء، ومرورًا عبر الزمن، أن المقاومة هي الحق، وهي أرقى فعل إيماني يقدمه ويمارسه الفرد، وهي إذ تضمن الخلود للإنسان، فإنها تمنح المجتمع فرص الحياة وأسباب البقاء وشروط المستقبل.

  • المصدر: موقع العهد الاخباري
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع