هدى رزق *

أصبحت الحدود السورية التركية عاملاً حاسماً في علاقات البلدين، بعدما كانت قبل الحرب في سوريا تشكل ممراً آمناً للعلاقات السياسية والاقتصادية. رسمت الحرب معالم منظومة سياسية اجتماعية واقتصادية جديدة على الحدود الممتدة بطول 911 كيلومتراً في شمالي سوريا، حيث ظهر عدد من المشاريع السياسية، كما شهدت المنطقة تحوّلات ديموغرافية واسعة مع صعود مجموعات إسلامية متطرفة وأخرى مصنفة إرهابية، وتوسّع مجموعات كردية (قسد) توالي حزب العمال الكردستاني في أجزاء كبيرة من الحدود، إضافة إلى الانتشار العسكري التركي، وتمركز القوات العسكرية الأميركية حيث تنتشر القواعد العسكرية الأميركية على الأرض السورية قرب الشريط الحدودي الذي يربط سوريا بكل من تركيا والعراق وتقع شرق نهر الفرات وأخرى في بادية منطقة الجزيرة.

تُقسَم المنطقة إلى 3 مناطق شبه مستقلة: الشمال الشرقي حيث تفرض قوات سوريا الديمقراطية سيطرتها، والوسط حيث تخضع ثلاثة كانتونات للسيطرة التركية، وإدلب في الشمال الغربي حيث هيئة تحرير الشام المصنّفة إرهابية.

المناطق الثلاث تدخل ضمن نطاق السيطرة السياسات الحدودية التركية وتتأثّر بها، فإدلب والكانتونات الثلاثة خاضعة للسيطرة التركية، التي تساوم عليها من أجل مصالحها وتوسعة نفوذها، لكن لا تزال القوات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني في شمال شرقي البلاد تشكل شوكة في خاصرتها.

تشكل المناطق الحدودية الثلاث، إضافة إلى المنطقة الخاضعة لسيطرة الدولة السورية والمنطقة الواقعة جنوبي تركيا سلسلة يؤثر بعضها في بعض، لكنها غير متماسكة، فالحدود بين سوريا وتركيا لم تعد خطاً فاصلاً بين البلدَين، بل أصبحت معقلاً للتوتر بين فرقاء عديدين يتنافسون على النفوذ على طول هذه الحدود، وتحوّلت إلى منطقة شديدة العسكرة، ليس ثمة مخرج يتفق مع مشاريع كل منها، إلا أن من يحكم المتغيرات هو اتفاق يرى المناطق الحدودية كلّاً لا يتجزأ، ويرسّم مناطق النفوذ التابعة للقوى الأساسية.

استيلاء القوات التركية وأذرعها المتمثلة في الجيش الوطني الحر على عفرين في مطلع عام 2018 حولها إلى منطقة خاضعة للسيطرة التركية، فعفرين قريبة من كانتون درع الفرات. شنّت تركيا عملية أُطلقت عليها اسم “نبع السلام” في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019. وتمكّنت، في غضون 10 أيام، من طرد قوات سوريا الديمقراطية والسيطرة على منطقة تصل حتى عمق 30 كيلومتراً تمتدّ من تل أبيض إلى رأس العين، وهي حدود ما تدعيه حقها في “المنطقة الآمنة”.

لم تقع إدلب تحت السيطرة التركية الكاملة، بل تمارس هيئة تحرير الشام سيطرة محكمة في المنطقة، حيث تتحرك من خلال قوتها الأمنية العسكرية ومن خلال جناح مدني يُعرَف بحكومة الإنقاذ، ولكن مصير إدلب هو أيضاً رهنٌ بقرارات أنقرة، وهو موضوع حساس بالنسبة إليها. ومع أن حدود إدلب تغيّرت بفضل التقدّم الذي أحرزته القوات التابعة للحكومة السورية، إلا أن القوات ومراكز المراقبة التركية لا تزال في مكانها وتمارس نفوذاً غير مباشر على إدلب.

التحوّل الديموغرافي سياسي واقتصادي

لقد أدّى التحوّل في المشهد الديموغرافي والتوزيع السكاني دوراً محورياً في تكوُّن منظومة اجتماعية اقتصادية، وأدّت التغييرات الديموغرافية الناجمة عن موجات النزوح إلى تركّز عدد من السوريين في إدلب. أصبحت المنطقة الواقعة شمال غربي سوريا الوجهة الرئيسة للنازحين داخلياً. هذه الحركة كانت داخل محافظتَي إدلب وحلب. كذلك نزح سكان من إدلب وحلب إلى مناطق أخرى تابعة لسيطرة الدولة السورية.

ارتفع عدد سكان المناطق الحدودية في منطقة حارم التي تضم سرمدا وباب الهوى وبلدات حدودية أخرى كأعزاز قرب معبر باب السلام مع تركيا، وبلغ عدد السكان عشرة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب، وارتفع أيضاً عدد اللاجئين المسجّلين في تركيا، والسبب الأساسي يكمن في نشوء مجتمعات أعمال تجارية جديدة في المدن التركية الحدودية، لا سيما غازي عنتاب، ومجتمعات أعمال سورية، ما أدى إلى ظهور اقتصاد إقليمي بين تركيا وشمالي سوريا، إضافةً إلى اقتصاد عابر للحدود يربط شمالي سوريا بالأسواق العالمية عن طريق تركيا.

وبين عامي 2015 و2018، بنت أنقرة ثالث أطول جدار في العالم لمراقبة التحركات الحدودية، وأنشأت أيضاً وجوداً عسكرياً داخل سوريا على تخوم أماكن سيطرة الجيش السوري في إدلب، وآخر مع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية عبر منطقتَي درع الفرات ونبع السلام، وفتحت في منطقة درع الفرات معبرَي الراعي وجرابلس، ما سهّل الحركة التجارية والصناعية، إضافة إلى العمل مع معبر باب السلام.

عام 2018، ظهرت الخدمات البريدية التركية وشركات الكهرباء والاتصالات في تلك الأجزاء الخاضعة للنفوذ التركي، وأعلنت أنقرة إنشاء عدد من المناطق الصناعية، وهي ترى أن الاستقرار الاقتصادي في شمالي سوريا لن يسهم في وقف حركة الهجرة إليها فحسب، بل قد يشجّع أيضاً السوريين المقيمين في تركيا على العودة.

لا يمكن اعتبار شمال شرقي البلاد معزولاً كلياً عن غربها والحركة النشطة فيه، بل هو جزء من الاقتصاد الحدودي لشمالي سوريا مع تركيا، وذلك من خلال المعابر الداخلية التي تربط المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية بكانتون درع الفرات المدعوم من تركيا، وترتبط المنطقة التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية ارتباطاً وثيقاً بمناطق سوريا الخاضعة للدولة السورية، إذ ثمة نحو ستة معابر داخلية رسمية وعدد أكبر من نقاط التهريب.

تشكّل العوامل الديموغرافية والاقتصادية والأمنية كلها جزءاً من الصراع الحدودي، ويُعد مصير ثلاث مناطق حدودية معلّقاً بها. سيرسم الصراع الحدودي معالم السياق الجيو-استراتيجي الأوسع، والمناطق الحدودية تشكل ورقة مساومة في إطار العملية التفاوضية القائمة بين القوى الأساسية الثلاث: الحكومة السورية وتركيا وروسيا.

أنقرة تريد “منطقة آمنة” بعمق 30 كيلومتراً تستوعب اللاجئين السوريين إلى تركيا، لكنها تخفي مشروعين تعمل عليهما، الأول: تحويل هؤلاء إلى قوة أمنية موالية لتركيا تحمي تخومها من احتمالات عمليات عسكرية يقوم بها حزب العمال الكردستاني، والمشروع الثاني: يعمل للمحافظة على الاستثمار الاقتصادي السوري الذي أنعش المناطق التركية المهملة، إذ حوّلها السوريون إلى أسواق تجارية محلية إقليمية ومناطق تجارة دولية بعد أن هجر قسم كبير من التجار السوريون الداخل من أجل الاستثمار، وأقاموا مناطق تجارية وأسواقاً، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الأرض وشجع على بناء مساكن.

لن تقبل دمشق بواقع تحاول أنقرة فرضه، وهو القائم على الحدود الشمالية واستثمارها، ولا تزال تطالب باسترجاع المناطق الحدودية الثلاث إلى كنفها، واستعادة الاقتصاد السوري داخل أراضي الجمهورية، وإعادة انتعاش الصناعة والتجارة من داخل سوريا إلى خارجها. أما الموضوعات السياسية والعسكرية، فهي خاضعة للتفاوض.

روسيا التي عمدت إلى توسيع رقعة انتشارها تحاول الاضطلاع بدور أكبر في مستقبل سوريا، وإلى جانب تفاهماتها مع طهران، تراهن على انسحاب القوات الأميركية من معظم المناطق الواقعة شرق الفرات، وتحاور تركيا وهي تحاول فصل الانتشار التركي عن وجود القواعد الأميركية، من أجل حلحلة العقد وإيجاد مخارج تحفظ وحدة الأراضي السورية وتجد مخارج لمأزق الرئيس التركي الداخلي في قضية اللاجئين في مواجهة المعارضة، قبل أقل من عام على الانتخابات التركية.

* المصدر :الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع