جو غانم —-

 

كانت أنقرة في وقت سابق للقمة، وطوال عدة أشهر، قد أطلقت العنان للجولاني ليتقدم بقواته باتجاه الجبهات مع الجيش العربي السوري وحلفائه في أرياف حلب وإدلب والرقة.

لم يكد البيان الختامي لقمة طهران الثلاثية، التي عُقدت يوم الثلاثاء 19 تموز/يوليو الجاري، يُنقل في وسائل الإعلام، حتى سادت أجواء من التفاؤل في المجتمع السوري أوحت بقرب حدوث انفراجات وحلول على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية على السواء، بحيث بدا أنَّ المبادرة الإيرانية التي ترافقت مع ضغوط روسية وتحركات عسكرية ميدانية أثمرت في الجانبين التركي والكردي، وأنَّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لمس أخيراً أن جزءاً من مشاكله الخاصة بالوضع السوري يمكن حلها بالحوار والتنسيق مع دمشق، بمساعدة طهران وموسكو، ولو بشكل مرحلي وتكتيكي.

يأتي ذلك على الرغم من الحذر الرسمي السوري الخاصّ بأيّ نشاط سياسي يكون الرئيس التركي طرفاً فيه، لأن مستوى الثقة السوري بإردوغان لم يبرح نقطة الصفر.

واعتبر عدد من المراقبين والمحللين المحليين والعرب أن القيادات الكردية استوعبت الدرس الأميركي، وأيقنت أن واشنطن عاجزة عن الاستمرار في حمايتها، وبالتالي إن بقاء حالة الاستثمار المتبادل بين الطرفين لم يعد ممكناً، والطريق الوحيد المتبقي أمام الكرد هو العودة إلى دمشق برعاية وضمانات روسية وإيرانية، وبالتالي عودة الجيش السوري ومؤسسات الدولة إلى المنطقة الشرقية، وقطع الطريق أمام أي عملية عسكرية تركية ترمي إلى احتلال أراضٍ سورية جديدة، وإقامة “منطقة آمنة” تحت السيطرة التركية التامة.

لكنَّ الأمور لم تجرِ على هذا النحو، ولم تتأخّر الرسائل العسكرية في التدفق من عدة اتجاهات على الأرض السورية، ليبدو أن هناك من يريد إعادة الأمور إلى نقطة سابقة للقمة الثلاثية، بل إعادة إشعال المنطقة ووضع جميع الأوراق في فوهة مدفع لإحراقها بقذيفةٍ واحدة.

وهنا، كانت واشنطن هي الحاضر الأكبر من جديد على الضفة الكردية، كما كان أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام” الإرهابية، الحاضر الأبرز من الجهة التركية.

كانت أنقرة في وقت سابق للقمة، وطوال عدة أشهر، قد أطلقت العنان للجولاني ليتقدم بقواته باتجاه الجبهات مع الجيش العربي السوري وحلفائه في أرياف حلب وإدلب والرقة، واطئاً في طريقه العديد من الفصائل المسلحة الصغيرة المرعية تركياً أيضاً، في محاولة إردوغانية لوضع أكبر تنظيم إرهابي في منطقة الشمال في وجه القوات السورية والروسية، والادعاء أن أنقرة لا تسيطر على بعض المجموعات المنضوية في تحالف مع الهيئة، وهو الادعاء نفسه الذي سمح لإردوغان بالتنصل على مدى السنتين الأخيرتين من وعوده في تنفيذ اتفاق “سوتشي” الخاص بإبعاد المجموعات الإرهابية عن طريق “إم 4” الحيوي الذي يربط بين اللاذقية وحلب، وفتح الطريق ووضعه في الخدمة.

وكان الجولاني قد خرج في ظهور إعلامي جديد بالتزامن مع انعقاد القمة الثلاثية، مستقبلاً واجهته السياسية (حكومة الإنقاذ التي ترعاها وتدعمها أنقرة والدول الغربية)، إذ جلس “الوزراء” كالتلاميذ النجباء أمام قائدهم العسكري الذي بدا كطرفٍ مستقل لا علاقة له بكل ما يجري في المنطقة من حراك سياسي.

وبدأ الجولاني بالحديث عن خطط “تحرير حلب ودمشق” القريبة، وعن نقل المنطقة “من حالة الفوضى إلى حالة التنظيم”، وعن “الإنجازات” الحاصلة التي يجب البناء عليها لتحقيق إنجازات قادمة على عموم الأراضي السورية، وعن إقامة “الدولة السنية” الموعودة في القريب العاجل.

حدث كل هذا أمام العالم، في الوقت الذي كان راعيه إردوغان يتوجه إلى طهران، ملبياً نداء المبادرات، ومتحدثاً عن فرص الحلول والسلام.

لا يُعتبر الجولاني أداةً تركية فحسب. هو لم يكن كذلك في السنوات الأخيرة، بل إن واشنطن، ومعها دول غربية أخرى، انتبهت إلى إمكانية الاستثمار في الرجل وفي تنظيمه الإرهابي الضارب (المصنف إرهابياً لدى هذه الدول جميعها) لتحقيق إنجازات ونقاط على حساب الدولة السورية أولاً، وعلى حساب الأعداء الروس والإيرانيين أيضاً.

وقد بدأت عملية تعويم الجولاني وهيئته قبل عدة سنوات، وتحديداً بعد الإعلان الأميركي عن “الانتصار” على تنظيم “داعش” الإرهابي ومقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، ليأتي التنسيق الأميركي مع أنقرة والجولاني عند مقتل خليفة البغدادي، أبو بكر القرشي، كتتويج لهذا المشروع المشترك الذي يرمي إلى تقديم الجولاني للعالم باعتباره ممثلاً لـ”المعارضة السورية المعتدلة”، مع إدراك هؤلاء جميعاً بأنَّ من المستحيل على الدولة السورية أنْ تتفاوض مع إرهابيين، وأن العداء بين هؤلاء والدولة السورية وما تُمثل هو عداء جذري ووجودي.

لذلك، يسعى إردوغان، ومعه واشنطن، إلى دعم الجولاني ودفعه إلى التحرك على الجبهات على حساب بعض الفصائل التابعة لأنقرة، كما على حساب الكرد التابعين لواشنطن، ودعمه في حربه ضد الجيش السوري وحليفيه الروسي والإيراني، ومحاولة التقدم باتجاه حلب وحماه واللاذقية لإعادة الميدان السوري إلى ما قبل نهاية شهر أيلول/سبتمبر عام 2015.

لذا، ما إن عاد إردوغان من طهران حتى بدأ الجولاني بالتحرك والتصعيد، من خلال قصف مواقع الجيش العربي السوري في أرياف حلب وإدلب وحماه واللاذقية، تزامناً مع إعلان عدد من قيادات الهيئة الإرهابية تأسيس كتائب عسكرية لنشرها على خطوط القتال مع الجيش السوري، وتشكيل مجموعات “انغماسية” للقيام بعمليات انتحارية في حال بَدْء القتال، مع تأكيد هؤلاء قيامهم بكل التحضيرات اللازمة للبدء بعملية عسكرية شاملة ضد الجيش العربي السوري على جميع الجبهات.

بالتزامن مع هذا كله، وبعد صمتٍ مريب أدى بالكرد إلى الذعر من تركهم وحيدين في العراء، ما دفعهم إلى القبول بالشروع في تنفيذ شروط دمشق والتنسيق معها والموافقة على تسليم الجيش العربي السوري مواقع “قسد” الأمامية القريبة من الحدود التركية، والعودة 30 كيلومتراً باتجاه العمق السوري، والبدء بإجراءات تفضي إلى حل المشاكل مع دمشق والانخراط في مؤسسات الدولة السورية، عادت واشنطن لتضخ بعض الأوكسجين في الرئة الانفصالية الكردية، وتضغط على قيادات “قسد” للعودة إلى وضعها السابق والامتناع عن تسليم المواقع للجيش السوري، بل دفعت بعض مجموعات “قسد” إلى محاصرة نقطة عسكرية روسية في منطقة “عين عيسى”، بعد تهديد روسي أعقب امتناع الكرد عن الابتعاد عن طريق “إم 4” تنفيذاً للتعهدات السابقة.

لم تتأخَّر واشنطن في العمل على الأرض لضرب مفاعيل قمة طهران، ومنع أيّ نجاح روسي إيراني على هذا الصعيد، إذ بدأت القوات الأميركية المحتلة في الشرق السوري فوراً بتفعيل نشاطاتها مع “قسد”، وأجرت عدة تدريبات مشتركة على الذخيرة الحية، وتعهّدت تكثيف وزيادة الرعاية الاقتصادية لمناطق “الإدارة الذاتية”، ووعدت بتنفيذ تعهداتها في ما يخص إعفاء مناطق الكرد من عقوبات قانون “قيصر” الأميركي.

كما أرسلت واشنطن عدة مجموعات جوية وبرية للاستطلاع في منطقة الرقة، وخصوصاً في مقر الفرقة 17، في إيحاء أميركي بوجود نية بإعادة انتشار القوات الأميركية في تلك المنطقة.

من جهة أخرى، أجرت القوات الأميركية الموجودة في قاعدة “التنف” على الحدود السورية العراقية تدريبات بأسلحة جديدة مع مجموعة “مغاوير الثورة” (مجموعة مشكلة من فلول تنظيم “داعش” وما كان يُسمى بالجيش الحر ومجموعات مسلحة وإرهابية أخرى)، إذ أقدمت القوات الأميركية للمرة الأولى في سوريا على تدريب هؤلاء على منظومة الصواريخ “هيمارس”، وهي صواريخ أميركية حديثة وعالية الدقة، مزودة بنظام “جي بي إس”، ويمكنها إطلاق صاروخ تكتيكي يصل مداه إلى 300 كيلومتر. وكانت الحكومة الأميركية قد زودت الجيش الأوكراني مؤخراً بنسخ من هذه المنظومة.

هذه الأمور هي إشارات أميركية واضحة على رفض واشنطن القبول بأي أمر واقع تفرضه دمشق وحلفاؤها، وفي مقدمتهم الروس والإيرانيون، بل تأتي أيضاً كردود واضحة على الرسائل الروسية التي أبلغها جنرالات “حميميم” للكرد في القامشلي، مع حرص واشنطن على إظهار نياتها في تحريك جبهة البادية أيضاً، فمن المعروف أنَّ مجموعة “مغاوير الثورة” هذه التي تحرس القاعدة الأميركية هي المسؤولة عن التواصل المباشر مع مجموعات “داعش” في البادية السورية وتسهيل الدعم الأميركي اللوجستي والعسكري للتنظيم الذي ادّعت واشنطن القدوم لمحاربته، بل والانتصار عليه لاحقاً.

والجدير ذكره هنا أنّ واشنطن ليست وحدها من استنفر في وجه القمة الثلاثية، فقد فعّلت لندن دورها على الحدود السورية الأردنية، من خلال رفع وتيرة دعم فصائل البادية بالمال والسلاح عن طريق المهربين الأردنيين والسوريين الذين يعملون على خط الأردن – مخيم الركبان.

وبالتزامن مع ذلك، وصل وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، برنارد كوشنير، على رأس وفد سياسي إلى القامشلي، ليلتقي قيادات “قسد”، ويعرب عن دعم بلاده العسكري والسياسي والاقتصادي لـ”الإدارة الذاتية”.

إلى جانب هذا كلّه، بادرت القوات التركية إلى التصعيد على الجبهات مع الكرد، وتزايد نشاط الطائرات التركية المسيرة وقصفها مواقع “قسد” في مناطق ريف الحسكة والرقة، والدفع بحشود عسكرية باتجاه الحدود الدولية وبعض البلدات والقرى الخاضعة لسيطرة الكرد داخل الأراضي السورية، في الوقت الذي أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عزم بلاده على مواصلة “ضرب الإرهاب”، وأنها “لن تأخذ إذناً من أحد” للقيام بأي عملية عسكرية، مع ورود معلومات متقاطعة عن وجود بحث تركي جدي في الأيام الأخيرة للقيام بعملية عسكرية داخل الأراضي السورية.

وبينما تواصل دمشق وحلفاؤها الحشد العسكري على الجبهات، واستعدادهم لكلّ احتمال ممكن، يبدو أنَّ واشنطن استطاعت حتى اللحظة أنْ تهز الطاولة في الشرق والشمال السوريين، وذلك بالاعتماد على أدواتها في المنطقتين، حيث الكرد الذين امتهنوا التمسك بكل قشة تُطيرها الريح الأميركية، والجولاني الذي يحلم بحلب ودمشق و”الدولة الإسلامية”، والذي يرى فيه إردوغان قشة خلاصه الخاصة هو الآخر، وخصوصاً أن قمة طهران لم تجد له حلاً سريعاً لمشكلة اللاجئين السوريين الذي تُنغص عليه حياته السياسية في الداخل التركي على بُعد أشهر من الانتخابات الرئاسية.

يمكن القول إنَّ الأوضاع في منطقة الشمال والشرق السوريين ذاهبة نحو التصعيد والمواجهة العسكرية المتداخلة والمعقدة أكثر من أي وقت مضى، وذلك ابتداءً من ريف اللاذقية ومنطقة جبل الزاوية على الجبهة الإدلبية، والتي بدأ التصعيد فيها بالفعل في الأيام الأخيرة، إذ شهدت قصفاً سورياً وروسياً على بعض نقاط المجموعات الإرهابية، وهجمات بالقذائف على نقاط الجيش السوري في ريفي حماه وإدلب، مروراً بالريف الحلبي الذي عمدت فيه مجموعات أبو محمد الجولاني إلى الهجوم على مواقع للجيش، ليرد بقوة وحزم على مواقع المجموعات المسلحة، وصولاً إلى ريفي الرقة والحسكة، حيث القصف التركي المستجد والمتصاعد للمواقع الكردية بالتزامن مع التهديد التركي ببدء العملية العسكرية الشاملة، وتهديد الجولاني بدوره بعملية مماثلة باتجاه حلب وحماه واللاذقية، ثم المناوشات الكردية – الروسية في عين عيسى، والتي تحدث للمرة الأولى.

هذا كله يُنذر بإشعال المنطقة من جديد، وبشكل أقوى وأكثر خطورة من السابق، إذ لن تُوفر واشنطن أيّ جهد لتسخين جبهة البادية والحدود العراقية السورية. وبالتالي، ما لم تسعَ دمشق وموسكو وطهران لقلب طاولة الميدان عسكرياً في وجه الأميركيين أولاً، ثم الأتراك، أو التوصل مع إردوغان إلى اتفاق مناسب يمكن فرضه على الأرض بالتزامن مع ضغط سوري – روسي كبير على الكرد، فإنَّها الحرب التي قد تبدأ في أي لحظة.

وبصرف النظر عن مكان انطلاق القذيفة الأولى لهذه الحرب، يمكن القول إنَّ قواعد القوات الأميركية المحتلة ونقاطها في الشرق السوري والبادية ستكون هدفاً لمئات القذائف والصواريخ منذ الصيحة الأولى.

الميادين