أزمة النفط وتداعياتها على الانهيار الأمريكي القادم
عبير بسّام
هيمنة الدولار المنفلشة على الاقتصاد العالمي باتت في مراحلها الأخيرة. تحاول الولايات المتحدة من خلال طبع العملة، أو التحويل الإلكتروني الوهمي عبر البنك الفيدرالي، ضمن عملية معقدة تدعى “تسييل الدين”، إصدار كمية أكبر من الدولارات، أي أن هذه المبالغ لا تستند إلى رصيد حقيقي أو احتياطي من الذهب أو المعادن الثمينة. وكان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، قد كشف في سبعينيات القرن الماضي، حقيقة الاتفاق مع “اوبك” المتضمنة سياسة ربط سعر النفط بالدولار. اذ تعد الولايات المتحدة أكبر منتج ومستهلك للنفط في العالم، ولذا فقد نجحت عملية الربط بين الدولار والنفط حتى اليوم، والتي عملت على تكريس الأهمية الاقتصادية العالمية لأميركا وهيمنتها على حركة انتاج النفط وتسويقه، حتى البارحة.
منذ بدأت الحرب الأميركية – الروسية في أوكرانيا، افتضحت حقيقة اختلال التوازن بين انتاج النفط واستهلاكه في أمريكا، وتأثرت البلاد بشكل ملحوظ بالارتفاع العالمي لأسعار النفط. وقد تسبب ذلك بأزمة كبيرة يبدو أنها تنذر بعواقب اقتصادية وخيمة، منها ارتفاع أسعار المنتجات والسلع الغذائية. لهذا السبب تحديداً، توجه بايدن إلى السعودية في آب/ أغسطس الماضي، حيث طلب من ولي العهد السعودي تأخير خفض انتاج النفط في “أوبك”، وقد وافقت السعودية على ذلك ولكن لشهر واحد فقط. هذا الأمر علّق عليه السيناتور الأميركي ريتشارد بلومنتال بالقول: “السعودية لم تكتف بعدم الاكتراث لأمرنا، بل إنها وجهت لنا ضربة عميقة”، واعتبر بلومنتال أن السعودية تقف إلى جانب روسيا ضد الأميركيين.
كلام بلومنتال يوحي بـ”تطاول” سعودي مستجد على الولايات المتحدة. وبات الأمر مقلقًا أكثر بالنسبة للولايات المتحدة حين ابتدأ رجال أعمال سعوديون بامتلاك أعداد كبيرة من الأسهم في الشركات الأميركية. وكشف السيناتور الأميركي كريس ميرفي قبل أيام: “أن في دخول المستثمرين السعوديين على خط الاستثمار في الشركات الأميركية وتغلغل نفوذهم خطر سيمنع الأميركيين من فرض عقوبات على المملكة أو اتخاذ أية إجراءات ضدها”. اكتُشِف ذلك بعدما تبين استحواذ الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز على ثاني حصة في منصة “تويتر”، اذ رفض الأمير بيع أسهمه فيها بعد استحواذ “إيلون ماسك” عليه. وحذر ميرفي من “عواقب” ذلك وطلب تحقيقاً من لجنة الاستمارات الأجنبية في أميركا بشأن عواقب شراء السعودية حصة في “تويتر” على الأمن القومي.
وهذا معناه أن دور الحلفاء قد حان للتفلت من القبضة الأميركية، ومنهم السعودية، والتي ستصبح عضواً في منظمة شنغهاي للتعاون، وهو مشهد يوحي بأن الولايات المتحدة بدأت تفقد توازنها وهي ترى أن قبضتها بدأت تهرم حول النفط ودوله بالذات.
ولكن إذا ما كانت الولايات المتحدة أكبر منتج ومستورد للنفط في العالم، فهي تستطيع بذلك أن تتحكم بسعر السوق على الأقل على أراضيها، فلماذا اذاً تحولت أزمة النفط، أو الوقود في الولايات المتحدة لتصبح أزمة جماهيرية ضاغطة؟ هي ضاغطة بسبب تضاعف أسعاره بالطبع! ولكن، من المفترض أن الولايات المتحدة قادرة على تعويض النقص واحتواء الأزمة، وكما قالت سارة بالين، حاكمة آلاسكا السابقة وممثلة الحزب الجمهوري في مقابلة على “فوكس نيوز” مهاجمةً إدارة بايدن، فإن كل ما تحتاجه هذه الإدارة هو “فتح سكر الأنابيب الجاهزة للضخ في آلاسكا”. بالتأكيد كلام بالين انتخابي، لأنه قد يكون “السِكر” مغلقًا بسبب عدم كفاية النفط الأميركي فيه لحاجة السوق. ولربما سبب الشح أن أمريكا تقوم اليوم ببيع منتجاتها النفطية لأوروبا بأسعار أعلى من السوق، أو لأن الشركات المالكة للنفط والغاز، وهي شركات خاصة، لا يريد أصحابها التفريط بأرباحهم وعوائدهم وحل أزمة الوقود على حسابهم. والأهم من هذا وذاك، أن معظم أصحاب شركات النفط في أمريكا هم من مؤيدي الجمهوريين في آلاسكا ولم يستثمر فيها النفط بعد، كما استثمر في تكساس وداكوتا الشمالية ونيومكسيكو وأوكلاهوما وكاليفورنيا.
دفع دور شركات النفط الأميركية المنفصلة عن أزمات الواقع المجتمعي في أمريكا الرئيس بايدن يوم الاثنين الماضي، لمطالبتها بتحمل مسؤولياتها وبزيادة إنتاج النفط لتعويض النقص الحاصل، واتهمها بالتنسيق فيما بينها لرفع أسعار الوقود في البلاد. وقال إنّه في وقت الحرب على الشركات أن تتوقف عن تنفيذ مصالح مديريها التنفيذيين الخاصة والتصرف بناء على مصلحة الشعب والمجتمع والوطن. وأكد بايدن أنه سيعمل على سحب أرباحها الطائلة التي كسبتها في الربع الثالث من هذا العام عبر فرض ضرائب خاصة وعالية عليها، وأن عليها البدء بتكرير النفط وضخه في السوق بدلاً من التآمر مع بعضها البعض والتصرف كأسياد الحرب. ويؤكد: “أنا لست ضد ربح شركات البترول، ولكن ليس هذا ما يحدث أبداً”.
كانت امريكا تستورد النفط الثقيل من فنزويلا، ولكن بعد العقوبات المفروضة على الأخيرة، باتت تستورد النفط من روسيا، وبعد فرض العقوبات على روسيا أيضاً، افتقدت للنفط الثقيل. أمريكا بحاجة إلى هذا النوع من النفط لأن معامل التكرير فيها لا يمكنها تكرير أنواع النفط الصخري الموجود فيها، وهي بحاجة لتعديلات، وذلك بحسب خبير الاقتصاد والسياسات النفطية الكسي كلاتشوف، ولذلك فإن الشركات الأمريكية هي أكبر متضرر من مقاطعة النفط الفنزويلي، وذلك بحسب واشنطن بوست في شباط/ فبراير 2021. واليوم تقع أمريكا في المطب ذاته بمقاطعة النفط الروسي، والذي تحتاجه لسد حاجتها الداخلية. إلا أن إدارة بايدن قررت خفض العقوبات عن فنزويلا وأعطت الإذن لشركة شيفرون في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بمعاودة الاستيراد منها.
من الواضح تماماً أن تخبط إدارة بايدن بدأ منذ زمن، وقد بدأت قوة أمريكا الاقتصادية والسياسية بالتداعي السريع بعد لقاء بايدن بالرئيس الروسي في سويسرا في شهر حزيران/ مايو 2021، حين سارت بسياسة الضغط على روسيا، واذ بها تضغط على خناقها هي. ويتضح اليوم أن الخلاف الذي نتج في القمة كان أكبر من أن يحل خلال لقاء الرجلين، فالأميركي دخل حروب منطقة الشرق الأوسط باللحم الحي منذ العام 2003، وحتى اليوم ولم يستطع جني المكسب الأساس الذي يريده بتحقيق الهيمنة الكاملة في المنطقة وتحقيق أمن “اسرائيل”، بل ما حدث هو العكس تماماً، وهو يدفع الأثمان، خاصة بعد القرار الغبي بدخول الحرب مع روسيا. كانت روسيا تتجهز لحربها هذه منذ شن التحالف الغربي الغارة الأولى على ليبيا في آذار/ مارس 2011، والتي أخرجت شركات النفط الروسية منها. ولذا فتداعيات الأزمة في أمريكا ليست بجديدة، ومن يقرأ في الوضع الأميركي سيستنتج أن الانهيارات الاقتصادية الحادة التي تعصف بها منذ العام 2008 لم تنتهِ بعد ويبدو أن الحرب مع روسيا، ستجهز على هيمنتها ووجودها بشكل نهائي.
- المصدر: موقع العهد الاخباري
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع