السياسية – وكالات :

للبدء في هذا المبحث التاريخي اللغوي علينا أن ننطلق من حقيقة أن “آسيا” هي إسم القارة التي تقع إلى الشرق من مهد الحضارة في بلاد الرافدين وبلاد الشام، بينما “أوروبا” هي إسم القارة التي تقع إلى الغرب من هذا المهد. وسنرى بعد قليل أنَّ هذين الإسمين مُشتقان من الكلمات التي تدل على هذين الاتجاهين في لغات حضارات الشرق الأوسط القديم.

هناك إجماع تام بين المؤرّخين والباحثين اللغويين على أن إسم “آسيا” في لغات العالم الحديث جاء من اليونانية القديمة “Asíā” عبر اللاتينية “Asia”. فأول من أطلق إسم “آسيا” على هذه القارة هو المؤرّخ الأول هيرودوتس (Herodotus) حوالى العام 440 ق.م، وكان يقصد بها الأناضول ومملكة فارس، ليميّزها عن اليونان الأوروبية ذات الحضارة الإغريقية ومصر الأفريقية ذات الحضارة الفرعونية، وهما يشكلان مُجمَل “العالم المتحضّر” بالنسبة  إلى هيرودوتس.

إلا أن هيرودوتس لم يبتدع هذه الكلمة (Asíā)، وإنما استعمل كلمة كانت موجودة في لغته اليونانية منذ مئات السنين ومتجذّرة في الحضارة الإغريقية بأساطيرها وآدابها. فـ”آسيا” في الميثولوجيا الإغريقية هي إلهة يونانية، إبنة الإله أوقيانوس (Oceanus) والإلهة تيثُس (Tethys)، وأمّ الآلهة أطلس (Atlas) وبروميثيوس (Prometheus) وإبيميثيوس (Epimetheus) ومينوتيوس (Menoetius).

يعترف هيرودوتس أن كلمة “آسيا” كإسم لمنطقة جغرافية وكإسم للإلهة الإغريقية في الأساطير اليونانية القديمة ليست من أصل إغريقي، وهذا ما يوافقه عليه المؤرّخون واللغويون في العصر الحديث.

ويذكر لنا الشاعر الإغريقي هيسويد (Hesiod) من القرن الثامن قبل الميلاد أن الإلهة آسيا كانت إلهة ليديا، و”ليديا” هو الإسم الذي أطلقه الإغريق في ذلك الوقت على المنطقة التي تقع في وسط وغرب تركيا الآن، والتي أطلق عليها الرومان في ما بعد إسم “آسيا الصغرى”، وظلت تركيا تُعرف بهذا الإسم الروماني حتى وقت قريب جداً.

هذا يتفق تماماً مع ما ورد في الإلياذة، حيث ذكر هوميروس قبيلتين من ليديا (تركيا الآن) شاركتا في حرب طروادة إلى جانب الأثينيين وسمّاهما “Asios” أي “الآسيويين”، أي من المنطقة التي كانت ترعاها الإلهة “آسيا”[1]. إلا أن المؤرّخ هيرودوتس نفسه يعترف أن كلمة “آسيا” كإسم لمنطقة جغرافية وكإسم للإلهة الإغريقية في الأساطير اليونانية القديمة ليست من أصل إغريقي، وهذا ما يوافقه عليه المؤرّخون واللغويون في العصر الحديث. ويبقى أن نعرف من أين دخلت هذه الكلمة إلى اليونان القديمة وتمركزت إلى هذا الحد في أساطيرهم ومعتقداتهم وآدابهم.

لقد كان هذا الموضوع بالذات موضعاً لكثير من الجدل عبر التاريخ، ووُضع فيه الكثير من الافتراضات والنظريات، ولا يزال البعض في عالمنا العربي يجتهد ويجادل حتى يبتدع حلاً يرضي غروره وانحيازه الثقافي. ولكني أعتقد مع الغالبية العظمى من المؤرّخين واللغويين أننا حصلنا على الجواب الشافي منذ عام 1939، وكل ما أجري من أبحاث وتحقيقات وتحليلات منذ ذلك التاريخ يؤيّد هذا الجواب ويدعمه.

ففي ذلك العام اكتشف الأركيولوجي الأميركي كارل بليغين (Carl Blegen) وثيقة في قصر نستور (The Palace of Nestor) في مدينة بايلوس (Pylos) الواقعة جنوب غرب جزيرة ميسينيا (Messenia) اليونانية في البحر المتوسّط،[2].

وهذه الوثيقة تعود إلى حوالى العام 1300 ق.م، وهي عبارة عن قائمة طويلة تحتوي على مئات من أسماء رجال ونساء من الأسرى الذين وقعوا في أيدي القوات الميسينية اليونانية وبيعوا كعبيد، وإلى جانب كل إسم كُتبت كُنية صاحبه التي تدل على أصله كما ذكرها هو أو ذكرتها هي.

واحدة من هذه الكُنى تكرّرت عشرات المرات، وهي “Aswiai” للنساء و”Aswios” للرجال، وفي بعض الحالات كان إسم المرأة “Aswia” وكنيتها “aswiai”، ما يدل على أنَّ إسم الأصل كان يستعمل أيضاً كإسم علم مؤنث تسمّى به النساء.

“Aswiai” هو إسم النسبة لـ”Assuwa”، و”Assuwa” هو الإسم الذي أطلقه الحثيون على المنطقة التي كان الإغريق يدعونها “ليديا” في وسط وغرب تركيا الآن. مأخوذة من الأكادية “Aššuwa” وتعني “يبرز، يظهر، يشرق”. وهي الكلمة التي أطلقها الأكاديون والبابليون على الأناضول وبلاد فارس ومنغوليا، وتعني “البلاد التي تشرق منها الشمس”.

ونحن نعرف أنَّ”Aswiai” هو إسم النسبة لـ”Assuwa”، وأنَّ “Assuwa” هو الإسم الحثي الذي أطلقه الحثيون على المنطقة التي كان الإغريق يدعونها “ليديا” أي وسط وغرب تركيا الآن، وهي منطقة لتحالف دويلات قهره الحثيون وانتصروا عليه حوالى العام 1400 ق.م.

وكلمة “Assuwa” الحثية مأخوذة من الأكادية “Aššuwa” وتعني “يبرز، يظهر، يشرق” وهي الكلمة التي أطلقها الأكاديون والبابليون على الأناضول (تركيا الآن) وبلاد فارس ومنغوليا، وتعني “البلاد التي تشرق منها الشمس”.

وهذه الكلمة الأكادية البابلية مشتقّة من الكلمة الآشورية “آسو”(Asu) وتعني “شرق”، والأرجح أن الآشوريين استعاروها من المصرية الفرعونية “آسا” وتعني “شرق” أيضاً. ومن الجدير بالذكر هنا أن “Europe” مشتقّة من الكلمة الأكادية “Erēbu” أي البلاد التي تغرب فيها الشمس، من “Erēb” وتعني “غرب”.

كلمة “Assuwa” الأكادية هذه، هي التي دخلت إلى اليونانية القديمة فحرّفها الإغريق إلى “Asíā” لتلائم لغتهم (و”مخطوطة قصر نِستور” تخبرنا كيف انتقلت الكلمة من الأكادية إلى اليونان واليونانية)، فأطلقوها في البداية على غرب الأناضول، ومن ثم على الإلهة”Asíā” (آسيا) التي كانت هذه المنطقة تحت عنايتها في أساطيرهم، ثم عمّمها المؤرّخ هيرودوتس على كل ما كان معروفاً في زمنه من الأناضول وإلى الشرق.

وحين سيطرت الإمبراطورية الرومانية على الأناضول وبلاد الرافدين في أوائل القرن الثاني للميلاد، أطلقوا إسم “آسيا الصغرى” على الأناضول (تركيا الآن) و”آسيا الكبرى” على بلاد الرافدين (العراق الآن). وفي هذه التسميات الرومانية نرى بوضوح أن كلمة “آسيا” تستعمل بمعنى “الشرق” و”بلاد الشرق” و”البلاد التي تشرق منها الشمس”.

أفريقيا (إفريقيا)

هي “القارة السوداء”، وثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، وأفقر قارات العالم وأكثرها تأثّراً بالاستعمار الأوروبي المبني على الاستعلاء الثقافي والعنصرية الإثنية أو العرقية.

وبينما كانت سياسة “الرجل الأبيض” في العالم الجديد (أستراليا والأميركيتين وجزر المحيط الهادىء) هي الإبادة البشرية، وسياسته في آسيا والشرق الأوسط هي الاحتلال والاستغلال، كانت سياسته في أفريقيا هي إبادة الحرية الإنسانية عن طريق الاستعباد، أي صيد البشر والتعامل معهم كالحيوانات تُباع وتشترى وتُستغلّ حتى الموت.

من مفارقات التاريخ أن أفريقيا التي استُعبِد أهلها واستُغِلّوا كالحيوانات على يد الحضارات والديانات الكبرى التي نشأت خارجها، هي نفسها القارة التي أصبحنا نعلم الآن علم اليقين أنها مهد الجنس البشري والمكان الذي جئنا كلنا منه.

ولم تكن سياسة “الرجل الأبيض” الاستعبادية في أفريقيا نابعة من فراغ، بل جاءت امتداداً لسياسة العرب المسلمين ومن قبلهم شعوب الشرق الأوسط القديم، ويشهد التاريخ – بوضوح كوضوح عين الشمس – كم عانى الأفارقة من العبودية وحملات صيد البشر ومزادات النخاسة وأسواق العبيد منذ أن نشأت حضارات المدن والطبقات الاجتماعية وديانات التوحيد خارج أفريقيا وحتى نهاية القرن الــ 19 للميلاد.

ومن مفارقات التاريخ أن أفريقيا التي استُعبِد أهلها واستُغِلّوا كالحيوانات على يد الحضارات الكبرى والديانات الكبرى التي نشأت خارجها، هي نفسها القارة التي أصبحنا نعلم الآن علم اليقين – بكل ما لدينا من معارف العلم الحديث – أنها مهد الجنس البشري والمكان الذي جئنا كلنا منه.

فمن المنطقة الواقعة في وسط شرق أفريقيا جاء الجنس البشري قبل حوالى 200 ألف عام وانتشر على وجه الكرة الأرضية. فأفريقيا هي المكان على وجه الأرض الذي شهد نشوء ما لا يقل عن 10 أنواع من البشريات (Hominids)، منها “الأُسترالوبيتِكوس أفريكانوس”، و”الهومو إريكتوس”، و”الهومو هابيليس”، و”الهومو إيرجاستر”، و”الهومو سابيانز”، حتى نشأ هناك النوع الذي هو نحن، “الهومو سابيانز سابيانز” (sapiens sapiensHomo)، فانتشر في موجات من الهجرة بفعل تقلّبات المناخ الكوني حتى ملأ الأرض.

هذا هو جنس “البشريات” الذي أصبحنا نطلق عليه إسم “الجنس البشري”، والذي حاولت الحضارات الكبرى والديانات الكبرى خارج أفريقيا أن تحتكر وجوده وتنفرد بشرف نشوئه.

قارة أفريقيا كانت تسمى قديماً “ليبيا” (Libya)، وهي كلمة من اليونانية القديمة هيروغليفية الأصل تعني “أرض الليبو” (Libúē)، أخذها الإغريق عن المصريين القدماء الذين كانوا يطلقونها بلغتهم على سكان غرب النيل، أي سكان ليبيا وتونس الآن.

هناك العديد من “النظريات” حول تسمية هذه القارة الأمّ بهذا الإسم؛ “أفريقيا” (Africa). معظم هذه “النظريات” لا تتعدّى كونها اجتهادات ذهنية نابعة من التحيز الثقافي، تارة لليهود اعتماداً على أنساب ملفقة، وتارة للعرب اعتماداً على حكايا تشبه “حكايا السندباد”، وتارة للكنعانيين اعتماداً على التشابه اللفظي المحض.

ونقطة انطلاقنا في اختيارنا للتفسير الذي نقدمه هنا بشكل مختصر، هي حقيقة أن قارة أفريقيا كانت تسمى قديماً “ليبيا” (Libya)، وهي كلمة من اليونانية القديمة تعني “أرض الليبو” (Libúē).

والكلمة اليونانية “ليبو” هيروغليفية الأصل، فقد أخذها الإغريق عن المصريين القدماء الذين كانوا يطلقونها بلغتهم على سكان غرب النيل، أي سكان ليبيا وتونس الآن، فكان المصريون القدماء يسمون البشر الواقعين إلى الجنوب منهم “نيبو”، ومنها جاءت “النوبي” و”بلاد النوبة”، ويسمون البشر الواقعين إلى الغرب منهم “ليبو”ـ ومنها جاءت “ليبي” و”ليبيا”.

وظل الإسم اليوناني “ليبيا” يُطلق على ما كان معروفاً في ذلك الوقت من القارة الأفريقية، حتى بدأ توسُّع الإمبراطورية الرومانية واستيلائها على مصر وشمال أفريقيا في عهد الإسكندر الأكبر في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، فاستبدل الرومان الإسم اليوناني بالإسم اللاتيني “Africa”. واللاحق اللغوي “-ca” في اللاتينية (المقابل لـ”قا” في الكلمة العربية “أفريقا”) يعني “أرض أو بلاد كذا”، وبهذا يكون معنى الإسم اللاتيني “Africa” هو “بلاد أفري”. فالإسم “Africa” هو إذاً من اللاتينية، ولكنه ليس روماني الأصل، فمن أي أصل جاء؟

يمكننا تعقُّب كلمة “أفري” من اللاتينية إلى الفينيقية، أي اللهجة الشمالية الغربية من الكنعانية القديمة، فنجدها هناك بصيغة “أفر” التي كان البحارة الفينيقيون يطلقونها على القبائل التي كانوا يحتكون بها إلى الجنوب من مدينة “قرطاجنة” التي أنشأوها في منطقة تونس اليوم.

وهذه الكلمة الكنعانية الفينيقية هي “أفر” وليست “أفار” كما يدّعي البعض (حيث أن الكتابة الفينيقية لا تحتوي على حروف العلة، فأضاف بعض الشارحين الألف في “أفار” كي تصبح كلمة ذات معنى قريب إلى المعنى الذي يريدونه)، وهي ليست الكلمة الكنعانية/الآرامية/العبرية/العربية “عفار” بمعنى غبار، كوصف للون هؤلاء البشر “الأفارقة” الذي يدَّعي هؤلاء الشارحون أن الفينيقيين استعملوه كإسم لهم.

ذلك لأننا نستطيع أن نتعقب الكلمة الفينيقية “أفر” حتى نجدها ثانية في لغة البربر (الأمازيغ) سكان جبال الأطلس في شمال أفريقيا بصيغة “إفر”، وتعني “الكهف”، و”إفري” هي كلمة لا تزال موجودة في لغة البربر حتى الآن، إشارة إلى سكان الكهوف، وهناك مدينة مغربية في جبال الأطلس تدعى “إفران”، وهناك قبيلة “يفرن” أو “بني يفرن” الأمازيغية التي تمتد منطقة سكناها من مدينة الجزائر إلى مدينة طرابلس الليبية.

تلك هي نفس القبائل ونفس المجموعات البشرية التي أطلق عليها الفينيقيون إسم “أفر”، وهو الإسم الذي أخذوه من لغة البربر أنفسهم، وهو الإسم الذي أخذه عنهم الرومان وأطلقوه على كل ما كان معروفاً لديهم في ذلك الوقت من القارة التي تقع إلى الجنوب منهم، أي إلى الجنوب من البحر الأبيض المتوسط، “بلاد الأفري”.

في المحصلة، فإن كلمة “أفريقيا” معرَّبة عن اللاتينية “Africa”، هي إذاً أفريقية الأصل وصلت إلى لغة الرومان عن طريق الكنعانية الفينيقية، وما ساعد على تكريس هذا الإسم للقارة أن العرب المسلمين أطلقوه على “مملكة أفريقيا” التي أقيمت في تونس اليوم في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي.

أما “آسيا” و”أوروبا” فهما كلمتان أكاديتان من بلاد الرافدين أخذهما اليونانيون من الحثيين الذين أسروهم في الحرب، فأوصلوهما إلى اللاتينية ومن ثم إلى لغات العصر الحديث.

المصادر

[1]Homer (2004). The Iliad (Translated by Robert Fitzgerald). New York, Farar, Straus & Giroux, pp 46-130.

[2]راجع الوثائق الموجودة في Belgen, Carl, W. & Marion Rawson (eds.) (1966). The Palace of Nestor at Pylos in Western Messenia (Vol. 1). Princeton, Princeton University Press.

د. مصلح كناعنة

المصدر: الميادين نت