السياسية:

ربما سمعنا جميعاً، بمختلف اللغات والثقافات، عن ذلك الثعبان الذي كاد البرد والجوع أن يقتلاه فأشفق عليه ذلك الإنسان الطيب المسالم واصطحبه إلى منزله ودفأه وأطعمه، وكانت النتيجة أن جاءت نهاية ذلك الإنسان بلدغة من الثعبان!

هكذا كانت السوشيال ميديا أو منصات التواصل الاجتماعي في بدايتها. كانت كذلك الثعبان، وحيدة باردة جائعة، فلا أحد يعرفها أو يتصور أنها ستنمو بتلك السرعة الهائلة، وخلال عقدين فقط أصبحت تحكمنا جميعاً وتتحكم فينا.

فعندما صمم مارك زوكربيرغ وثلاثة من رفاقه في السكن الجامعي تطبيقاً يهدف إلى اختيار “الأكثر جاذبية” بين طلاب جامعة هارفارد، وكان ذلك عام 2003، من كان يتخيل أنه بعد أقل من 20 عاماً، سيصبح زوكربيرغ “أخطر رجل في العالم”؟ وسيصبح “فيسبوك” السلاح الأكثر قدرة على التحكم في الحياة البشرية على الإطلاق؟

وإذا كنتم تعتقدون، أيها القراء، أن في التشبيه مبالغة أو أن في وصف تأثير منصات التواصل الاجتماعي علينا تجنياً أو شططاً، أدعوكم إلى قراءة القصة حتى نهايتها ثم احكموا بأنفسكم على أنفسكم!

*كيف بدأت قصة “الوحش”؟
بدأت قصة الزعيم بين منصات السوشيال ميديا، فيسبوك، عام 2003 عندما صمم زوكربيرغ ورفاقه الثلاثة، إدواردو سافيرن وداستن موسكوفيتز وكريس هيوز، تطبيقاً إلكترونياً سموه فيسماش Facemash، كان عبارة عن صورة وبيانات شخصية لطلاب جامعة هارفارد الأمريكية، حيث كان الأربعة يدرسون. وكان الهدف الأساسي، والوحيد وقتها، من فيسماش، هو تصويت الطلاب على من يرونه أو يرونها “الأكثر جاذبية” بين طلاب الجامعة.

كان 28 أكتوبر/تشرين الأول 2003 هو اليوم الأول لميلاد منصة أو تطبيق فيسماش، وخلال يومين فقط، هما عمر فيسماش، سجل فيه 450 طالباً وطالبة قاموا بالضغط على زر التصويت 22 ألف مرة. لكن التجربة انتهت بسرعة شديدة، تحديداً بعد يومين فقط من إطلاق المنصة، بقرار من إدارة جامعة هارفارد، والسبب هو “حصول زوكربيرغ- المصمم الرئيسي للتطبيق- على المعلومات الشخصية للطلاب بطريقة غير قانونية”.

لكن “النجاح الضخم” الذي حققه فيسماش خلال عمره القصير للغاية جعل زوكربيرغ ورفاقه أكثر تصميماً على مواصلة مغامرتهم. فلم يمر سوى أقل من شهرين حتى قام الرأس المدبر بينهم، وهو زوكربيرغ، بتسجيل اليو آر إل URL بعد تغيير الاسم إلى فيسبوك ليصبح رابط http://www.thefacebook.com مسجلاً رسمياً في يناير/كانون الثاني 2004. وأنشأ زوكربيرغ، بمشاركة رفاقه سافيرين وموسكوفيتز وهيوز، شبكة اجتماعية تحت ذلك الرابط وسماها منصة فيسبوك للتواصل الاجتماعي.

وفي فبراير/شباط 2004، تم إطلاق الشبكة الاجتماعية “ذا فيسبوك دوت كوم” لطلاب جامعة هارفارد. وكان من يسجلون أنفسهم على التطبيق لإنشاء حسابهم الخاص ينشرون عليه صورهم ومعلومات شخصية عنهم وجداول المحاضرات والأسر الجامعية والنوادي التي ينتمون لها… إلخ.

وسرعان ما ازدادت شعبية المنصة الجديدة وانضم إليها غالبية طلاب هارفارد، ثم تم السماح لطلاب جامعات أخرى مرموقة مثل ييل وستانفورد بالانضمام للمنصة الجديدة. وبعد مرور نحو أربعة أشهر فقط على إطلاقها، أي خلال يونيو/حزيران 2004، انضم لفيسبوك دوت كوم أكثر من 250 ألف طالب من 34 جامعة أمريكية، وخلال نفس العام بدأت شركات رئيسية مثل ماستركارد (شركة البطاقات الائتمانية) في الدفع مقابل نشر إعلانات لها على المنصة الصاعدة.

وفي سبتمبر/أيلول 2004، أضافت المنصة خاصية الوول Wall لصفحات المشتركين، وتسمح تلك الخاصية، التي كانت إضافة ضخمة وقتها، لصاحب الملف الشخصي (Personal Profile) على ذا فيسبوك دوت كوم بإضافة معلومات (منشورات)، وأصبحت تلك الخاصية لاحقاً عنصراً رئيسياً من عناصر نجاح وانتشار منصة التواصل الاجتماعي. وبنهاية عام 2004، وصل عدد المشتركين في ذا فيسبوك دوت كوم إلى مليون عضو، ليحتل المركز الثاني في قائمة شبكات التواصل الاجتماعي بعد موقع مايسبيس Myspace، الذي كان عدد مشتركيه 5 ملايين.

* الابتعاد عن الهدف الأساسي!
كان 2005 عاماً مفصلياً بالنسبة لشركة التواصل “الطلابي” الناشئة، حيث تم اختصار الاسم التجاري ليصبح “فيسبوك” وأدخل الأربعة بزعامة زوكربيرغ خاصية أخرى “ثورية” وهي Tagging أي تحديد اسم شخص بعينه على الصور التي ينشرها المستخدم/الطالب على صفحته بملفه الشخصي. وسمحت تلك الخاصية لأشخاص يتم “تحديدهم بالاسم” في صور جماعية بإعادة نشر الصورة على ملفهم… وهكذا.

ومن المهم هنا أن نتوقف عند هذه الإضافات أو الخصائص التي مثلت “ثورة” ساهمت في انتشار فيسبوك بسرعة صاروخية، علماً بأنه في ذلك الوقت كانت المنصة لا تزال “طلابية”، بمعنى أن الاشتراك فيها مقصور على طلاب الجامعات الأمريكية. ولم تكن هناك قيود على أعداد الصور التي ينشرها المستخدم/الطالب عبر ملفه الشخصي، الذي سيصبح لاحقاً “حسابه الشخصي” على فيسبوك.

وخلال نفس العام، تم فتح المنصة أمام طلاب المدارس الثانوية والجامعات ليس فقط داخل الولايات المتحدة، لكن خارجها أيضاً، ليصل عدد المستخدمين الناشطين لمنصة التواصل الطلابي فيسبوك، بنهاية عام 2005، إلى أكثر من 6 ملايين مستخدم “شهرياً”!

ومع انطلاقة عام 2006، فتح فيسبوك أبواب العضوية على مصراعيه، فلم يعد مقصوراً على طلاب المدارس الثانوية والجامعات حول العالم، بل أصبح أي شخص عمره فوق 13 عاماً يمكنه أن يفتح حسابه الخاص على المنصة، التي بات منذ ذلك الوقت يمكن تسميتها منصة التواصل الاجتماعي. وللتذكير سريعاً، الهدف الرئيسي كان خلق تجربة تواصل اجتماعي عبر الإنترنت وربط الأشخاص بعضهم ببعض من خلال نشر صورهم وأخبارهم الخاصة ليراها الأصدقاء والعائلة… وهكذا.

لكن زوكربيرغ، كأغلب رجال الأعمال بطبيعة الحال، كان دائماً يسعى إلى تنمية المشروع وتكبيره، وبالتالي كلما زاد عدد المستخدمين زاد حجم المنصة وزادت معها قيمتها بالنسبة “للمعلنين” وأصحاب المنتجات الساعين للوصول إلى “المستهلكين”، وهنا مربط الفرس، أو أصل انحراف الفكرة البسيطة عن أهدافها الأصلية! فكما تنبأ زوكربيرغ، أصبح لدى “المعلنين” القدرة على إنشاء علاقات جديدة ومباشرة مع “المستهلكين”. وعلى سبيل المثال، جذب إعلان لشركة أمريكية لمنتجات تبييض الأسنان 14 ألف مشترك على فيسبوك، وكانت تلك هي أول مرة في التاريخ يحقق إعلان لأحد المنتجات هذا الوصول السريع والمباشر لهذا العدد الكبير من المستهلكين في وقت قصير للغاية.

لم تكن التجربة “الإعلانية” ممكنة أصلاً قبل فيسبوك! وأدت، بطبيعة الحال، إلى سيلان لعاب الشركات الكبرى، فسارعت جميعاً إلى الدفع لفيسبوك لنشر إعلاناتها وحملاتها التسويقية، وبدأت ماكينة النقود الضخمة في الدوران!

*ماذا عن “خصوصية” المشتركين؟
إجابة هذا السؤال تحديداً كانت ظاهرة منذ اللحظة الأولى لميلاد فيسبوك، وتحديداً منذ إطلاقه أول مرة تحت مسمى فيسماش، الذي قررت إدارة جامعة هارفارد قتله في مهده ولم يستمر أونلاين سوى يومين فقط، وكان سبب إطلاق رصاصة الرحمة متعلقاً “بالخصوصية”. كان زوكربيرغ، المطور الرئيسي للتطبيق، قد حصل على البيانات الشخصية للطلاب “بطريقة غير قانونية”، وهنا مربط الفرس وأحد أهم الأسئلة التي لا تزال مطروحة، حتى بعد أن تضخم “الوحش” وابتلع العالم أو كاد!

في عام 2006، بدأت قضية “الخصوصية” تمثل مشكلة كبيرة لفيسبوك، خصوصا عندما تم إدخال خاصية “شريط الأخبار News Feed” لأول مرة، حيث كان كل “نشاط” يقوم به المستخدم على صفحته الخاصة يظهر تلقائياً على حسابات جميع المشتركين؛ وهو ما أدى إلى تزايد الشكاوى من جانب المستخدمين للتطبيق.

وبدلاً من أن يلغي زوكربيرغ تلك الخاصية، أدخلوا عليها تعديلات تتمثل في “خيارات الخصوصية”، التي يمكن أن يتحكم من خلالها المستخدم فيما يظهر على حسابه الخاص أو “شريط الأخبار” الخاص به. وفي عام 2007، أضافت شركة فيسبوك خاصية “المنارة Beacon” تخطر المستخدمين بأي منتج اشتراه “صديق” لهم من منتجات الشركات المعلنة على فيسبوك.

هذه الخاصية تمثل بطبيعة الحال انتهاكاً ضخماً لخصوصية المستخدم، الذي يشتري منتج ما، كما تمثل إزعاجاً للمستخدم الذي يصله إخطار الشراء سواء لعدم اهتمامه بالمنتج من الأصل أو لأي سبب آخر. ومع كثرة الشكاوى من المشتركين، حذفت فيسبوك خاصية “المنارة”، وهذا الإجراء مهم للغاية. ففي ذلك الوقت كان فيسبوك لا يزال “طفلاً” لا يمكنه العيش بدون مستخدميه، الذين كانت أعدادهم بالملايين وقتها وبدونهم لا توجد إعلانات وسيموت “الطفل” الوليد، فجاءت الاستجابة السريعة بحذف الخاصية التي تنتهك الخصوصية!

شهد عام 2008 انفراد فيسبوك بصدارة منصات التواصل الاجتماعي بعد أن تخطى عدد مشتركيه عدد مشتركي منصة Myspace “ماي سبيس”، ليتواصل النمو الصاروخي للمنصة، رغم المخاوف من عدم احترام فيسبوك لخصوصية مشتركيه. وكشف استطلاع رأي أجري عام 2010 عن أن تلك المخاوف بشأن الخصوصية أمر واقع، حيث جاءت نسبة الرضا عن شركات التكنولوجيا الكبرى (وهذا هو تصنيف شركات التواصل الاجتماعي أو السوشيال ميديا) لتضع فيسبوك في ذيل القائمة بنسبة رضا بلغت 5% فقط. وكان السبب الرئيسي وراء “عدم الرضا” متعلقاً بعدم احترام فيسبوك لخصوصية مشتركيها.

لكن قضية الخصوصية وانتهاكها وعدم الرضا عنها من جانب المستخدمين لم تقف عائقاً أمام استمرار النمو المطرد لفيسبوك، الذي أصبح الآن عملاقاً لا يقدر عليه أحد، إذ يتم فتح نصف مليون حساب جديد على “منصات” فيسبوك سابقاً، ميتا حالياً، كل يوم (فيسبوك وإنستغرام وواتساب)، وبلغ إجمالي مستخدمي فيسبوك 2.3 مليار شخص، و1.6 مليار مستخدم لواتساب ومليار مستخدم على إنستغرام، والعدد في ازدياد مستمر.

وإجمالاً هناك أكثر من 4.4 مليار شخص، من سكان العالم البالغ عددهم 7.7 مليار، يستخدمون الإنترنت، منهم 3.5 مليار شخص يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي، بحسب تقرير لموقعDiplomatic Council عنوانه “السوشيال ميديا تحكم العالم”.

* كيف أصبح فيسبوك أقوى من الجميع؟
تمثل رحلة صعود فيسبوك إلى عرش منصات التواصل الاجتماعي وتحوله إلى واحدة من شركات التكنولوجيا العملاقة تجسيداً لمفهوم الوحش الذي غذيناه حتى ابتلع العالم أو كاد! فعندما بدأت شعبية تويتر في الارتفاع ومنافسة فيسبوك، أدخل الأخير خاصية “شريط الأخبار المباشر Live Feed” التي تجعل منشورات المستخدم أو الروابط الخبرية التي ينشرها على صفحته الخاصة تظهر لأصدقائه على فيسبوك، وهي الخاصية التي كان يتميز بها تويتر. ومع الحجم الضخم لفيسبوك مقارنة بتويتر، سرعان ما تم دمج Live Feed في الصفحة الرئيسية للمستخدم أو News Feed.

ووصف تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية إدخال فيسبوك لخاصية البث المباشر Live Streaming عام 2015 بأنه “يغير العالم ولكن ليس بالطريقة التي كانوا يأملونها”. تلك الخاصية، التي سبقت فيسبوك إليها شركات أخرى منها تويتر، فتحت الباب أمام جميع المستخدمين لبث تفاصيل حياتهم والأحداث التي يشاركون فيها بشكل مباشر وفي وقت حقيقي عبر حسابهم على منصة التواصل الاجتماعي، مما طرح تساؤلات بشأن ما إذا كان فيسبوك قد أطلق العنان “لوحش” لا يمكن السيطرة عليه.

وفي هذا السياق، هناك ملاحظة لافتة للاهتمام تتعلق بفيسبوك وطريقة عمله، بخلاف عدم إعطاء أهمية تذكر للخصوصية أو بيانات ومعلومات مستخدميه الخاصة، وهذه الملاحظة هي كيفية تعامل فيسبوك مع أي شكل من أشكال المنافسة. فعندما تظهر منصة تواصل اجتماعي جديدة لها خاصية فريدة غير متوفرة في فيسبوك، يسعى القائمون على شركة فيسبوك سابقاً/ ميتا حالياً إلى “الاستحواذ” على المنصة الجديدة، أي شرائها بالكامل ودمجها في الشركة، أو الضغط على تلك المنصة؛ من خلال إضافة تلك الخاصية التي تميزها إلى فيسبوك أو “إطلاق منتج” جديد بنفس الخاصية!

حدث ذلك مع إنستغرام عام 2012، استحوذت عليه فيسبوك مقابل مليار دولار، ومع واتساب عام 2014، استحوذت عليه فيسبوك مقابل 19 مليار دولار. وبعد مرور سنوات، تحركت السلطات القضائية في الولايات المتحدة لاستصدار أحكام قضائية وتشريعات من الكونغرس لوقف “احتكار” فيسبوك لسوق منصات التواصل الاجتماعي.

وعلى مدى أكثر من 14 شهراً، كان مكتب المدعية العامة في ولاية نيويورك، ليتيتيا جيمس، يحقق مع فيسبوك؛ بحثاً عن ممارسات محتملة مانعة للمنافسة، والأربعاء 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، وقَّع 40 مدعياً عاماً على شكوى، وذلك بالتوازي مع تحقيقات لجنة التجارة الفيدرالية المتعلقة بمكافحة الاحتكار بشأن فيسبوك والتي كانت جارية منذ يونيو/حزيران 2019.

وفي مؤتمر صحفي، قالت جيمس: “منذ ما يقرب من عقد من الزمان، استخدم فيسبوك هيمنته وقوته الاحتكارية لسحق المنافسين الأصغر والقضاء على المنافسة.. باستخدام مجموعاتها الضخمة من البيانات والأموال، سحق فيسبوك أو أعاق ما اعتبرته الشركة تهديدات محتملة”.

وما تقصده جيمس هو استحواذ فيسبوك على تطبيق إنستغرام عام 2012 مقابل مليار دولار، ثم الاستحواذ على تطبيق واتساب عام 2014 مقابل 19 مليار دولار، وهو ما يطرح تساؤلاً منطقياً بشأن مرور سنوات طويلة منذ أن تمت الصفقتان، ولا بد أنهما خضعتا للتدقيق الفيدرالي وقتها، فلماذا تأخرت تلك التحركات؟ والسؤال الأهم هو، بعد مرور نحو 20 شهراً على ذلك التحرك، لماذا لا يزال فيسبوك/ميتا يواصل النمو حتى كاد أن يبتلع الكوكب برمته؟

* لماذا تمثل السوشيال ميديا “وحشاً” يكاد أن يبتلعنا؟
الآن وقد وصل العالم إلى هذه المرحلة المتأخرة للغاية من الوقوع تماماً تحت براثن وحش السوشيال ميديا، قد يتبادر للذهن تساؤلات من نوعية: وما المشكلة؟ أو أين المشكلة بالتحديد في السوشيال ميديا؟

في البداية، كان هناك احتفاء واضح بذلك التطور التكنولوجي الهائل، المتمثل في إنتاج الهواتف الذكية والدخول بضغطة زر إلى عالم السوشيال ميديا، بتطبيقاته ومنصاته المختلفة كفيسبوك وتويتر وإنستغرام ويوتيوب وغيرها. ونبع ذلك الاحتفاء من زاوية عدم خضوع تلك المنصات الاجتماعية لسيطرة الحكومات، سواء الديمقراطية منها في العالم الغربي حيث نشأت تلك الشركات ونمت بسرعة الصاروخ أو الأوتوقراطية منها حول العالم.

ففي العالم العربي على سبيل المثال، لعب فيسبوك دوراً كبيراً في الحشد لثورات الربيع العربي أواخر 2010 ومطلع 2011، وفي مصر تحديداً أطلق البعض على ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 “ثورة الفيسبوك”. لكن مع مرور الوقت، بدأت منصات التواصل الاجتماعي نفسها في التحول إلى أداة في أيدي الحكومات وأصحاب النفوذ، ولنا في مذابح ميانمار مثالاً ليس ببعيد.

فأمام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في لاهاي توجد قضية مرفوعة تتهم سلطات ميانمار بارتكاب جرائم إبادة جماعية ممنهجة بحق أقلية الروهينغا المسلمة، فما علاقة فيسبوك بالقضية؟ في عام 2018، قال محققون في مجال حقوق الإنسان تابعون للأمم المتحدة إن موقع فيسبوك لعب دوراً رئيسياً في نشر خطاب الكراهية الذي يغذي العنف، بينما يقول عملاق مواقع التواصل الاجتماعي إنه يعمل لمنع خطاب الكراهية.

ففي أغسطس/آب 2017، فرّ أكثر من 730 ألف مسلم من الروهينغا من ولاية راخين في ميانمار؛ هرباً من حملة عسكرية قال اللاجئون إنها اشتملت على القتل الجماعي والاغتصاب، ووثقت مجموعات حقوقية قتل مدنيين وحرق قرى.

وعلى الرغم من إنكار فيسبوك للاتهامات الموجهة إليه، إلا أن فضيحة التسريبات التي تعرض لها فيسبوك العام الماضي أكدت صحة الاتهامات الموجهة لمنصة التواصل الاجتماعي العملاقة. ففي شهادتها أمام لجان الكونغرس وفي برامج تليفزيونية أمريكية، أكدت صاحبة التسريبات فرانسيس هوغان أن الهم الأول لزوكربيرغ ودائرته المغلقة هو “النمو” بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

كانت فرانسيس هوغن (37 عاماً) قد التحقت بفيسبوك عام 2019 كمديرة إنتاج، ضمن فريق تدقيق المحتوى في الشركة، لكن فيسبوك قام بتفكيك الفريق الخاص بالأمانة المدنية بعد وقت قصير من انتهاء الانتخابات الأمريكية مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وهو ما أثار غضب هوغن، التي قالت إنها التحقت بفيسبوك كي تعمل على مواجهة مشكلة “المعلومات المضللة”، فبدأت في محاولة لفت أنظار كبار المديرين في الشركة لمدى خطورة “الثغرات الضخمة” في طريقة عمل الخوارزميات، دون أن يلتفت أحد لشكاواها المتكررة، فاستقالت وقدمت عشرات الشكاوى إلى الجهات المسؤولة.

ولب القضية هنا يتعلق بطريقة عمل الخوارزميات في فيسبوك، والتي يبدو أنها مختلفة بشكل لافت عن مثيلاتها في منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، وإن كان تأثير تلك المنصات على المستخدمين لا يبدو أنه يختلف كثيراً. إذ كشفت التسريبات من داخل فيسبوك، وعشرات الشهادات من موظفين سابقين في الشركة، عن أن البنية الهيكلية الأساسية لعمل خوارزميات فيسبوك تعطي أولوية مطلقة “للنمو” على حساب أي اعتبارات أخرى مثل النزاهة أو الدقة أو محاربة خطاب الكراهية والعنصرية والعنف… إلخ.

وفي هذا السياق، قالت كاثي هارباث، مؤسِّسة شركة Anchor Change للسياسات التقنية، لصحيفة The Guardian البريطانية إن غياب التمكين لفرق النزاهة مشكلةٌ هيكلية في فيسبوك، وإن “الواقع القائم بأن يقدم فريق النزاهة تقاريره إلى فريق النمو هو مشكلة في حد ذاته؛ لأنه يعني إعطاء الأولوية للنمو. ومن ثم فإن إحدى طرق الحل هنا هي وضع فريقي النزاهة والنمو على المستوى نفسه داخل الشركة”.

* “بلوك” لقارة بأكملها!
إذا قمت بمشاركة منشور على حسابك الشخصي على أي من منصات السوشيال ميديا، وبخاصة فيسبوك وتويتر، رأى فيه فريق متابعة المحتوى أو الخوارزمية انتهاكاً لسياسة نشر المحتوى، ستتعرض فوراً للعقاب. والعقاب هنا قد يشمل “إنذاراً ومهلة لحذف المنشور” أو “بلوك” للحساب فلا تتمكن من استخدامه. نعم، العقد شريعة المتعاقدين، وبموافقتك على “شروط وأحكام” إنشاء حساب على أي من تلك المنصات، تصبح موافقاً على التقيد بتلك الشروط والأحكام. لكن تلك الشروط والأحكام تتغير باستمرار، وكثير ممن يعملون في تلك المنصات قد لا يكونون على دراية كافية بتلك التغييرات.

على أية حال، ربما لا يمثل “البلوك” لحساب شخصي أزمة كبيرة إلا لصاحبه، لكن أن تمتلك شركة القدرة والإمكانيات على أن تنفذ “البلوك” على قارة بأكملها، فهذا أمر لا بد أن يكون مرعباً بكل ما تحمله الكلمة من معان. وقد حدث ذلك بالفعل!

فلقد استيقظ الأستراليون، الخميس 18 فبراير/شباط 2021، ليجدوا أن صفحات فيسبوك لجميع المواقع الإخبارية المحلية والعالمية غير متوفرة، بعد أن منع فيسبوك الأستراليين من الوصول للأخبار أو مشاركتها على خدمته، في تصعيد دراماتيكي للنزاع مع الحكومة الأسترالية، قد تكون له عواقب واسعة النطاق في كل من البلاد وحول العالم أجمع.

جاء ذلك بعد أن أعلنت شركة فيسبوك، يوم الأربعاء 18 فبراير/شباط 2021، أنها لن تسمح للناشرين والمستخدمين في أستراليا بعد الآن بمشاركة الأخبار أو عرضها على منصتها، وذلك رداً على تشريع مقترح تسعى فيه الحكومة الأسترالية إلى مطالبة منصات الإنترنت مثل غوغل وفيسبوك بدفع مقابل مادي للجهات الإخبارية، مقابل عرضها وربطها بمحتواها.

أي أن قارة بأكملها أصبحت خاضعة لحظر من قبل فيسبوك أو بلوك (Block)، كما يطلق عليه في الإنجليزية وكثير من العاميات العربية، نظراً لأن أستراليا هي الدولة الوحيدة التي تحتل قارة بأكملها تقريباً.

نعم، لم يستمر “البلوك” طويلاً، إذ رفعه فيسبوك عن قارة أستراليا بعد أقل من أسبوع، لكن ذلك لم يهدئ من روع القلقين من الوصاية التي تتمتع بها منصات التواصل على الجميع دولاً وحكاماً، لأن فيسبوك قرر رفع “البلوك” فقط بعد موافقة الحكومة الأسترالية على تعديل القانون الذي لم تقبل به منصة التواصل الاجتماعي العملاقة.

كانت تلك الواقعة تجسيداً صارخاً لمدى السطوة التي باتت منصات التواصل الاجتماعي عموماً، وفيسبوك خصوصاً، تتمتع بها، إذ إن القصة لم تقف عند حد انقطاع الأستراليين عن متابعة ما يجري حولهم وحول العالم من مواد إخبارية، بل تعدتها إلى ما هو أبعد وأكثر خطورة. فخدمات الإطفاء والطوارئ والجمعيات الخيرية للعنف المنزلي ووكالات الصحة الحكومية وغيرها من المنظمات قالت وقتها إنها تأثرت أيضاً بذلك “البلوك”. وبالإضافة إلى الصفحات التي تديرها منافذ الأخبار، تم مسح العديد من الحسابات الأسترالية المدعومة من الحكومة بواسطة فيسبوك، ومن الصفحات الحكومية التي تأثرت تلك الصفحات التي تقدم تحديثات بشأن جائحة كوفيد-19، وتهديدات حرائق الغابات في القارة.

في ذلك الوقت، أصدرت شركة فيسبوك بياناً إلكترونياً قالت فيه إنها ستعالج مشكلة الصفحات “التي تأثرت عن غير قصد” بخطوتها، وقال متحدث باسم الشركة: “تركز الإجراءات التي نتخذها على منع الناشرين والأشخاص في أستراليا من مشاركة أو مشاهدة محتوى إخباري أسترالي ودولي”..

وأضاف المتحدث في بيانه: “بما أن القانون لا يقدم إرشادات واضحة بشأن تعريف المحتوى الإخباري، فقد اتخذنا تعريفاً واسعاً من أجل احترام القانون بصيغته الحالية. ومع ذلك فإننا سنعكس الحظر الذي فرض على أي صفحات تأثرت عن غير قصد”. والمعنى هنا واضح ولا يحتاج لتفسير، إذا أرادت أي جهة، دولة أو قارة، أن تملي علينا شيئاً لا يروق لنا، فليدفع الجميع الثمن!

* ازدواجية المعايير
ربما يكون تعامل السوشيال ميديا مع المحتوى المتعلق بالاحتلال الصهيوني لفلسطين التجسيد الأبرز للمعايير المزدوجة التي يطبقها العالم الغربي على قضية فلسطين منذ تأسيس كيان إسرائيل هناك عام 1948. فلكيان اسرائيل سطوة يستحيل إنكارها على تلك المنصات، التي أصبحت تحكم العالم وتتحكم فيه، وبصفة خاصة فيسبوك، الذي أصبحت محاربته للرواية والمحتوى الفلسطيني أمراً واقعاً يستحيل إخفاؤه مهما كثرت بيانات الإنكار من جانب الشركة.

إذ كان فيسبوك والمنصات التي يمتلكها، خصوصاً إنستغرام، قد واجه حملة من الانتقادات العنيفة بأنه يمارس الرقابة لصالح كيان إسرائيل على حساب الفلسطينيين الذين يدافعون عن أراضيهم المحتلة، وهي الاتهامات التي نفت إدارة فيسبوك صحتها. لكن مجلس المشرفين على فيسبوك، الذي تولى النظر في الاتهامات الموجهة للشركة، أصدر حكمه، وجاء في صورة “توصيات” بإجراء تحقيق مستقل في الاتهامات بالتحيّز التي وُجّهت إلى لجان المراجعين المشرفة على المنشورات الخاصة بفلسطين وكيان العدو ، وكان ذلك منتصف سبتمبر/أيلول 2021، فماذا حدث خلال عدوان كيان إسرائيل على غزة في أعقاب اغتيال القيادي بحركة الجهاد الإسلامي، تيسير الجعبري؟

منى شتايا، مستشارة للمركز العربي لتطوير السوشيال ميديا (حملة)، قالت لموقع Middle East Eye البريطاني، في أعقاب العدوان الصهيوني على غزة خلال أغسطس/آب 2022، إن انحياز منصات التواصل الاجتماعي، وبخاصة فيسبوك، لكيان إسرائيل وحذف المحتوى الذي يفضح انتهاكات تل أبيب لحقوق الإنسان “ليس ظاهرة جديدة”.

وكانت شركة ميتا- فيسبوك سابقاً- قد عينت في مجلس مشرفيها عام 2020 المدير العام السابق لوزارة العدل الصهيونية ، إيمي بالمو. وعلى الرغم من تقرير مجلس المشرفين بشأن انحياز عملاق التواصل الاجتماعي لكيان إسرائيل، إلا أن شيئاً لم يحدث حتى الآن، “وما زلنا ننتظر”، كما قالت شتايا للموقع البريطاني.

وما حدث من جانب منصات السوشيال ميديا منذ بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة” ويصفه الغرب بأنه غزو، مثال آخر على مدى سطوة تلك المنصات ومدى ازدواجية التعامل من جانبها أيضاً. إذ تم حجب جميع وسائل الإعلام الروسية على منصات التواصل الاجتماعي، كما أصبح نشر محتوى يحرض على الكراهية والعنف ضد كل ما هو وكل من هو روسي أمراً معتاداً على منصات التواصل الاجتماعي، وكأن “التحريض على العنف والكراهية” مسموح إذا كان موجهاً نحو “عدو للدول الغربية”، وهو ما ينسف من الأساس الفكرة التي بنيت عليها تلك الشركات منذ البداية، أي الانحياز للناس وليس لحكومات أو دول!

اللافت هنا هو أن ما يقوله المسؤولون في تلك الشركات تبريراً لقرارات “البلوك”، سواء بحق قارة أو دولة أو شخص، يتمحور دائماً حول “محاربة خطاب الكراهية والتحريض على العنف والجرائم بأنواعها”، بينما نجد قتلة ارتكبوا مجازر وأزهقوا الأرواح، ليكتشف العالم لاحقاً، بعد أن تسيل دماء الأبرياء، أن الحسابات الشخصية لهؤلاء القتلة تنضح بمكنونات أنفسهم العنصرية الكريهة على مدى شهور وأحياناً سنوات، لكن سُمح بتلك المنشورات تحت ذريعة “حرية التعبير”!

نعم، نعرف جميعاً أن فيسبوك، وإخوته من منصات السوشيال ميديا، التي وثقنا فيها في البداية واعتبرناها مساحة بعيدة عن الرقابة وعن السلطة الحكومية، أصبحت الآن تنتهك خصوصيتنا بشكل ممنهج وتبيع بياناتنا وملفاتنا الشخصية لمن يدفع أكثر، والأخطر أنها باتت تراقبنا بصورة لم تحدث من قبل.

وإذا كان البعض يقلل من شأن مدى تطفّل فيسبوك وتويتر وغيرهما على حياتنا الشخصية، فعليه أن يراجع نفسه، فالأمر أسوأ بكثير مما يمكن لأي منا تخيّله. إذ إن تطفّل السوشيال ميديا، وبخاصة كبيرها فيسبوك، على حياتنا الخاصة لا يقف عند حدود التجسس على اهتماماتنا وأنشطتنا، بل يمتد الأمر إلى نمط حياتنا وانحيازاتنا السياسية وأعمق أسرارنا ومسائل شخصية أخرى نودّ على الأرجح ألا نخبر بها أحداً.

يرى خبراء التكنولوجيا ونشطاؤها، الذين يحذرون من هذا الوحش منذ سنوات، أن شركات التواصل الاجتماعي تراقبنا عن كثب؛ لدرجة أنها تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. وحتى حذف حسابك على فيسبوك أو رفض استخدامه أو أيّ من الخدمات ذات الصلة به لن يمنعه من تتبّعك. فموقع فيسبوك يؤسس صفحة شخصية لك ويُبقي عليها، حتّى وإن لم تكن تستخدم أياً من خدماته.

ربما أصبحت خطورة السوشيال ميديا على العالم شاخصة أمام الكثيرين، لكن السؤال الآن هو: هل فات أوان السيطرة على هذا الوحش؟ فالقيمة السوقية لتلك الشركات باتت بين الأعلى بين الشركات، لكن قيمتها المالية ليست العائق الأكبر أمام إمكانية مواجهتها وإصدار تشريعات تحد من هيمنتها على شتى مناحي حياة البشر، وإنما حجم التأثير الضخم الذي باتت تتمتع به.

كانت القيمة السوقية لفيسبوك قد تخطت التريليون دولار أواخر عام 2021، بعد أن كانت قيمتها 63 مليار دولار فقط عام 2012. لكن قيمة فيسبوك السوقية انخفضت بشدة هذا العام لتصل إلى 545 مليار دولار، مقابل 34 مليار دولار قيمة تويتر، فهل نشهد “استفاقة” المستخدمين والمستثمرين لخطر وحش السوشيال ميديا، أم أنها فترة ركود متماشية مع حالة الاقتصاد العالمي، وسرعان ما يعود “الوحش” لنموه حتى يبتلع العالم؟!

المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولا تعبر عن راي الموقع