إيهاب شوقي*

لا يمكن فهم أو استيعاب ما شكلته المقاومة من معادلات وانجازات إلا بفهم دقيق لطبيعة الصراع وطبيعة الكيان الصهيوني، ولا يمكن بيان وتذوق حجم الإنجاز الاستراتيجي لحزب الله على مدى أربعين ربيعا، إلا بمقارنة الوضع ومعادلاته عند الربيع الأول، مع الوضع الراهن عند الربيع الأربعين.

وعن الصراع، فهو صراع وجودي لا تجدي مع توصيفه الحقيقي كل مساحيق التجميل التي حاولت وصفه بأنه صراع للحدود، كمقدمة للتهيئة للاستسلام تحت عنوان التسوية والسلام!

وعن العدو، فهو كيان وظيفي لخدمة الاستعمار ومصالحه، إلا أنه مكن لنفسه عبر آليات مختلفة كمحاولة للبقاء وإطالة أمد الدور المنوط به، عبر ابتزاز الاستعمار تحت دعاوى عقائدية تارة جعلت له مؤيدين وفي مراكز صنع القرار الاستعماري، وعبر ابتزاز وضغوط من جماعات الضغط التابعة له تارات.

والمعضلة الرئيسية للكيان الصهيوني، هي أنه شق لنفسه طموحا ذاتيا يتجاوز دوره الوظيفي بما يورط رعاته على عكس الهدف المنشود من توظيفه، وهو ما يشكل خطرا يتجاوز السلم الإقليمي ليصل إلى تهديد للسلم الدولي بأسره.

وقد اشتهر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “هنري كيسنجر”، بمقولة معبرة وموحية عن العدو الإسرائيلي، وهي أن: “إسرائيل ليس لديها سياسة خارجية، بل سياسة داخلية فقط”.

وهي كما نفهمها تعبر عن طبيعة الكيان المارقة على القانون الدولي وتصدي الاستعمار لحمايته ولتوفير الغطاء والمساعدة في هندسة علاقاته ودعم مصالحه، وهو ما يوفر الجهد المفترض أن تبذله المؤسسات العاملة على صياغة سياساته الخارجية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تتعلق بأن الكيان يعمل على تصدير أزماته الداخلية وتوظيف علاقاته وممارساته الخارجية في خدمة هذه السياسات.

من هنا فإن الكيان الصهيوني يبحث دوما عن البقاء بتوسيع عمقه الاستراتيجي، وترجمة ذلك أنه لا يتوانى عن التمدد للخارج لخدمة الداخل، فهو يوسع مستوطناته لخدمة النواة الاستعمارية لكيانه، ويسعى لاحتلال الدول المحيطة لحماية توسعاته الداخلية ومغتصباته الجديدة المتنامية.

وهنا كان سلوك الكيان عند الربيع الأول للمقاومة، حيث توهم أنه انتصر على دول الطوق، بإخراج أكبر قوة عسكرية حاربته من الصراع والنجاح في الحصول على توقيعها على معاهدة عنوانها السلام، وعزل الجيش العربي السوري وحيدا في حالة الحرب، ومقاومات فلسطينية معزولة ومتناثرة ومطاردة فهي محاربة في الداخل ومطاردة في الخارج، بل والأسوأ أن الترهيب والاختراقات للدول المحتضنة للمقاومة الفلسطينية تسببت في أوضاع خلافية وصراعات جعلت من احتضان المقاومة عبئا وأزمة كبرى.

في هذا السياق اجتاح العدو لبنان في العام 1982 بعد سوابق من اجتياحات الجنوب لمطاردة الفلسطينيين، ووصلت لبيروت لتضع حدا لوجود أي مقاومة، كي تكرس معادلة مفادها: لبنان منزوع المقاومة.

وفي هذا الربيع الأول بزغ حزب الله ليضع حدا لهذه المعادلة، وكانت المعادلة الأولى التي رسمها هي أن لبنان ليس خاليا من المقاومة، وأن مقاومة “اسرائيل” ليست حصرا للفلسطينيين في لبنان، وأن هناك دعما خارجيا للمقاومة ليس باعتبارها ميليشيا خارجة عن الدولة والتي انهارت وتم احتلالها، ولكن باعتبارها حركة تحرر وطني تحصل على الدعم من القوى التي تقاوم الاستعمار، وهو ما يعني غرس بذرة مبكرة لمحور المقاومة.

وبعد تنامي المقاومة وعملياتها وفي الربيع الثالث، انسحبت “اسرائيل” إلى مقربة من حدود فلسطين المحتلة وشكلت منطقة عازلة للاعتماد على خونة الداخل للقيام بالقتال معها.

لم تستسلم المقاومة، وقدمت تضحيات كبيرة منها خيرة رجالها وأمينها العام الشهيد السيد عباس الموسوي، لترسي معادلة الصمود وتجاوزها للشخوص مهما كان حجمهم ومهما كانت عظمتهم، حتى استطاعت نسف معادلة العدو وأنجزت التحرير في ربيعها الثامن عشر، لترسخ معادلة جديدة مفادها أن لبنان قادر على طرد الاحتلال وعملائه.

ولأنها معادلة صعبة على العدو، وتهدد نظرية أمنه القائمة على امتلاك القدرة الدائمة على توسيع عمقه الاستراتيجي، فقد حاول ثانية مع لبنان في العام 2006 ووسط مشروع ضخم عنوانه الشرق الأوسط الجديد وهو مرادف لعنوان غير معلن وهو “اسرائيل الكبرى” والذي يتطلب الفتك بجميع اشكال المقاومة التي تعيق توسع العدو وتمدد نفوذه، فكانت ملحمة المقاومة في ربيعها الرابع والعشرين، في الصمود وتثبيت معادلة التحرير، بل وتدشين معادلة جديدة، هي الأصعب على العدو، وهي معادلة توازن الردع.

ومع تنامي المقاومة، يتطور الردع ليقطع الطريق على محاولات العدو لكسر المعادلة، فيصل إلى توازن الرعب، وتتطور مع هذا التنامي كل قواعد الاشتباك، لتشكل المقاومة حاميا حقيقيا للبنان، بل وترسي معادلة التواجد حيث يجب أن تكون، لتخرج للدفاع عن سوريا وحماية العمق الاستراتيجي للبنان.

مع الربيع الأربعين، تحولت المقاومة للمبادرة، فهي من تخرج لتساند المحور وتحمي العمق، وهي من تساند المقاومة في فلسطين بمعادلات تتجاوز لبنان وتتعلق بالقدس، وهي من تهدد العدو بمجرد التفكير في التجاوز أو كسر المعادلات.

عندما تحقق المقاومة ذلك في أربعين ربيعا، هي الأسوأ في تاريخ التضامن العربي والوحدة على القضايا، بل وسط حرب شعواء على المقاومة وتحالف صريح خائن ومعلن مع العدو، بل وفي ظل مؤامرات واستهداف من الداخل اللبناني نفسه، وتستطيع تقديم هذا الإنجاز الاستراتيجي، فإن وعد المقاومة بزوال “اسرائيل” وصلاة قريبة في القدس لا ينبغي أن يثير استغراب كائن من كان.

* المصدر :موقع العهد الإخباري

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع