هل تستطيع أمريكا أن تتعايش مع الصين في ظل شي جينبينغ؟
السياسية:
قبل نحو ثلاثة اسابيع، ظهر شي جينبينغ أمام وسائل الإعلام العالمية التي تراجع عددها في الصين بسبب التضييق المتزايد على المراسلين الأجانب، باعتباره أقوى زعيم صيني منذ عقود من الزمن.
فقد كسر التقليد الذي سار عليه أسلافه بالبقاء في السلطة لفترتين باتت الفترة الثالثة في متناول يده، وفرض سطوته على الصين، ربما إلى أجل غير مسمى.
وعلى الرغم من إحكام جينبينغ قبضته في الداخل، إلا أنه نادراً ما واجه وضعاً أكثر اضطراباً على الساحة الدوليةكما هو الحال حالياً
كلما عزز زعيم الحزب الشيوعي نموذج الاستبداد الصيني خالف القاعدة الاساسية لعصر العولمة التي نعيش في ظلها وهي: كلما ازدادت الصين ثراءً، باتت أكثر حرية. كانت هذه الفرضية اساس العلاقة التجارية والشراكة بين واشنطن وبكين.
لقد كانت حجر الأساس لشراكة اقتصادية اثمرت في نهاية المطاف عن انتقال بضائع بقيمة نصف تريليون دولار عبر المحيط الهادئ كل عام.
الآن مع بدء شي جينبينغ فترة ولايته الثالثة، يواجه حرباً تجارية مستمرة مع الولايات المتحدة ومحاولة جديدة لحرمان الصين من الوصول إلى تكنولوجيا صناعة الرقائق الالكترونية الأمريكية المتطورة التي يرى بعض المعلقين تهدف إلى إبطاء صعود الصين “بأي ثمن”.
تجادل بكين بأن البرودة الأخيرة الملحوظة في العلاقات بين البلدين، مدفوعة برغبة أمريكا في الحفاظ على مكانتها كقوة عالمية بارزة.
تعتبر استراتيجية الأمن القومي الصادرة حديثاً عن الرئيس جو بايدن، بكين، مصدر تهديد للنظام العالمي الحالي أكبر من موسكو.
وبدأت واشنطن تتحدث عن الغزو الصيني لتايوان الديمقراطية، باعتباره احتمالاً وارداً على أرض الواقع وليس امراً بعيد المنال.
هذه الرؤية بعيدة جداً عن الأيام التي أعلن فيها قادة الولايات المتحدة والصين عن أن إغناء البلدين لبعضهما سيفوق في نهاية المطاف الاختلافات الأيديولوجية والتوترات بين قوة عظمى راسخة وقوة صاعدة.
إذاً، كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟
“عادات الحرية”
إنه ليس من المفارقات النادرة أن يتعامل الرئيس جو بايدن بشكل متزايد مع الصين كخصم. ويمكن القول إن محاولته منع وصولها إلى أشباه الموصلات المتقدمة هي أهم انتكاسة لنهج التجارة والشراكة مع الصين
في أواخر التسعينيات حين كان بايدن عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي، مهندساً رئيسياً في جهود الترحيب بالصين في منظمة التجارة العالمية.
وقال للصحفيين وقتها خلال رحلة له إلى شنغهاي في عام 2000 :”الصين ليست عدونا”، وهو بيان يستند إلى الاعتقاد بأن زيادة التجارة ستضع الصين في نظام من الأعراف المشتركة والقيم العالمية، ويساعدها على النهوض كقوة مسؤولة.
كانت عضوية منظمة التجارة العالمية التي أصبحت حقيقة واقعة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش تتويجاً لسياسة دامت عقوداً من الشراكة المتزايدة، قوبلت بالدعم من قبل كل رئيس أمريكي منذ عهد ريتشارد نيكسون.
كانت الشركات الأمريكية أيضاً تضغط وتتوسط بشدة من أجل الانفتاح على الصين أكثر، مع حرص أمثال شركة “بريتيش أميركان توباكو” على البيع للمستهلكين الصينيين، وحصول مجلس الأعمال الأمريكي الصيني على قوة عاملة رخيصة ومنضبطة.
بالنسبة للنقابات الأمريكية التي شعرت بالقلق من فقدان اصحاب الياقات الزرقاء لوظائفهم، وبالنسبة لأي شخص مهتم بحقوق الإنسان، فإن عضوية الصين في منظمة التجارة العالمية كانت بدوافع أيديولوجية محضة.
ربما كان أفضل تعبير عن ذلك هو خطاب جورج بوش، حاكم ولاية تكساس آنذاك، الذي ألقاه أمام عمال شركة “بوينغ” خلال الحملة الانتخابية الرئاسية في أيار/مايو 2000.
وقال: “إن التجارة مع الصين ليست مجرد تجارة، بل مسألة قناعة”.
“الحرية الاقتصادية تخلق عادات الحرية، والتي بدورها تخلق أمالاً بنمو الديمقراطية”.
لفترة من الزمن، بدا أن ازدهار الصين المتنامي يخلق بالفعل فرصة إدخال بعض الإصلاحات السياسية ولو بشكل محدود.
في السنوات التي أعقبت العضوية في منظمة التجارة العالمية، أعطى الإنترنت – مثل أي مكان آخر في العالم – الشعب الصيني فرصة لتبادل الآراء والتعبير عن الآراء المعارضة التي لم يكن ليحلم بها الصينيون من قبل.
اشتهر بيل كلينتون بمقولته: “إن محاولة الحزب الشيوعي التحكم بالسيطرة على سيكون مثل “محاولة تثبيت جيلو Jell-O على الجدار”.
(و Jell-O هي علامة تجارية أمريكية تنتج مجموعة متنوعة من حلوى الجيلاتين المجفف).
حتى بعد أن بدأ جينبينغ فترة ولايته الأولى كأمين عام للحزب في عام 2012 ، كانت التغطية الإعلامية الدولية تركز في كثير من الأحيان على ناطحات السحاب والتبادل الثقافي والطبقة الوسطى الجديدة، كدليل على أن الصين كانت تتغير جوهرياً نحو الأفضل.
ولكن على عكس تصورات الغرب الذي اعتقد أن “عادات الحرية ” الوليدة شيء مرحب به نتيجة للعولمة، كانت هناك قرائن في وقت مبكر من فترة حكمه، تشير إلى أن جينبينغ كان ينظر إلى “عادات الحرية” على أنها شيء يجب محاربته بأي ثمن.
الوثيقة رقم 9 ، التي يقال أنها صدرت عن المكتب المركزي للحزب الشيوعي بعد بضعة أشهر فقط من ولايته الأولى، تسرد سبعة مخاطر يجب الانتباه لها بما في ذلك “القيم العالمية” ومفهوم “المجتمع المدني” الخارج عن سيطرة الحزب، و”حرية التعبير”.
كان شي يعتقد أن الضعف الأيديولوجي والفشل في التمسك بالخط الاشتراكي هو سبب سقوط الاتحاد السوفيتي.
بالنسبة له المثُل العليا للقيم المشتركة والعالمية هي حصان طروادة الذي يمكن أن يقود الحزب الشيوعي الصيني إلى السير في نفس الاتجاه، وكان رده سريعاً: إعادة تأكيد الاستبداد وحكم الحزب الواحد بلا هوادة أو وجل.
“جيلو على الجدار”
بحلول فترة ولايته الثانية، كانت الصين قد بدأت بحزم في تثبيت “الجيلو” على الجدار، حيث سُجن المحامون وكُمّمت أفواه المعارضة، وقُمعت الحريات في هونغ كونغ وبنيت معسكرات للاعتقال الجماعي لاحتواء أكثر من مليون شخص من الإيغور المسلمين في إقليم شينجيانغ.
ورغم ذلك لم تكن الحكومات الغربية في عجلة من أمرها للتخلي عن دعمها للتجارة والشراكة، ناهيك عن التحول إلى سياسة الحد من صعود الصين، كما تزعم بكين الآن.
لعقود من الزمان، قدّم دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية أرباحاً ضخمة للشركات التي ربطت سلاسل التوريد الخاصة بها بالعمالة الصينية، كما وفر سوقاً كبيراً أمام الشركات لبيع منتجاتها إلى المستهلكين الصينيين. لطالما ضمت السفارات الغربية في الصين وحتى الآن فرقاً تجارية يصل عدد أفرادها إلى المئات.
تم تدشين ما يسمى بـ “العصر الذهبي” للمملكة المتحدة مع الصين، وهو انعكاس لافت لشعار التجارة والشراكة خلال فترة ولاية شي الأولى واستمر حتى الولاية الثانية.
وصل الأمر حينها إلى درجة أن وزير المالية البريطاني سافر إلى شينجيانغ، التي كانت بالفعل في ذلك الوقت محط اهتمام كبير بسبب سجل حقوق الإنسان، بهدف التقاط صورة له هنا تحديداً لتسليط الضوء على الفرص التجارية المتوفرة في المنطقة.
شاهدتُ جورج أوزبورن يشارك في تفريغ شاحنة في مكان لا يبعد كثيراً عن السجن الذي بدأ فيه المفكر الأيغوري البارز، إلهام توهتي، مؤخراً قضاء عقوبة السجن المؤبد.
بينما كان السياسيون الزائرون من الدول الديمقراطية يصرحون دائماً بفوائد الشراكة، غالباً ما كانت تثار قضايا حقوق الإنسان “خلف الأبواب المغلقة”.
خلال الفترة نفسها، أقام هانتر بايدن، الابن الأصغر للرئيس الأمريكي، علاقات تجارية مع شركات صينية لها صلات بالحزب الشيوعي، وهي علاقة كانت في قلب الجدل السياسي الذي كان ولا يزال يدور حوله حتى الآن.
بدت النخب السياسية الأمريكية أو الأوروبية غير حريصة كثيراً على إعادة تقييم نهج الشراكة مع الصين.
خلال الفترة التي أمضيتها في بكين، كان المسؤولون التنفيذيون في الشركات يخبرونني في كثير من الأحيان أن عملي الصحفي الذي كان يغطي القمع المتزايد في الصين، يغفل بطريقة أو أخرى عن رؤية الصورة الأكبر للازدهار المتزايد في البلاد.
صرنا أمام واقع وهو أنه بدلاً من لفت أنظار وأذهان المسؤولين الصينيين لفكرة الإصلاح السياسي الموعود، غيرت التجارة والشراكة تركيز المسؤولين الأجانب الذين كانوا يوجهون أنظارهم إلى ناطحات السحاب الشاهقة وخطوط السكك الحديدية عالية السرعة.
يبدو أن الدرس التي تعلمناه هو أن الحريات الاقتصادية والحريات السياسية لا يسيران مع بعضهما البعض، بل يمكنك الحصول على كل هذه الثروة دون أي وجود أي حق من حقوق الإنسان على الإطلاق.
أخبرني أحد كبار المدراء لشركة تجارية أمريكية متعددة الجنسيات للمنتجات المنزلية لها استثمارات كبيرة في الصين: “أن الصينيين لا يريدون الحرية” مثل مواطني الغرب.
وقال بكل إصرار إنه تحدث إلى العمال في مصانعه في الصين، وخلص إلى أنه ليس لديهم أي اهتمام بالسياسة على الإطلاق، مضيفاً “إنهم أكثر سعادة عند كسب المال”.
وعند نقطة ما، بدا أن العديد من التجار والشركاء- الشركات والحكومات على حد سواء – قد تخلوا ببساطة عن الوعد السامي بجلب الحرية السياسية إلى الصين.
يبدو أن زيادة الرخاء الآن كافية بحد ذاتها. إذاً، ما الذي تغير؟
كسر القالب
أولاً: الرأي العام.
في عام 2018 بدأ الإيغور في الشتات في التحدث علناً عن اختفاء أفراد أسرهم في معسكرات الاعتقال العملاقة في إليم شينجيانغ، على الرغم من الخطر الواضح المتمثل في أن يؤدي ذلك إلى دفع أقارب هؤلاء في الوطن، ثمناً أكبر ويتعرضوا لعقوبات أكثر من قبل السلطات.
بدت الصين في البداية مصدومة من رد الفعل الدولي.
بعد كل شيء، تحملت الحكومات الغربية منذ فترة طويلة العديد من جوانب قمع بكين بينما استمرت معها في المبادلات التجارية.
وحتى قبل أن يتولى شي منصبه، كان قمع اصحاب العقائد الدينية وسجن المعارضين والتطبيق الوحشي لسياسة الطفل الواحد جزءاً لا يتجزأ من النظام السياسي، وليس مجرد عرض جانبي.
لكن الاعتقال الجماعي للإيغور مع وصف شعب بأكمله على أنه تهديد على الصين بسبب ثقافته وهويته- كان له تأثير كبير على الرأي العام العالمي ولقي الأمر استجابة كبيرة في أوروبا وخارجها.
كانت الشركات التي لديها سلاسل إمداد في شينجيانغ تواجه قلقاً متزايداً من المستهلكين، وكانت الحكومات تتعرض لضغوط سياسية متزايدة للعمل.
كانت هناك قضايا أخرى أيضاً مثل السرعة التي سحقت بها بكين المعارضة في هونغ كونغ ، وعسكرة بحر الصين الجنوبي، والتهديدات المتزايدة على تايوان.
لكن يبدو أن مسألة بشينجيانغ بدأت تتبلور فعلاً، وشعرت الصين أيضاً بتحول المد ضدها وليس من قبيل الصدفة أن يُجبر العديد من الصحفيين الأجانب الذين كانوا يحاولون الكشف عما يحدث في شينجيانغ على مغادرة البلاد، منذ ذلك الحين، وأنا كنت واحداً منهم.
وجد أحدث استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” أن 80 في المئة من الأمريكيين لديهم الآن موقف سلبي من الصين مقارنة بـ 40 في المئة فقط أو نحو ذلك قبل 10 سنوات.
العامل الثاني المهم الذي غير الأمور كان: دونالد ترامب.
ربما كانت رسائل دونالد ترامب المناهضة للصين غير منتظمة. وأدت مزاعمه عن ممارسات تجارية غير عادلة من طرف الصين والتي اقترنت بالتعبير عن إعجابه الصريح بأسلوب الرجل القوي للرئيس شي إلى حشد قاعدة كبيرة من أصحاب الياقات الزرقاء الساخطين.
باختصار، قال ترامب إن التجارة والشراكة مع الصين كانت رهاناً سيئاً لم تكسب الولايات المتحدة من وراءها إلا القليل مثل العمالة والتكنولوجيا الخارجية.
انتقده خصومه أساليبه الفظة ولغته المعادية للأجانب، ولكن تم كسر القالب.
لم يتراجع الرئيس بايدن عن كثير من سياسات ترامب بشأن الصين، بما في ذلك الحرب التجارية التي أطلقها وظلت الرسوم الجمركية على الواردات الصينية على حالها.
أدركت واشنطن متأخراً، أنه بدلاً عن تسريع الإصلاح السياسي في الصين، تم استخدام التجارة ونقل التكنولوجيا لتعزيز نموذج بكين الاستبدادي.
وضع طبيعي جديد
لا يوجد مؤشر أكثر وضوحاً على مدى عمق التحول الذي حدث في العلاقات الأمريكية الصينية، من تعليقات الرئيس بايدن الأخيرة حول مسألة تايوان.
وسألته شبكة سي بي إس نيوز الشهر الماضي، عما إذا كان سيتم إرسال القوات الأمريكية للدفاع عن تايوان في حالة حدوث غزو صيني. كان رده: “نعم، إذا حدث بالفعل هجوم غير مسبوق”.
لطالما كانت السياسة الرسمية المعتمدة في واشنطن هي الغموض الاستراتيجي المتعمد حول ما إذا كانت ستساعد تايوان أم لا.
وبلغ النقاش درجة أن الإقرار باستبعاد تدخل الولايات المتحدة، قد يعطي الضوء الأخضر للغزو الصيني لتايوان إضافة إلى أن ذلك الموقف قد يشجع حكومة تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي على إعلان استقلالها رسمياً.
قوبل “الوضوح الاستراتيجي” الجديد بغضب شديد من قبل بكين، التي اعتبرته بمثابة تراجع رئيسي عن موقف الولايات المتحدة.
من الصعب الاختلاف مع هذا، على الرغم من محاولات كبار المسؤولين الأمريكيين التراجع عن تلك المواقف.
الصين الآن بدلاً من ان تكون مثال الأعراف والقيم المشتركة، باتت تعرض نموذج الاستبداد الذي يحقق الازدهار على أن البديل الأفضل، وتعمل بنشاط في الهيئات الدولية ومن خلال أجهزتها الاستخباراتية وتواصلها الدعائي الواسع للترويج لنظامها، بينما تجادل بأن الديمقراطيات آخذة في الانحدار.
في بعض الأوساط التجارية، مجتمع الأعمال الألماني على سبيل المثال اتخذ الجدل المؤيد للتجارة والشراكة نبرة مختلفة تماماً.
الصين الآن مهمة جداً لسلاسل التوريد العالمية، كما أنها قوية للغاية، والحالة الجديدة التي يتم طرحها الآن هي أنه ليس لدينا خيار سوى الاستمرار في التعامل معها خوفاً من الإضرار بمصالحنا الاقتصادية الخاصة أو إثارة “رد فعل عنيف” من جانب بكين.
لكن في واشنطن، أصبحت وجهة النظر القائلة بأن الصين تمثل تهديداً خطيراً، أحد الموضوعات القليلة التي تحظى بإجماع قوي من الحزبين.
قد لا تكون هناك بدائل سهلة حتى الآن، فقد يتطلب انتقال سلاسل التوريد سنوات وسيكون القيام بذلك مكلفاً جداً.
والصين لديها الأدوات والوسائل لمكافأة أولئك الذين يواصلون الانخراط والعمل معها، مع فرض تكاليف على أولئك الذين لا يفعلون ذلك.
لكن ما هو صحيح بلا شك في بداية ولاية شي جينبينغ الثالثة هو أن العالم يمر بلحظة من التحول العميق. وفي الصين، كما في روسيا، تجد أمريكا نفسها في مواجهة خصم من صنع يديها إلى حد كبير.