أحمد فؤاد*

تعد الحرب أرقى التجارب الإنسانية، وأقسى الاختبارات الوطنية، فيها تنصهر عناصر الأمة في كتلة واحدة، وفيها تظهر الإرادة كأعظم ما يكون، وتتجلى التضحية كأنبل القيم وأكثرها مغازلة للوجدان الجمعي للناس، وتستعاد فيها أعز الأيام، للتاريخ والذاكرة والإنسان، وتكتب من جديد على جبين القدر أسطورة الفداء وانتصار الدم على السيف.

وكما تصبح الجماعة هي الحصن الأول في زمن الحرب، تنتفي الفردانية والشخصنة، وتبحث الأمة في شهدائها عن أبطالها، وتبحث في أبطالها عن إشارات النصر القادم وآماله، وبقدر كل إنسان تبقى مشاركته في الحرب بالجسد أو السلاح أو بقلبه، مددًا ونورًا يعين ويسند في وجه العواصف الحاضرة والقادمة.

وإذا كان أبسط تعريف للنصر في الحروب، طبقًا لأشهر أساتذة التنظير العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتز، هو كسر إرادة العدو، ثم منعه من تحقيق أهدافه، فإن الانتصار في الحرب لا يكون انتصارا للسلاح، مهما بلغت كفاءته أو وصل مداه وعنفه، بل هو انتصار للمبدأ والفكر والعقيدة، لذا تحاول كل دولة وكل جماعة بشرية إسباغ العظمة على انتصاراتها، للاستفادة من واقعها الجديد، أو التهوين من شأن هزائمها، لتقليل نزيف خسائرها عند حد مقبول.

ولتنشيط الذاكرة، بأحداث أعظم وأوضح نصر عربي على الكيان الصهيوني منذ نشأته، فقد بدأ الصهاينة الحرب تحت مظلة أميركية كاملة، كانت قادرة قبل 16 عامًا على شرعنة المواقف وفرضها، وكانت فاعلًا أوحد كلي القدرة والجبروت، لغرض وحيد، هو إنهاء الرعب القادم من الشمال نحو فلسطين المحتلة، وقد بدا في هذا الصيف الساخن أن كل العوامل تساعدها للدخول في حرب مفتوحة ضد حزب الله.

كان جورج بوش الابن وكوندليزا رايس في واشنطن يبشران بالشرق الأوسط الجديد، تمامًا كما يحاول جو بايدن اليوم، وجعلا من الكيان رأس الحربة والفاعل الوحيد المطلق في الشرق الأوسط، وتكفلت القبضة الأميركية في توفير غطاء العدوان للكيان الصهيوني، ثم حشد كل ما أمكن حشده من تأييد علني من جانب أنظمة السقوط العربي.

كان النظام العربي ساقطًا بالكامل، ونهائيًا، وكان يتمنى أن يكسر الجيش الصهيوني شوكة حزب الله، ويقضي على حلم المقاومة الذي بدا نديًا عذبًا، لكن ما لم يقدره حكام السعودية والأردن ومصر، ممن اجتمعوا فور وقوع العدوان على لبنان في العام 2006 وأدانوا حزب الله بشكل مسبق، وقدموا لبنان على مذبح الرضا الأميركي، أن الحلم الندي كان أيضًا جذوة لا تنطفئ، جبارًا وقادرًا على المواجهة.

وإلى اليوم يتمنى كثر من قادة النظام العربي، وإن اختلفت الأسماء، سقوط محور المقاومة، وانتفاء هذا العنصر الذي يكشف عوراتهم ورخص نفوسهم، لكن طالما ظلت راية “هيهات منا الذلة”، الصرخة الزينبية العابرة للقرون ولكل الجبابرة حية، فلن تهتز أبدًا.

لكن السنوات الأخيرة حملت ـ وللأسى ـ مصيبة جديدة إلى الروح العربية المأزومة أصلًا، وهي نبرة ادعاء الهزيمة والانكسار، وكأن الكيان الصهيوني تحول إلى مارد جبار، لا طاقة لأحد به، وفوق أن هذا الحديث الانهزامي منحط، فإنه يبقى المبرر الوحيد لدى المطبعين ومؤيدي أنظمة العار العربية، ممن لا يتجرؤون على رفع رؤوسهم أمام أسيادهم في تل أبيب وواشنطن، وسيبقى حديثهم مستمرًا عن الضحايا والمدنيين، وكأن هذه الأنظمة ترقب في شعوبها إلاً أو ذمة.

دخل حزب الله الحرب بأهداف واضحة، تحرير الأسرى مقابل الجنديين الصهيونيين في عملية الوعد الصادق، وكان سماحة السيد محددًا وقاطعًا في أول خطاب عقب الإعلان عن العملية: “لن تستطيع قوة على الأرض تحرير الجنديين بغير عملية تفاوض غير مباشر وإطلاق سراح الأسرى”، ودخل الصهاينة أيضًا الحرب بهدف واضح، وهو تصفية تهديد حزب الله تمامًا وكسره داخليًا، ثم تصفية المشروع المقاوم في المنطقة تمامًا.

ونظرة على ما وقع بعد الحرب مباشرة، فقد أطاحت الهزيمة وتقرير “فينوغراد” بالنخبة العسكرية والسياسية وقتها، دان حالوتس وعمير بيرتيس وإيهود أولمرت، كلهم ذهبوا إلى النسيان عقب “الفشل”، وهي الكلمة التي ذكرتها لجنة التحقيق برئاسة القاضي فينوغراد 156 مرة، في تقريرها النهائي عن حرب تموز 2006.

أما على الجبهة العربية، فقد أعاد الانتصار اللبناني لنا الكثير مما فقدناه، أعاد الأمل وأحيا القدرة على الحلم، كان الكيان قبل هذا الانتصار قدرًا مقدورًا، وكان ينظر إلى من يتحدث عن زواله وكأنه غائب عن الواقع والخريطة العالمية، لم يكن تموز سوى صيحة الله المدوية في عصرنا، صيحة أعادت الإيمان وردت الروح إلى الجسد العربي العليل.

وللتاريخ والذاكرة والإنسان أيضًا، فإن صورة الحاج رضوان، الشهيد المتوج بالنور الإلهي، هي رد كامل ووافٍ على كل من يقلل من دور الفاعل الإنساني في صياغة اللحظة التاريخية وصنعها. إن دور الفرد البطل في حياة الأمم وأيامها محوري وحيوي، تمامًا مثل حقائق السياسة والاقتصاد والواقع، لكن البطل يبقى تعبيرًا عن أمة أرادت تجاوز موازين قوة مختلة، لم تصنعها هي لكنها فرضت عليها، فخرج في لحظة سيادة الظلم والشر ليكسر حائط المستحيل، ويحفز ويقود إلى حيث الفضاء الواسع من الأمل والنور والمجد.

* المصدر :موقع العهد الإخباري