لقمان عبدالله*

حتى ليل أمس، فشلت كلّ الجهود الإقليمية والدولية في إقرار تمديد ثالث جديد للهدنة في اليمن، بعدما كانت «أنصار الله» أعلنت وصول هذه الجهود إلى طريق مسدود، مُكرّرةً تهديداتها باستهداف الشركات النفطية الأجنبية في البلاد. وما لم يطرأ جديد خلال الساعات المقبلة، تكون الجبهة اليمنية مُقبلةً على جولة تصعيد إضافية، ربّما لا تتجاوز حدود التذكير «النافع»، بهدف إفهام «الراعي» الأميركي بأن حرصه على إدامة الهدوء في تلك الجبهة، خدمةً لمصالحه في المواجهة الدائرة على مستوى العالم، لا يمكن أن يُحقّق مبتغاه من دون مقابل، وأنه سيكون عليه تسليط مزيد من الضغوط على حلفائه الذين بذلوا في الأيام الأخيرة أقصى جهودهم من أجل وضع العصيّ في دواليب الاتفاق على البند الأكثر حيوية بالنسبة إلى صنعاء، والمتمثّل في الرواتب. وأيّاً يكن، فإن «أنصار الله» أعدّت العدّة جيّداً للسيناريوات كافة، بما فيها تَجدّد القتال، بعدما لمست استمرار رهان «التحالف» على ورقة الحصار باعتباره «الوسيلة الأسهل لتركيع اليمنيين».

بلغت تفاهمات الهدنة في اليمن طريقاً مسدوداً، على خلفية العرقلة السعودية التي تهدف إلى إبقاء الورقَتين الإنسانية والاقتصادية رهينةً تتحكّم بواسطتهما في هذا البلد. وفيما حثّت واشنطن خطاها، أخيراً، لتجديد الهدنة وتوسيعها، فهي لم تضغط بالقدر الكافي على حليفتها الرياض. وباستثناء الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بنظيره السعودي فيصل بن فرحان، وذكّره خلاله بأن وقف إطلاق النار يقع ضمن المندرجات التي تعهّد بها الطرفان أثناء زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، للمملكة، لم تفعل الإدارة الأميركية شيئاً يُذكر.

سواء في الحرب أو في المفاوضات، لم تتوقّف الإدارة الأميركية عن ربْط لقمة عيش اليمنيّين ودوائهم وأواصرهم الاجتماعية، بأثمان سياسية تحاول فرضها. إلّا أن التحوّلات العالمية الناتجة من المواجهة الروسية – الغربية في أوكرانيا، وما نتج منها من ارتفاع هائل في أسعار المحروقات، بدّلت موقف واشنطن إزاء التهدئة. فأكثرت الولايات المتحدة، في الأسابيع الأخيرة، من بيانات صادرة عن دوائر سياسية مختلفة، تتعلّق بموافقتها وحلفائها على مطالب رفع الحصار ودفع رواتب الموظفين المدنيين، لكن يبدو أن عراقيل الوكلاء حالت دون تجديد الهدنة وتوسيعها. وتعقيباً على ما تقدَّم، قال رئيس وفد صنعاء المفاوض، محمد عبد السلام، في بيان، إنه «خلال ستة أشهر من عمر الهدنة، لم نلمس أيّ جدية لمعالجة الملف الإنساني كأولوية عاجلة وملحّة»، و«اتضح أن دول العدوان بعدما استنفدت كل أوراقها لم يَعُد أمامها إلا استهداف معيشة الشعب اليمني، باعتبارها الوسيلة الأسهل لتركيعه، واستخدامها كتكتيك عسكري وأداة حرب للضغط عليه. وأصبح رهانها على الورقة الاقتصادية واستمرار الحصار، رهاناً واضحاً بعدما أفلست كل رهاناتها العدوانية الأخرى».

وعلى إثر فشل الوصول إلى تفاهمات من شأنها تمديد التهدئة وتوسيعها، كثرت الأسئلة في هذا الشأن، وبقي السؤال المطروح حالياً هو: هل ستتجدّد الهدنة أم أن مفعولها انتهى؟ تبدو كل الفرضيات واردة؛ وإذا أصرّ الجانب اليمني على مطالبه، وأبقى يدَه على الزناد، فستكون النتيجة «نعم كبيرة»، سواء سبق تجديد وقف إطلاق النار جرعات عسكرية تذكيريّة، أو لم يسبقها. وتقول مصادر مواكبة للمفاوضات، لـ«الأخبار»، إن «قبول صنعاء للهدن السابقة، في مقابل رفع جزئي للحصار إنّما جاء استجابةً للمقتضيات الوطنية والإنسانية، والوعود التي تلقّتها بالرفع الكلّي للحصار قبيل انتهاء الهدنة الثانية… وجاء ذلك أثناء زيارة الموفد العُماني لصنعاء، قبيل انتهاء الهدنة، وعلى هذا الأساس جُدّدت لمرّة ثالثة».

تعتمد واشنطن وحلفاؤها في التفاوض مع صنعاء الاستراتيجية الإسرائيلية مع قطاع غزة، أي محاولة فرض معادلة «الغذاء مقابل الأمن». وهي معادلة طُبّقت بهدف تمكين قطاع غزة من الحصول على فوائد اقتصادية ومعيشية والتنعّم بها مع فترة هدوء، ومن ثم اشتراط العوائد السياسية في مقابلها. لكنْ ثمّة فوارق كبيرة بين الساحتَين اليمنية والفلسطينية، من حيث المساحة وعدد السكان والواقع الجغرافي ووحدة القيادة، كلّها عوامل أدّت إلى فشل هذا النموذج. فمنذ وصول الخيار العسكري في اليمن إلى طريق مسدود، وفي أوّل جولة مفاوضات بين أطراف الصراع في جنيف، بعد أشهر قليلة من بدء الحرب، رفضت صنعاء بشكل قاطع ربْط الملفّات الإنسانية والإغاثية والاقتصادية بالمسار السياسي، أو تقديم تنازلات للاستفادة من تلك الملفّات. وبقيت على موقفها هذا، على رغم استهداف المدنيين بشكل متعمّد والتهديد بتجويع الشعب وتحويل الملفّات الإنسانية إلى أداة من أدوات الحرب. ولم تتزحزح صنعاء قيد أنملة عن مبدأ فصْل المسارات ورفْض قبول تناول المسار السياسي بأيّ شكل، ما لم ينتفع الشعب اليمني من حقّه الطبيعي باعتباره حقّاً إنسانيّاً تكفله القوانين الدولية. ويقول مطّلعون على المفاوضات مع واشنطن، إن الأيام المقبلة يمكن أن تُظهر الفرق بين واشنطن ووكلائها الذين توزّعوا بين معارِض للشروط الإنسانية للهدنة ومؤيد لها، وهو تباين يأتي عادة وفق الأهداف الخاصة بكلّ طرف. على أن العقبة الكأداء دائماً تتمثّل في موقف السعودية التي لا يمكن أن تحيد عن عقلية «النتائج الصفرية» لليمن، بمعنى الهزيمة الكاملة. وإذا اضطرّت إلى ترك تلك العقلية، فيكون ذلك بشكل مؤقّت وتحت ضغوط شديدة من حليفتها الأميركية. وعلى رغم خضوعها القسري، تسعى الرياض إلى تجويف التفاهمات وتشتيتها كتعبير عن عدم رضاها عن قوّة الضغط الأميركي. أمّا الأطراف الأخرى الحليفة لواشنطن، فهي أقلّ حدّة بالنسبة إلى المسارات المختلفة، وأقلّ طلباً لـ«النتائج الصفرية»، لعلمها أن الخيار العسكري لم يَعُد مجدياً، وخوفاً من انتقال دائرة النيران إلى عواصمها، وهذا ينطبق على الإمارات.

في نهاية الأمر، فإن الحرب على اليمن أميركية، تُنفّذ بأدوات إقليمية ومحلية، مع ما يتوافق مع المصلحة العليا لواشنطن. ومن الواضح أن الأخيرة معنيّة بتجديد الهدنة مهما كانت أثمانها، إذ إنها تحصل من خلالها على مصالحها الرئيسيّة في تأمين الملاحة البحرية وإبعاد النيران عن الآبار والمنشآت النفطية في دول العدوان، ولا سيما أن عملية استئصال «أنصار الله» من اليمن غير ممكنة. وهذا يعني أن تجديد الهدنة تحصيلُ حاصلٍ من الناحية التقديرية. وما يعزز مصلحة واشنطن في تمديد وقف إطلاق النار وتوسيعه، ولو آجلاً، هو يأسها من إمكانية نجاح الجيش اليمني في الخيار العسكري، والتأكد من عدم قدرتها على الوصول به إلى النتائج المرجوة، أو أنها ستدخل مباشرة عبر اجتياح الأراضي اليمنية، وهذا أيضاً غير مضمون النتائج، إضافة إلى أن مسوّغاته الشعبية والقانونية غير متوفرة حالياً، فضلاً عن انشغالها في الحرب الروسية – الأوكرانية. وعليه، ليس أمام الأتباع، أي السعودية، في هذه الحالة، سوى التعطيل، وهي محاولات لن يكتب لها النجاح.

* المصدر: “الإخبار” اللبنانية

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع