ديمقراطية الشغب… لماذا يقتحم الناس برلماناتهم؟
السياسية:
البرلمان مكان التقاء ممثلي الشعب، يتجاذبون أطراف النقاش تحت قبته، ويعرضون مشكلات من يمثلونهم، يقترحون الحلول ويستدعون الوزراء ويتبارون في توجيه الأسئلة، وأحياناً في جعل الإجابة عليها أشبه برابع المستحيلات.
يصول نواب الشعب ويجولون، يستعرضون قوتهم الاستجوابية وإمكاناتهم اللفظية، تربطهم بمن يمثلونهم علاقة “حب – كراهية”، فالحب المشتعل في القلوب عقب نجاح النائب في الانتخابات التي سبقتها وعود وقصور من الرمال سرعان ما يفتر أو يتبدل.
يحدث هذا إما بسبب ضيق ذات اليد ومحدودية قدرة النائب تحت القبة على تحقيق مطالب أهل دائرته الانتخابية، أو بسبب ضيق صدره بالدائرة ومطالب أهلها المتعارضة أحياناً مع طموحه الشخصي.
تسويق النواب
يقول الخبثاء إن بعض النواب لا يهدف إلا إلى تسويق نفسه وتصوير ذاته على أنه حامي حمى الشعب وصوت الحق الذي لا يخشى في استجواب وزير لومة لائم، وربما تتيسر له الأمور ويتم اختياره بعد دورة برلمانية أو اثنتين وزيراً أو ما شابه.
برلمانات العالم تشبه بعضها بعضاً، لكن القابعين تحت قبابها قلما يتشابهون. صحيح أن الأعمال بالنيات، ولكل نائب ما نوى، لكن تظل البرلمانات متحدثة بلسان حال الشعوب التي تمثلها إن لم يكن فعلياً عبر التمثيل الديمقراطي والانتخابات الحرة النزيهة والمحاسبات الحاسمة الكاشفة، فتهكمياً عبر التمثيل غير الديمقراطي والانصياع للمصالح تارة وللتوازنات تارة أخرى وللسلطة القائمة في كل الأحوال.
لكن برلمانات الأرض تظل مرآة للأوطان ورمزاً للشعب، ولسان حال السلطة سلباً أو إيجاباً، وكثير من الأحداث والحوادث جرت في ما يمكن اعتباره من أوائل البرلمانات في التاريخ وبرلمانات العالم المعاصر، لكن سخرية الأقدار تطل برأسها اليوم حين تتحدث كتب التاريخ عن أن التجمعات الأولى لمواطنين من أجل مناقشة أوضاعهم وأحوالهم واتخاذ قرارات في ما يمس حياتهم اليومية ومخططاتهم المستقبلية كانت في بلاد ما بين النهرين. وهذه التجمعات نفسها هي حديث العالم اليوم بينما يتابع ما جرى في العراق، أحد ضلعي “بلاد ما بين النهرين”.
في هذه البلاد، معقل أحد أوائل البرلمانات في التاريخ وتحديداً عام 2500 عام قبل الميلاد، تجري كثير من الأحداث الدالة. وما حدث من اقتحام آلاف المواطنين للبرلمان العراقي أخيراً بدا مخيفاً بالطبع، لكن الغريب أنه لم يدع إلى الاستغراب. فالآلاف من أنصار زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر خرجوا في تظاهرات حاشدة ببغداد، ووصلوا إلى المنطقة الخضراء المعروفة بخضوعها لتأمين صارم، لكنهم اقتحموها. ولم يكتف المتظاهرون بذلك، بل مضوا قدماً إلى البرلمان غير عابئين بمحاولات منعهم بقنابل الغاز المسيل للدموع واقتحموا البرلمان بالفعل.
المدينة الفاضلة
في المدينة الفاضلة أو في كتب القانون وربما في مراجع العلوم السياسية، يصنف اقتحام مواطنين للبرلمان باعتباره عملاً منافياً للقيم، ومناهضاً للحق والخير والجمال، وخارقاً للقانون، وعاصفاً بقواعد الديمقراطية، حيث حق الاعتراض مكفول، ولكن بسبل أخرى غير الاقتحام وقنابل الغاز والتهديد بجعل أعالي البرلمان أسافله.
لكن المجريات على الكوكب ليست وثيقة الصلة بالمدينة الفاضلة أو محتويات كتب القانون ومراجع السياسة، بل بإيقاعات شعبية حامية وامتثالات شعبوية لقادة ومؤثرين قادرين على تحريك الجموع والمناورة بالجماهير، وتحولات عجيبة غريبة مريبة للبرلمانات التي أصبح كثير منها ساحة للمواجهات والصراعات والاحتقانات بين السلطة ونخبوييها والمعارضة وقواعدها الغفيرة.
عصر الجماهير الغفيرة لم يعد لتلك الجموع التي تتوجه إلى برلماناتها لتقديم الطلبات ومقابلة النواب، بل أصبح عصراً لا يخلو من اقتحام صاخب وغضب ساطع بعضه يحركه ساسة فاعلون ورموز معارضة مؤثرون.
“باسمه تعالي، ثورة محرم الحرام، ثورة إصلاح ورفض للضيم والفساد، وصلت رسالتكم أيها الأحبة، فقد أرعبتم الفاسدين، جرة أذن، صلوا ركعتين وعودوا إلى منازلكم سالمين”. والإمضاء مقتدى الصدر.
التغريدة المؤثرة المؤدية لانسحاب المقتحمين من البرلمان العراقي تلتها إشادة تدغدغ مشاعر الجماهير الغفيرة. الرسالة هذه المرة جاءت من السياسي صالح محمد العراقي المقرب من مقتدى الصدر، الذي وصف التظاهرات والاقتحام بـ”رسالة عفوية إصلاحية شعبية رائعة”.
روعة رسالة اقتحام الجماهير الغفيرة للبرلمان لم تضاهها سوى روعة ما جاء في البيان الذي وجهه العراقي نيابة عن الصدر، وشكر فيه المتظاهرين المقتحمين قائلاً إن سلامتهم أهم من كل شيء، وإنه سيحترم قراراهم إذا أرادوا الانسحاب من المبنى.
أجواء مثيرة وعاطفة فياضة
هذه الأجواء المثيرة والعاطفة الفياضة التي أحاطت بالجماهير في مهمتها المتمثلة في اقتحام البرلمان استدعت أجواء شبيهة وعاطفة مثيلة واقتحام أقرب ما يكون إلى التوأم المتطابق. فبالأمس القريب، وتحديداً في يناير (كانون الثاني) 2021، اقتحمت جماهير غفيرة على الجانب الآخر من الكوكب مقر الكونغرس الأميركي.
أثناء جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ للتصديق على فوز المرشح الرئاسي جو بايدن بمنصب الرئاسة، اقتحمت آلاف من الجماهير من أنصار الرئيس المنتهية ولايته بالهزيمة حينئذ مقر الكونغرس. المشهد الذي بدا هزلياً، وألمح خبثاء في حينها إلى جدارته بالعالم الثالث وليس الأول، تضمن توليفة من كل ما لا يجب أن يكون: عنف وتخريب واشتباكات بين المقتحمين والأمن. ولم تخل التوليفة من مكون كوميدي للمقتحمين تحت القبة.
أحدهم ارتدى بنطلون جينز وقبعة بيسبول وجلس على مكتب رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي ورجلاه على سطح المكتب. وآخر ارتدى قبعة من الفرو مزودة بقرنين بينما وجهه مطلي بألوان العلم الأميركي. وآخرون رصدتهم كاميرات المراقبة يحملون مقتنيات المجلس ويحطمون بعضها عنوة. وفريق آخر تسلق المنصات المقامة من أجل حفل تنصيب بايدن.
هذا الاقتحام ولأنه جرى في الولايات المتحدة التي يحب كثيرون أن يطلقوا عليها “معقل” أو “جنة” الديمقراطية، نقل أميركا من خانة الإشادة والثناء والإطراء بل والحسد والغيرة لفرط الديمقراطية ورسوخ سبل التعبير عن الرأي بالطرق السلمية، إلى خانة الذكريات السيئة التي يحييها العالم في شهر يناير من كل عام، باعتبارها “ذكرى اقتحام الكابيتول” من قبل أنصار ترمب، وبعضهم يزيد عبارة “بإيعاز من الرئيس المنتهية ولايته بالهزيمة”.
هزائم عدة لفكرة البرلمان يحفل بها التاريخ المعاصر. كل دولة في العالم لديها شكل من أشكال الكيان الممثل للشعب. كلمة مشتقة من (Parlement) وتعني (التكلم) بالفرنسية، ومراجع العلوم السياسية تقول إن النظم البرلمانية تنقسم إلى فئتين: برلمان من مجلسين أو غرفتين، وبرلمان بمجلس أو غرفة واحدة. وبحسب منظمة “الأمم المتحدة”، فبين الـ193 من الدول الأعضاء، هناك 79 دولة لديها برلمان من غرفتين و114 لديها برلمان من غرفة واحدة، بمعنى آخر هناك على سطح الأرض 272 غرفة برلمانية فيها 46 ألف برلماني وبرلمانية هم تعداد ممثلي الشعوب.
الاقتحام الاحتجاجي
الطريف أن “التقرير البرلماني العالمي” الصادر في 30 يونيو (حزيران) الماضي، وهو اليوم الدولي للعمل البرلماني، يشير إلى مشاركة غير مسبوقة للجماهير في عمل البرلمانات. وعلى الرغم من أن واضعي التقرير لم يقصدوا بالطبع اقتحام الجماهير للبرلمانات احتجاجاً أو امتثالاً لرموز سياسية أو دينية توجههم وتحركهم أو كاستعراض قوة، فإنه أشار بشكل واضح إلى الوقت الحرج الذي تشهده الديمقراطية البرلمانية، وضعف ثقة الناس في المؤسسات السياسية، إذ تواجه الديمقراطية نفسها تحديات عدة من حركات شعبوية وقومية.
من شمال أفريقيا حيث يقتحم محتجون البرلمان الليبي في طبرق ويحرقون وثائق رسمية قبل أيام، إلى جنوب شرقي أوروبا حيث داهم غاضبون البرلمان المقدوني اعتراضاً على تصويت التحالف الديمقراطي الاشتراكي لصالح طلعت شافيري كرئيس للبرلمان على الرغم من أصوله الألبانية في 2017، إلى إيران واقتحام مسلحين للبرلمان (مجلس الشورى الإسلامي) ووقوع قتلى في العام نفسه. هكذا كثرت تصادمات الناس بالسلطة ممثلة في مقار نواب الشعب.
وعلى الرغم من أن مقار نواب الشعب لا ينبغي نظرياً أن توضع في سلة واحدة مع السلطة، انطلاقاً من كون أعضائها مختارين عبر انتخابات حرة نزيهة من دون تدخل منها أو تضارب أو تآخ معها، فإن المظالم وانعدام كفاءة إدارة الأمور والعواطف والهوية والاندماج الاجتماعي أو بالأحرى ضعفه، عوامل تؤدي بشكل متصاعد لتوجه المتظاهرين والغاضبين والمحتجين والمقهورين صوب البرلمان اقتحاماً أو هجوماً أو تخريباً أو انصياعاً لأوامر القادة المؤثرين أو الزعماء المندثرين.
قادة أصبحوا معارضة
قادة أصبحوا معارضة، وزعماء تحولوا إلى فسدة، وربما محتجون تحولوا نواباً. هذه وغيرها تضع مجلس النواب اللبناني بين الحين والآخر في مرمى الاحتجاج والاقتحام. صحيح أن محتجي اليوم قد يصبحون نواب الغد، ونواب اليوم ربما يستيقظون صباح غد وقد باتوا وزراء أو رؤساء أو مغضوباً عليهم، ولكن محاولات المحتجين والغاضبين اللبنانيين للوصول إلى مجلس النواب لا تتوقف.
كما أن توقيف المحتجين في تونس قبل نحو عامين ومنعهم من الوصول إلى البرلمان أسفر عن تحول بعض من شركاء الحكم والوطن أمس إلى حاملي أسلحة بيضاء اليوم في الطريق للبرلمان، لكن بعد عام واحد شهد محيط البرلمان التونسي صدمة من نوع آخر وتهديد عدد من الشباب من حملة المؤهلات العليا بتنفيذ انتحار جماعي بعد اعتصام دام أياماً، ومطالب استعصى حلها على النواب لإيجاد فرص عمل من دون جدوى.
أما الجدوى من اقتحام “مجلس السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية” (البرلمان) فسيظل مثار شد وجذب بين أنصار الإبقاء على الاتحاد السوفياتي وداعمي تفتته. ففي أكتوبر (تشرين الأول) عام 1993، اندفع محتجون إلى المبنى مجاهرين بشتى أنواع الاحتجاج والاعتراض على إدارة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين وقراره حل المجلس وإجراء انتخابات باكرة. وحين تبع يلتسين قرار الحل بنحو 1200 قرار بين خصخصة لمؤسسات الدولة ومصانعها وغيرها، واستمر النواب في الاعتصام ومعهم جانب من الجماهير الغفيرة المؤيدة لعصر ما قبل تفتت الاتحاد السوفياتي، تم قصف المبنى بالدبابات، وهو ما أطلق عليه أنصار الاتحاد السوفياتي والنواب الذين كانوا معتصمين في داخله “أكتوبر الأسود”.
الجماهير الغفيرة تحتج
الجماهير الغفيرة تحتج وتتظاهر وقد تقتحم وربما يصل الأمر إلى تخريب أماكن ومبان عامة لأسباب تلخصها دراسة عنوانها “علم النفس الاجتماعي للاحتجاج” للباحثين الهولنديين في جامعة “أمستردام بيرت” كلاندرمانز وجاكلين فان ستكلنبرغ في أسباب عدة، فإما أنها تعاني مظالم لم تعد قادرة على تحملها، أو لم تعد قادرة على التعامل مع انعدام الكفاءة لدى أولي الأمر، أو انصياعاً لهوية أو مجموعة معينة يرغب المحتج أو المتظاهر في أن ينتمي إليها فيشاركهم غضبهم واقتحامهم، وأخيراً فإن الغضب يدفع الجماهير الغفيرة للاحتجاج وإن لزم الأمر الاقتحام.
لكن حين تقتحم الجماهير البرلمان الذي يمثلها فهذا يعني إما غضباً مضاعفاً، أو رسالة بأن “باب النجار مخلع” أو أن “حاميها حراميها”، وربما ضياع بوصلة وضبابية رؤية.
البرلمانات كان يفترض أن تكون مكان التقاء ممثلي الشعب لمناقشة متطلبات الشعب قبل أن يقرر الشعب أن يلتحم مع نوابه، ولكن من بوابة الاعتراض والاحتجاج.
بقلم:أمينة خيري صحافية
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية ويعبر عن راي الكاتب