شارل أبي نادر*

بعد ان شرّفني احد الاصدقاء من الاخوة في المقاومة بدعوة للمشاركة في احتفال رمزي، خُصص لذكرى شهداء مسيرة “الاربعون ربيعا”، وأن علي ان اكون حاضرا حيث قد  يُطلب مني ان اقول كلمة “رمزية  ووجدانية ” في هذه الذكرى الطيبة، لإحدى وسائل الإعلام، قلت بيني وبين نفسي: ماذا يجب ان اقول في حضرة شهداء المقاومة حيث سوف أشارك بذكرى اجيال من الشهداء، ارتقوا خلال  مسيرة طويلة تجاوزت الأربعين عاما، وانا لا اعرف اغلب هؤلاء، حتى اقول وبكل موضوعية، لا معرفة شخصية لي بأي شهيد منهم؟
طبعا، وحتى من دون وجود هذه المعرفة، وجدت انني املك الكثير من المعطيات عنهم والتي تسمح لي بأن أضمّن كلمتي نقطتين اساسيتين:
اولا: من هم هؤلاء الشهداء، وثانيا: ماذا حققوا للبنان وللمقاومة؟

اولا: من هم هؤلاء الشهداء؟

نتكلم عن شهداء مسيرة اكثر من اربعين عاما، بداية عن شهداء الزمن الاول لانطلاقة مسيرة المقاومة، ولاحقا عن شهداء المراحل الأخرى .

– مرحلة نشأة حزب الله؛ حيث استشهد أغلبهم في مناطق محتلة من لبنان، في الجنوب وفي البقاع الغربي. انا حينها كنت ولدا صغيرا، اعيش في منطقة بعيدة جدا عن مواقع استشهادهم، وبالكاد كان اهلي ورفاقي وأغلب محيطي يعرفون هذه المناطق، وربما استطيع ان اقول ان اغلبنا في تلك المنطقة، لم نكن نعلم او ننتبه او يعني لنا أن هناك مناطق لبنانية محتلة، وأن هناك عدوًّا إسرائيليًّا وان هناك لبنانيين يقاتلون هذا العدو ويقاومونه ويستشهدون، وحيث تغير اليوم هذا الامر، حيث الكثير اصبحوا يعلمون ذلك، بقي بعضهم غير معنيين ولا يعني لهم الامر شيئا، من أن مسيرة من الشهداء ارتقت دفاعا عن تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني.

–  بالنسبة لشهداء المراحل الأخرى، فبعد انخراطي في الجيش، بدأت اتعرف عليهم شيئا فشيئا واستنتج بعضا  من مزاياهم ومن شخصياتهم، عندما بدأت اتعرف على مناطق استشهادهم على الخريطة العسكرية، وذلك اثناء دروس الخرائط  ودروس القتال، وطبعا دون أن اذهب الى تلك المناطق المحتلة او التي هي على تماس مباشر مع المناطق المحتلة.

لاحقا، تعرفت اكثر واكثر على هؤلاء الشهداء بعد أن خدمت في الجنوب، وتحديدا في تلك المناطق التي كانت مسرحا لعمليات المواجهة بين المقاومة وبين العدو المحتل، واثناء تجوالي في تلك المعابر والطرق بين اماكن استشهاد ابطالنا، حينها بدأت اتعرف عليهم فردا فردا من أماكن استشهادهم حيث يوجد بعض النُصب الرمزية او بعض الصور او الكلمات المدونة على الواح رخامية، وتعرفت عليهم ايضا من اماكن رباطهم واماكن تسللهم والاماكن التي كانوا ينتظرون العدو فيها، جامدين ملتصقين بالارض ساعات وايامًا دون حراك، للإيقاع بدوريات العدو المتحركة او بحرسه المتمركزين على مواقع محتلة ثابتة، لتنفيذ عملياتهم القتالية، كمائن او إغارات.

هنا بدأت اتعرف تقريبا على هؤلاء شخصيا، فوجدتهم جميعهم يملكون ذات الصفات، والتي لا يستطيع أي مقاتل رابطَ وهاجم ودافع وناور في تلك المواجهات الحساسة والخطيرة، بوجه عدو قادر وقوي، يملك كل الامكانيات العسكرية المتفوقة، في الجو وفي الرصد وفي الاستهداف، الا ان يكون هذا المقاوم المقاتل، مؤمنا وصبوراً وذكيا ومسؤولا وجريئا ومقداما وقويا وشجاعا ومضحيا وملتزما وكريما وجميلا ووطنيا وطيبا وغيورا ومسامحا.

حينها، في تلك الفترة، تعرفت على كل هؤلاء الشهداء، واليوم اعتبر نفسي اعرفهم كلهم، اثناء خدمتي في اماكن مقاومتهم ومسيرتهم المشرفة، منذ بدء تدريباتهم وخلال كامل مسيرة قتالهم ومقاومتهم العدو وحتى استشهادهم.

لاحقا، وبعد تقاعدي من الجيش، وبعد أن انخرطت في مسيرة إعلامية، فيها تقريبا ما يشبه المتابعة الكاملة للميدان القريب، تعرفت على شهداء آخرين من حزب الله في جرودنا الشرقية وفي القصير وفي أرياف دمشق والغوطة ومنطقة الست زينب وحمص وحماه وسهل الغاب وطريق اثريا خناصر وحلب المدينة واريافها الواسعة وفي البادية وتدمر ودير الزور والبوكمال، وحينها ايضا، وفي متابعتي لاغلب المعارك التي استشهد فيها ابطالنا، تعرفت اكثر واكثر على اغلبهم او عليهم جميعا، من اماكن استشهادهم في تلك المناطق.

وايضا وايضا، ومن خلال متابعتي لتلك المناطق الخطيرة، حيث خاضوا أعنف انواع القتال شراسة، بمواجهة ارهابيين انتحاريين ودوليين، مدربين ويملكون تجارب متقدمة في القتال، ومجهزين باكثر انواع الاسلحة تطورا، تعرفت ايضا على شهدائنا، ووجدتهم جميعا يملكون نفس المزايا: المؤمن والبطل والجريء والذكي والعنيد والمقدام والوطني والطيب والجميل والكريم والمسامح…

وايضا وايضا، تعرفت عليهم اكثر واكثر بالأمس، اثناء مشاركتي في ذكراهم الطيبة والمشرِّفة، من خلال وجودي بين رفاقهم وبين اهاليهم وعوائلهم الطيبين.

ماذا حقق هؤلاء الشهداء خلال مسيرة “الاربعون”؟

طبعا، هؤلاء الشهداء والذين فازوا بشرف الشهادة، يعيشون اليوم في جناتهم سعداء، راضين بما حققوه وبما نالوه من حظوة مقدسة، ولكن الأهم انهم، ويوما بعد يوم، يلمسون ويتأكدون من عظمة ما حققوه بشهادتهم للبنان وللمقاومة من خلال ما حققوه في تحرير لبنان وما حققوه في هزيمة “اسرائيل” في اغلب المواجهات بعد التحرير.

ولكن يبقى الاهم، والذي يشعر من خلاله هؤلاء الشهداء بفخر عظيم، هو ما وصل اليه لبنان اليوم من موقع بفضل تضحياتهم ودمائهم، هذا الموقع الذي وصل اليه لبنان ويفرضه اليوم، تجاوز جغرافيته الضيقة المحدودة، حيث بفضل شهادة هؤلاء الابطال، اصبح قادرا على ان يلعب دورا متقدما في الإقليم، من خلال سلسلة متراكمة من المعادلات التي فرضها عبر المقاومة، آخرها، معادلة ما بعد ما بعد كاريش، والتي تجاوزت موضوع النزاع على حقل كاريش والخطين البحريين ٢٣ و٢٩ مع الصهاينة، الى موقع ابعد بكثير، الى لب ونواة واساس كامل الصراع التاريخي مع العدو الصهيوني المحتل، والى مقارعة راعي هذا المحتل، الى مقارعة  وتحدي الأميركي في كامل مشاريعه واجندته الإقليمية، من الند للند.

* المصدر :موقع العهد الإخباري