السياسية:

عندما تحرك ضباط من الجيش المصري لإسقاط النظام الملكي عام 1952، كان قد مر على احتلال بريطانيا لمصر سبعون عاما.

وتكشف وثائق بريطانية أنه رغم نفوذ بريطانيا، باعتبارها قوة احتلال، في الحياة السياسية، فإن حكومتها الامبراطورية في لندن فوجئت بالحركة التي تحولت إلى ثورة لقيت تأييد الشعب المصري، وأدت بعد 4 سنوات إلى رحيل بريطانيا عن مصر.

في صباح الأربعاء 23 يوليو/تموز عام 1952، أي قبل سبعين عاما أيضا، أطاحت مجموعة من ضباط الجيش المصري بقيادة اللواء محمد نجيب بالنظام الملكي ليحولوا نظام الحكم إلى جمهوري اشتراكي التوجه ويتغير مسار مصر والشرق الأوسط.

لم يسمع البريطانيون بالخبر إلا بعدما أعلن محمد أنور السادات، عضو حركة الضباط الأحرار، عبر بيان إذاعي مقتضب عن التحرك لإسقاط الملك فاروق ونظامه.

وحسب الوثائق البريطانية التي حصلت عليها، فإن لجنة الاستخبارات المشتركة كتبت تقريرا، قبل فترة قصيرة من حركة الضباط، يستبعد وقوع أي تحرك سياسي كبير يقلب الأوضاع في مصر.

ووفق التقرير، الذي أعد استنادا إلى مصادر مختلفة بعد أسابيع قليلة من حريق القاهرة الشهير يوم 26 يناير عام 1952، فإن فريق الشرق الأوسط في اللجنة “اعتقد أنه من المبكر جدا التنبؤ بشكل قاطع لا شك فيه بما سوف يحدث”، كما أبدى اطمئنانا إلى العلاقة بين الملك فاروق والمؤسسة العسكرية.

مهمة لم تُنجز

وجاء هذا التقدير رغم شيوع فضائح الفساد على أعلى المستويات في مصر، واضطراب سياسي كان من ظواهره تغيير الحكومة خمس مرات خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى أواخر يوليو/تموز عام 1952. ولم تدم واحدة من تلك الحكومات سوى 18ساعة.

ومن بين أهم مهام لجنة الاستخبارات المشتركة، التي تتبع رئاسة مجلس الوزراء مباشرة، المتابعة الدقيقة للأحداث الدولية التي تؤثر على المصالح الوطنية في الخارج.

وبحكم عضوية كبار المسؤولين من وزارات الخارجية والدفاع والداخلية التنمية الدولية والخزانة وشؤون مجلس الوزراء والقوات المسلحة فيها، فإن اللجنة تملك كل الإمكانيات لإعداد تقارير دقيقة تساعد صانع القرار على التحرك في الوقت المناسب حماية لهذه المصالح.

وكان من المفترض أن تنبه اللجنة، بحكم إمكانياتها وتركيبتها، إلى ما يحدث في مصر وتعد تقييما أدق عن التطورات خاصة بعد أحداث حريق القاهرة، وفضائح الفساد التي كانت حديث المصريين وسبب تململ واسع في الجيش.

لم تؤد اللجنة مهمتها. لكن استخبارات البحرية البريطانية فعلت، ونبهت إلى أن الجيش ربما يقدم على شيء ما كبير.

ففي الثامن من يوليو/تموز، أي قبل تحرك الضباط الأحرار بخمسة عشر يوما، كتب قائد مكتب الاستخبارات البحرية في الشرق الأوسط، ومقره القاهرة، تقريرا إلى قيادته مستعرضا الأزمة المتفاقمة في مصر و”عدم قدرة الملك على السيطرة”.

كانت فحوى التقرير عبارة عن “ملاحظات بشأن الوضع في مصر كتبه يوم السادس من يوليو/تموز ثلاثة من العاملين في مكتب الاستخبارات البحرية بعد إجراء مقابلات ونقاشات بشأن الوضع مع أشخاص مختلفين”.

واستعرض التقريرالأحداث السياسية في مصر في يوم 5 يوليو/تموز.

وكانت حكومة أحمد نجيب الهلالي، آخر رئيس وزراء قبل حركة الجيش، قد قدمت إلى الملك فاروق استقالة، وصفها التقرير بأنها “مفاجئة للبلاد والملك نفسه”، لأن الهلالي أصر بشدة على الرحيل.

وقال معدو التقرير إنه “لم يعد يمكن افتراض أن الملك مسيطر بشكل كامل” على الوضع.

وأكد أن حكومة الهلالي، التي دامت 4 أشهر ويوما واحدا “أُسقطت بفعل عوامل غير سياسية”.

وحصلت المخابرات البحرية البريطانية على معلومات تقول إن “السبب الرئيسي لإصرار رئيس الوزراء، الذي كان مفاجئا للبلاد كلها، على الاستقالة هو صفقة مالية خاصة، يُزعم أنه بمقتضاها أعطى أحمد عبود باشا (رجل الأعمال) رشاوى، لمستشارين للملك، هما كريم ثابت (المستشار الصحفي) وإلياس أندراوس باشا (المستشار الاقتصادي)، لخدمة مصالحه”؟

.

ويؤكد التقرير أن الهلالي كان قد “بدأ، في حملته لمكافحة الفساد، كشف الأدلة على مشاركة القصر في فضائح مختلفة”، وأنه، أي الهلالي “رفض التعاون مع مستشاري الملك في ستر الحقائق”.

مناخ فتنة
كان الجيش، خاصة الضباط من الرتب المتوسطة، لا يزال ضجرا بسبب فضيحة الأسلحة الفاسدة التي أدت إلى خسارة الجيوش العربية، بما فيها المصري، أمام الجماعات الصهيونية المسلحة في فلسطين عقب إعلان قيام كيان إسرائيل في مايو/ أيار عام 1948.

وقال التقرير الاستخباراتي البريطاني إن “التأثير الضار لفضيحة عبود باشا على سمعة الملك ملحوظ للغاية في الجيش”.

ومن أشكال هذا التأثير “أن تكثف شيوع مناخ موات للفتنة والتحريض، وخاصة بين صغار الضباط”.

لم يتوقع معدو التقرير، وفق مصادرهم، أن يكون تحرك الجيش بالشكل الذي حدث يوم 23 يوليو/تموز.

غير أنه نبَّه إلى أنه “من الممكن جدا أن بعض هؤلاء الضباط ربما يحاولون اغتيال عسكريين من قادتهم الذين يؤيدون الملك، أو حتى اغتيال الملك نفسه”.

ورغم أن مصادر معلومات الاستخبارات البحرية قالت إنه “لا يزال من الممكن اعتبار الضباط الكبار في الجيش كهيئة، موالين”، فإن هذا الولاء قد “قُوِّض إلى حد ما بسبب الفضائح الأخيرة التي كان الملك ضالعا فيها”.

لم يشر التقرير من قريب أو بعيد إلى أن الضباط يتحركون في إطار تنظيم سموه الضباط الأحرار.

غير أنه حذر من أنه في ضوء تدني سمعة الملك، فإن الثقة في الاعتماد على الجيش باعتباره قوة الاستقرار الأساسية في البلاد غدت “أدنى”.

وأضاف أنه “إذا تدهور وضع الأمن العام، فإن الثقة في قمع الجيش للاضطرابات تُعتبر أقل الآن”. ليس هذا فقط بل “ربما تبادر عناصر داخله بالإقدام على عمل تحريضي. ولو حدثت اضطرابات، فإنها من المرجح أن توجه في المقام الأول إلى الملك”.

وفيما يخص المصلحة البريطانية المباشرة، حذر التقرير الاستخباري من أن هذه الاضطرابات “قد تنحدر بسهولة إلى عنف ضد البريطانيين وفي النهاية ضد كل الأوروبيين في الدلتا”.

الإخوان ينتظرون
في هذا الوقت، شاع أن أحد المرشحين لخلافة الهلالي، هو أحمد مرتضى المراغي وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة.

وحسب معلومات الانجليز حينها، فإنه كان “يضع اللمسات الأخيرة على مشروع مفصل للإصلاح الاجتماعي، وسيكون مستعدا لقبول المنصب بغرض تنفيذ مشروعه”.

ونقل التقرير الاستخباراتي عن “مصادر متعاونة” قولها إن المراغي “أسر إلى أصدقائه بأنه محبط من سلوك الملك غير المسؤول وأنه مع ذلك سيكون مستعدا للخدمة بالولاء للملك لو عدَّل الأخير طريقه وأعطاه دعمه القوي”.

غير أحد المصادر البريطانية أكد أن المراغي “أسرَّ له بأنه إذا واصل الملك إهمال شؤون البلاد، فإنه سيكون مستعدا حتى للتخطيط لخلع الملك وتشكيل مجلس وصاية”.

ماذا كانت حالة الأمن العام؟

لم يتوقع التقرير احتمال أن “يحقق أي حزب سياسي، في المنعطف الحالي، أي مكاسب بإثارة اضطرابات”.

وحسب المعلومات البريطانية حينها، فإن تنظيم الإخوان المسلمين “ما زال يفضل انتظار التطورات”.

غير أن المعلومات قالت إنه “لا يمكن استبعاد أن تقدم عناصر متطرفة، سواء من الإخوان أم غيرهم، على تنفيذ أعمال مستقلة (عن تنظيماتها) في صورة اغتيالات أو مظاهرات عامة”.

وفيما يتعلق بالشرطة، قال التقرير إن استمرار الموقف الغامض الملتبس الحالي “سوف يميل إلى أن يتسبب في خفض الروح المعنوية وتراخي ولائها للحكومة”.

لم تصل هذه المعلومات إلى لندن.

فرغم أهمية التقرير الاستخباراتي، فإن قيادة الاستخبارات في قيادة أركان البحرية في العاصمة البريطانية لم تتسلمه إلا في يوم 23 يوليو/تموز، ما أثار “شعورا بالحسرة”.

وتكشف المراسلات البالغة السرية بين مقر الاستخبارات من ناحية، ووزارة الخارجية ومقر قيادة أركان البحرية عن أن قائد الاستخبارات رفض تحمل المسؤولية عما حدث، لأنه تلقى التقرير من قائد فرع الاستخبارات البحرية في القاهرة متأخرا. وتبين أن قائد الفرع لم يقدر أهمية التقرير لذلك، أرسله بالبريد البحري، ولم يفكر في إرسال مختصر له عن طريق الشفرة.

وقال قائد الاستخبارات في لندن “لسوء الحظ، هو أرسله لي عن طريق البريد البحري، لذا لم يصل إلى القيادة البحرية قبل يوم 23 يوليو. وقد لفتُ انتباهه إلى الحسرة من أنه لم يرسله لي بالبريد الجوي”.

غير أنه أضاف: “مع ذلك، فإنني اعتقد أنك (قائد قيادة أركان البحرية) سوف توافقني أن تلك ليست مسؤولية الاستخبارات البحرية”.

وفيما يتعلق بتقييمه للتقرير قال “يبدو أن هذا التقرير يعطي مؤشرا واضحا للغاية على تدهور العلاقات بين الجيش وملك مصر، وهذا يتناقض بقدر كبير للغاية مع تقرير لجنة الاستخبارات المشتركة”.

ونصح المسؤول الاستخباراتي العسكري البريطاني بأن “يُطلب من اللجنة تفسيرا لعدم التنبيه، الذي توفر لدينا، إلى الإنقلاب”.

في الوقت نفسه، أرسل إلى مكتب المخابرات البحرية في الشرق الأوسط، بالقاهرة رسالة شخصية بالغة السرية، قال فيها “خطابكم المؤرخ في 8 يوليو لم يُسلم حتى 23 يوليو لأنه من المحتمل أنه أرسل بالبحر. هذا التقدير القيم ربما كان ساعدنا في توقع التحركات الأخيرة”.

وفي إشارة إلى ضرورة الاستفادة من الخطأ الذي حدث، قال “من فضلك تأكد أن مثل هذه التقارير ترسل بالبريد البحري في المستقبل، مع إرسال مختصرات له بالبرقيات العاجلة إذا قضت الضرورة”.

المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع بي بي سي ولا تعبر عن راي الموقع