إنها الحرب..
أحمد فؤاد*
لم يبالغ أبداً من ذهب نتيجة دراسته لحقبة السيادة الغربية إلى أن هذا التاريخ في الواقع هو تاريخ منظم من النهب واسع المدى لكل العالم خارج أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، أحداث على مدى قرون عديدة حملت إلى الشرق والجنوب الإخضاع والموت، وعادت سفن الغرب محملة بالكنوز لتبني ما أطلقوا عليه “حضارة الغرب”.
من إسبانيا والبرتغال اللتين ابتدأتا النهب المنظم للعالم الجديد أولًا، عاشت الدولتان فترة من الغنى والنعيم على حساب الشعوب الأصلية في أميركا الجنوبية بالدرجة الأولى، وتحول ذهب العالم الجديد إلى قصور وحدائق غناء، وموّل حروبًا في شرق القارة الأوروبية ووسطها، وأخيرًا انتزع تمامًا أهمية طريق التجارة القديم مع الصين والهند، والذي كان يمر بمصر والشام، ليقطع عن العالم القديم مورده الأهم، حينذاك.
وعلى خط النهب والتنافس، دخلت إنكلترا إلى الميدان بسرعة ضد الإسبان، لتظفر بأغنى مناطق أميركا الشمالية. ومع نجاحها الساحق في حربها ضد إسبانيا ـ معركة الإرمادا البحرية- بداية القرن السابع عشر، فقد ازدادت أراضيها وبالتالي مواردها من العالم، ومنحها القدر ضربة حظ لا تتكرر في التاريخ مرتين، إذ بدأت الثورة الصناعية الأولى في القرن التالي.
وبسرعة تسيد الإنجليز بحار العالم ومحيطاته، وبدأت مرحلة من السعار الاستعماري، وكانت السفن العائدة بالغنائم والأموال والسلع تغرق الموانئ الإنجليزية بكنوز العالمين القديم والجديد، ما شجع على الاتجاه إلى الأبحاث والتطوير، بفعل وفرة التمويل ونشأة أباطرة المال والبنوك الأوائل، لتحقق لندن قفزتها الكبرى باكتشاف البخار واختراع الآلة.
حوّل الاتحاد بين الآلة البخارية والتراكم المالي الهائل القادم من المستعمرات، الذهب المنهوب إلى ثروة هائلة، واستثمرت الأموال على أيدي جيوش وشركات ومغامرين في استمرار وتوسع رقعة السيطرة الإنجليزية على العالم، لتبني واحدة من أكبر وأغنى الإمبراطوريات عبر التاريخ، وامتدت مستعمراتها على مئات أضعاف مساحة الجزيرة الصغيرة الواقعة في غرب أوروبا.
وخلال حقبة علوها الاستعماري، ارتكبت بريطانيا ما لا يمكن حصره من جرائم بحق مستقبل أوطان وثروات شعوب، والتخطيط والتنفيذ لقيام الكيان الصهيوني كان درة جرائمها في المنطقة العربية، وفي خارجها البعيد، أشعل الإنجليز أقذر حروب التاريخ الإنساني ـ حرب الأفيون – ضد الصين في 1839، لتحول مواطني البلد إلى مدمنين وتجني شركاتها وتجارها الأرباح، كما نظم رئيس وزرائها الأسطوري تشرشل واحدة من أضخم عمليات الإبادة العرقية، خلال الحرب العالمية الثانية، بقرار شحن قمح الهند إلى لندن، غير آبه بمصير 3 ملايين هندي قضوا جوعًا لتعيش الإمبراطورية.
ومن بريطانيا إلى الولايات المتحدة، التي صعدت بسرعة صاروخ إلى مقعد القيادة العالمية، شهدت حروبًا كبرى ودمارًا شاملًا بالجملة، بطول العالم وعرضه، بعد أن تعلمت جيدًا الدرس البريطاني، وهو أن الذهب محرك التاريخ، وبالتالي محرك الجيوش والحروب.
من الصعب حصر كل تدخلات الولايات المتحدة في العالم، إذ لم تبرأ قارة من رصاصها وقنابلها، بداية من محاولتها الأولى البائسة لغزو كندا في 1812، والتي انتهت بإحراق البيت الأبيض وواشنطن، لتولي وجهها شطر الدول الصغيرة والضعيفة، وترجمت قرارها إلى الحرب الأميركية الليبية، على ولاية طرابلس في البحر المتوسط، تهاجم مثل القراصنة، وتسرق كما اللصوص، وتكدس الثروات التي جعلتها في النهاية أغنى دول العالم وأقواها.
والتاريخ يقول إن حديث سماحة السيد حسن نصر الله، عن الولايات المتحدة ليس إلا حقيقة مثبتة، فطوال عمر الولايات المتحدة الأميركية القصير نسبيًا، 250 عامًا منذ استقلالها عن بريطانيا، لم يكن إلا سلسلة مرعبة من الحروب والتدخلات العسكرية، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية فقط، خاضت واشنطن 5 حروب كبرى، في كوريا 1950 وفيتنام 1955-1975، وحرب الخليج الثانية 1991 وأفغانستان 2001 والعراق 2003، إلى جانب تدخلات عسكرية لا تحصى كثرة.
وإلى جانب الحروب العسكرية الواضحة، دشنت الولايات المتحدة في 1946 مدرسة الأميركتين للتعاون الأمني، وهي منظمة سوداء تولت تدريب وفرز وتجنيد أعتى السفاحين لقيادة دول قارة أميركا الجنوبية، ومارست وكالة المخابرات المركزية الأميركية بالتعاون مع خريجي المدرسة “العملية كوندور”، لمطاردة التمدد الشيوعي في القارة، مخلفة وراءها عشرات الآلاف من الضحايا، دفعوا من حياتهم أثمانا باهظة لصالح موازنات الشركات الأميركية الكبرى.
..
قامت الولايات المتحدة، كدولة ومجتمع، على العنف وبالعنف، وفي سبيل وجودها ثم استمرارها كان الثمن الباهظ والمروع هو إبادة السكان الأصليين في أميركا الشمالية، ثم استعباد عشرات الملايين من الأفارقة للعمل في المزارع الشاسعة والأراضي البكر الجديدة. ولا غرابة في أن المجتمع الأميركي في قلبه يحتفي بالعنف ويمجد العدوان والقوة الغاشمة للوصول إلى الهدف، ولا يلتفت أصلًا لدعاوى الحق أو الشرف.
وفي مقابل هذا العدو المنحط فإننا ـ كأمة – لا نفهم معنى الحرب، ولا ندرك كل ما يحيط بمفهومها من نبل وعطاء، يفوق بمراحل الأثمان المدفوعة فيها من دماء وموارد، وكانت الضربة الهائلة للإرادة العربية والوعي العربي هي العهد بالدفاع عن التراب الوطني لجيوش “محترفة”، ما أبعد الشارع بالتالي عن فكرة الحرب، وفشلت جيوش محترفي القبض والانسحاب في كل مواجهة مع العدو الصهيوني.
يكفي في هذا السياق للتدليل على غيابنا الكامل عن الفكرة، أن الأيام تحملنا سريعًا إلى ذكرى كربلاء، أعظم وأنبل بطولة في التاريخ الإسلامي والإنساني، حين واجهت الدماء الزكية سيوف الباطل، ووقف الطهر كله أمام الباطل كله، يدفع ثمن الحق، وكتب التاريخ انتصارًا متفردًا للشرف والمجد والنبل، كأروع ما يكون.
ما أحوجنا اليوم إلى تمثل وقفة الحسين(ع)، ووقفة أصحاب الحسين(ع)، بالسيف والموقف لا بالكلمة أو الدموع، في وسط محيط خانق من الخيانة والبيع والتطبيع مع العدو، وزراعة هذا الموقف في كل قلب وكل عقل، إن الهزيمة في ميدان قتال أشرف وأقرب للحسين(ع) من الموت فقرًا وقهرًا وتحت الحصار الأميركي لأوطاننا.
* المصدر :موقع العهد الإخباري