هل تصدق توقعات سيارتو حول أن العقوبات الغربية ستنتهي بـ”تركيع أوروبا”؟
السياسية: سامي عمارة *
لم يكن ثمة من يتوقع كل هذه النتائج “الكارثية” التي نجمت عما فرضته الدوائر الأوروبية الغربية والأميركية من عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية ضد روسيا اعتباراً من تاريخ اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014. ولكم كان من الغريب والمثير للدهشة أن يكون الغرب أول من كابد تبعات الأزمة التي أسفرت عنها هذه العقوبات، وأن تكون روسيا أقل المتضررين بما تملكه من ثروات طبيعية تبلغ ما يقرب من 30 في المئة من ثروات العالم من غاز ونفط ومعادن ومنتجات زراعية تضعها في صدارة مصدري الحبوب والغلال لسنوات طويلة مقبلة، وذلك ما اعترفت به مصادر أوروبية كثيرة ولا سيما وزير الشؤون الاقتصادية والابتكار والرقمنة والطاقة في ولاية شمال الراين – وستفاليا أندرياس بينكوارت، الذي ننقل عنه ما قاله حول أن “حظر الطاقة الحالي يعني أننا سنعاني أكثر من البلد الذي يجب أن تطبق عليه هذه العقوبات. قبل أن نرفض الإمداد يجب علينا تقليل اعتمادنا على الغاز والنفط والتحول إلى الفحم في الوقت الحالي”، وإن عاد ليقول بصعوبة قبول مثل هذا الحل.
سخريات القدر
ولعل من سخريات القدر أن تأتي هذه التوقعات مواكبة لتحذيرات وزير خارجية المجر بيتر سيارتو من مغبة استمرار سياسة العقوبات الغربية ضد روسيا. وكان سيارتو أعلن في أعقاب اجتماعه مع رئيس أركان القوات المسلحة المجرية ضرورة وقف سياسات العقوبات والتخلي عن محاولات إضعاف روسيا. أضاف أن سياسة فرض مزيد من العقوبات لن تسفر سوى عن “تركيع أوروبا”، على حد قوله، وذلك في الوقت الذي يظل فيه المواطن الروسي في مأمن من مثل كل هذه المتاعب التي يواجهها مثيله الأوروبي.
بسطاء أبناء روسيا
ومن واقع شاهد عيان نقول إن بسطاء أبناء روسيا لم يتأثروا بما فرضه الغرب من عقوبات لم تمس في معظم جوانبها الاقتصادية سوى كبار الأثرياء والنخبة التي كانت أغرقت في التمرغ بالكماليات، وتورطت في تملك كثير من العقارات والممتلكات في عديد من الدول الأوروبية، التي سارعت إلى مصادرتها على رغم ما سبق، وحذرت السلطات الروسية من مغبة مثل هذه التصرفات. ولم يمض من الوقت كثير حتى استطاعت روسيا استعادة توازنها من خلال جملة من القرارات التي استطاعت من خلالها مواجهة العقوبات بما اتخذته من قرارات سرعان ما عادت عليها بكثير من المكاسب الاقتصادية، ومن هذه القرارات ما استطاعت من خلاله وضع يدها على جزء كبير من أسهم شركات الطاقة التي كانت مملوكة للمستثمرين الأجانب والأميركيين والأوروبيين، مما يعني أن ما يقرب من نصف الدخل من صناعة النفط والغاز لم يكن يذهب إلى الخزانة الروسية بل إلى حسابات “أسماك القرش المالية” من أوروبا.
شركات الطاقة الروسية
وما إن تركت عملتها الوطنية من دون ما كانت تتمتع به من دعم سابقاً، وما كان سبيلاً إلى ما أصاب أسعار أسهم شركات الطاقة الروسية من انخفاض حاد، حتى عادت الدولة الروسية إلى شراء ما راح الشركاء الأوروبيون والأميركيون يطرحونه من أسهم منخفضة القيمة، بما أسهم في استعادة روسيا كثيراً مما كانت فرطت فيه إبان تسعينيات القرن الماضي. وتقول الإحصاءات الروسية إن مكاسب روسيا تجاوزت ما يقرب من 20 مليار دولار، إلى جانب ما تحقق لها من استعادة السيطرة على ثرواتها الوطنية، من دون الحاجة إلى الإعلان عن تأميم أو مصادرة مصادر الطاقة بحسب ما كان يطالب مراقبون وخبراء كثيرون.
وثمة من يقول في روسيا اليوم إن الرئيس فلاديمير بوتين في سبيله إلى تحقيق ما كان يصبو إليه مع بداية العملية العسكرية الخاصة، التي بات واضحاً أنها لم تكن تستهدف ما أعلنه من أهداف في أوكرانيا وحدها، بل أيضاً استعادة ما كان ممثلو الـ”أوليجاركيه” نهبوه من غير حق إبان “الأيام الخوالي” في تسعينيات القرن الماضي. وكان الوقت مناسباً لأن تفرض الدولة عدداً من القرارات التنظيمية، ومنها ما يستهدف الحد من تهريب الأموال إلى الخارج، إلى جانب “فرض الحظر على خصم الفوائد وأرباح الأسهم للحسابات الأجنبية ووضع قاعدة للشركات الروسية التي يجب أن تبيع 80 في المئة من أرباحها من النقد الأجنبي للدولة”. وفي الوقت الذي أعرب فيه مواطنون كثيرون عن استيائهم وسخطهم بسبب ما فرضته الدولة من قيود على وسائل الإعلام وشبكات “الإنترنت” ومواقع التواصل الاجتماعي ظهر آخرون ممن وجدوا في هذه الإجراءات ما قد يفيد تحقيق استقرار وأمن الوطن بعد التخلص مما يسمى ممثلي الطابور الخامس، قبل أن يتحول “أبواق كل العصور” إلى القفز من عربات القطار الغربي إلى مواقع أكثر أمناً بين أحضان الإعلام الوطني بكل امتيازاته المادية والمعنوية، هذا إلى جانب “ما عاد على الحكومة الروسية من مكاسب مالية حققتها من وراء انخفاض أسعار أسهم الشركات الروسية، في الوقت الذي خصصت فيه أموالاً من صندوق السيادة الوطني لشراء العقارات الروسية من الأجانب مقابل لا شيء تقريباً”.
“هرولة”
ومن اللافت في هذا الصدد أيضاً ما حققته وتحققه روسيا من مكاسب جراء “هرولة” عديد من الشركات والمؤسسات الأجنبية إلى مغادرة روسيا بإيعاز من السلطات الغربية التي وعدت بتعويض هذه الشركات والمؤسسات عما يلحق بها من خسائر. وحسب تقديرات محايدة لما تكبدته الشركات التي غادرت السوق الروسية من خسائر، تقول المصادر الروسية إن خسائر شبكة مطاعم “ماكدونالدز” بلغت ما يقرب من 127 مليون دولار، أما خسائر “ماستركارد” فيقدرونها بزهاء 34 مليون دولار، بينما بلغت خسائر “فيزا” نحو 60 مليون دولار، وذلك ما يدفع عدداً من الشركات والمتاجر الكبرى إلى التريث في اتخاذ القرار النهائي بعد أن كانت سارعت إلى الإعلان عن تجميد إغلاق متاجرها، في الوقت الذي جرى فيه تسريب الأنباء التي تقول باحتمالات استئناف نشاطها التجاري ومنها متاجر “إيكيا” السويدية.
وكانت السلطات الروسية سارعت إلى استبدال بكثير من المطاعم الأجنبية ومنها “ماكدونالدز” أخرى روسية أطلقت عليها اسم “فكوسنا إي توتشكا” (لذيذة وفقط)، تقدم الأطعمة الروسية الشديدة الشبه والمذاق بما كانت تقدمه “ماكدونالدز”.
أما عما تشكو منه البلدان الأوروبية من مشكلات الطاقة وما تتخذه من إجراءات لترشيد استخدامها خصماً من رصيد راحة مواطنيها، ومنهم الأطفال وكبار السن مع حلول أشهر الشتاء، فليس هناك في روسيا من تراوده أية مخاوف من مثل هذه المشكلات. وكانت السلطات الروسية تحسبت لمثل هذه القضايا بما أعلنته من إجراءات استباقية لتأمين وصول الغاز إلى المناطق والقرى النائية بالمجان حتى باب المسكن وبرسوم رمزية للتركيب في الداخل.
وعلى رغم أن الشتاء لم يحل بعد فإن ما شهدته وتشهده أوروبا من أزمات وارتفاع في أسعار المحروقات والخدمات والمواد الغذائية تجاوز كل التوقعات، مما يبدو سبباً رئيساً في ما تشهده العواصم وكبريات المدن الأوروبية من تظاهرات واشتباكات ثمة من يقول إنها قد تطيح حكومات أخرى، بعد أن نجحت في إطاحة أربع من الحكومات الأوروبية. وعلى رغم وضوح الأسباب وجلاء المقدمات وما أعقبها من نتائج فقد ظهر في تشيكيا من يلقي باللائمة على روسيا التي اتهمها نائب رئيس الحكومة التشيكية بأنها وراء تدبير هذه التظاهرات.
ضرورات الغذاء والوقود
وننقل عن المصادر الأوروبية ما قالته حول “أن الأسعار ترتفع في مختلف أنحاء القارة وتخشى الحكومات أن يكون ذلك أمراً لا رجعة عنه. لا أحد يجرؤ على قول ذلك علناً ولكن يجب على أوروبا الاعتراف بأن ضرورات الغذاء والوقود كانت رخيصة جداً لجيل كامل، ولكن الآن يجب إخبار الناخبين الحقيقة والاستعداد لرد فعل سياسي عنيف.” ومن المتوقع أيضاً وحسب تقديرات اقتصاديين كثيرين الإعلان عن زيادات أخرى في أسعار الخدمات والسلع الأساسية، إلى جانب ما يقولونه حول أنه “كلما طالت محاولات السياسيين لإخفاء الحقيقة زادت حدة تأثير الأزمة على المستهلكين”. وها هي ذي أوروبا تقف أمام ما يشبه الإجماع حول أن العقوبات المفروضة على الكرملين أضرت أكثر بالاقتصاد الأوروبي، وزادت من خلافاتها مع الولايات المتحدة التي لم تنج بدورها من تبعات هذه الأزمة.
تخصيصات إضافية
وتقول المصادر الأميركية إن الرئيس جو بايدن اضطر إلى طلب تخصيصات إضافية من الكونغرس تقدر بـ33 مليون دولار، إضافة إلى ما سبق وطلبه من مخصصات الدعم العسكري لأوكرانيا، في الوقت الذي اعترفت فيه وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين أن “الاقتصاد لا يزال ضعيفاً ونشهد صدمات كبيرة. في الآونة الأخيرة كان هناك وباء عالمي والآن ما يحدث في أوكرانيا. كل هذا يجلب احتمالية حدوث صدمات اقتصادية كبرى واضطرابات تحتاج إلى معالجة”.
ونعود إلى الساحة الأوروبية التي تشهد “صراعاً” غير معلن بين أطرافها وما يجرى بينها من تبادل للاتهامات على وقع خروج رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان عن الإجماع الأوروبي في شأن العقوبات الغربية، إلى جانب ما وقعه من اتفاقات تقضي باستمرار تدفق إمدادات الغاز الروسي، وكذلك توسعة محطة “باكس” النووية بقرض روسي 10 مليارات دولار، وهي المحطة التي كانت المجر أقامتها بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي السابق. ونشير بهذا الصدد إلى ما صدر عن تشيكيا من تصريحات تدعو إلى إطاحة بودابست إلى خارج “الاتحاد الأوروبي”، بسبب الانحياز إلى روسيا وزعيمها فلاديمير بوتين، على حد تعبير وزير الشؤون الأوروبية بالحكومة التشيكية ميكولاس بيك.
“نظرية العقوبات”
وكان الوزير التشيكي أعلن صراحة عن أن “موقف المجر من العلاقات مع روسيا قد يؤدي إلى خروج بودابست من الاتحاد الأوروبي”، بل مضى ليقول إن “المجر قطعت شوطاً طويلاً نحو الانزلاق صوب حافة الهاوية، والآن يجب عليها أن تقرر ما إذا كانت ستبتعد عن هذه الحافة أم تتبنى المخاطرة والتحول اللذين لا أريد التكهن بعواقبهما”، في إشارة إلى مواقف المجر من العقوبات المفروضة على روسيا وما تنتهجه من سياسات تعلي مصالحها على سياسات الاتحاد الأوروبي وتوجهات “الناتو” بما تتسم به من انحياز “مفرط” لأوكرانيا، على حد تعبير مراقبين.
ومن اللافت في هذا الصدد أن المجر تقف متفردة في سياساتها التي تبدو على طرفي نقيض مع سياسات شركائها في مجموعة “فيشغراد” التي تجمعها مع كل من تشيكيا وسلوفاكيا وبولندا تجاه كثير من قضايا القارة الأوروبية، وهي التي سبق ورفضت تنفيذ عدد من مقررات الاتحاد الأوروبي، ومنها ما يتعلق بسياسات الهجرة وإقرار شرعية “المثلية الجنسية” وعدد من الحقوق والحريات التي لطالما رفعها أنصار “الثورات الملونة” في عدد من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك إلى جانب رفضها عبور الأسلحة والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا عبر أراضيها، وهو ما يظل في صدارة أسباب الخلافات العميقة بين بودابست وكييف.
ولعل ذلك يقول إن “نظرية العقوبات” مهما بلغت حدتها وأشكالها لا يمكن أن تكون سبيلاً إلى تحقيق تسوية الخلافات السياسية وحسم الصراعات العسكرية، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بدول كبرى على غرار روسيا أو الصين، بل ثمة من يجزم أنها لم تسفر عن النتائج المرجوة مع بلدان أصغر حجماً وتعداداً سكانياً، ومنها إيران وكوريا الشمالية على سبيل المثال. ومن “المضحكات المبكيات” في مثل هذا الصدد أن العقوبات غالباً ما تسفر عن نتائج عكسية تتمثل في إرغام الطرف المستهدف على تبني سياسات الاكتفاء الذاتي مثلما فعلت روسيا وقبلها إيران وكوريا الشمالية، بل تشير المصادر الروسية إلى ما أسفرت عنه سياسات العقوبات من نتائج إيجابية تحول معها الاقتصاد الروسي إلى مواقع أكثر تقدماً على غرار ما حققته روسيا في مجال صادراتها من الحبوب والغلال، بعد أن احتلت المركز الأول في قائمة مصدري الحبوب وهي التي كانت حتى الأمس القريب من البلدان المستوردة للقمح على سبيل المثال. وثمة من يقول إن روسيا باتت نموذجاً تعمل الصين على محاكاته من أجل المواجهة المرتقبة مع الولايات المتحدة.
* المصدر : موقع اندبندنت عربية
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع