بسام أبو شريف*

كافة القرارات التي اتخذتها بشأن وضع التنظيم في الخارج في مختلف الميادين كانت نابعة من قناعتي التامة بان شارون يهيء لغزو لبنان ومحاصرة بيروت لا بل اقتحام بيروت لانني قرأت من اكثر من مصدر بان شارون يقول علنا لمن يحيط به انه سيقضي على قيادة منظمة التحرير التخريبية سواء قتلا او اعتقالا وبما انني من الذين درسوا تاريخ شارون وتصرفاته في المعارك أو في السلم ومعرفتي الاكيدة بانه قاتل ومجرم وسارق ورجل مافيا ولا يتردد في قتل طفل في بطن أمه كما فعل في قبية وفعل في المجازر التي ارتكبها سابقا ولانني اعرفه كنت اعلم ماذا يعني هذا الكلام الذي يوزعه يمنة ويسارة على من يحيط به قتل قيادة منظمة التحرير أو اعتقالها وتقديمها للمحاكمة كما قدم ايخمان.

(انظر المرجع حول تاريخ شارون )1

كانت القرارات التي اتخذتها كما سبق ان ذكرت تتصل بالحشد والتعبئة والتهيئة واصدار التعليمات حول التصرف في حال قيام اسرائيل او شروعها في غزو لبنان من الزوايا الميدانية والاعلامية والمالية وارسال المقاتلين الى ساحة المعركة .

كان هذا يعني الكثير وكان هذا يعني الموازنات الضخمة اذ ان تذاكر السفر لبضع مئات من المقاتلين من الولايات المتحدة ومن روسيا ومن دول اوروبا ومن دول اخرى كانت وحدها كافية لتهز ميزانية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكنني تجنبت كل ذلك بان حصلت على تذاكر مفتوحة الاسم من جهة تدعم الجبهة الشعبية واعتبرتها اضافة للدعم وليس بديلا او نقصانا منه وسلمتني التذاكر وكانت قيمتها بحدود المليون دولار ورتبت رحلاتي وقبل ان اغادر بيروت في جولتي وكان هذا في بداية شهر ايار اي قبل 15 ايار اصدرت التعليمات بنقل كل الملفات والارشيف والاوراق الهامة والاجهزة الهامة من مقر قيادة التنظيم الخارجي الى مكان آخر وعرفت لاحقا ان رفاقي اختاروا ان يقبلوا عرض المناضلة ليلى خالد بوضع هذا الارشيف الثمين في بيتها الذي لا يعرف عنوانه الا قلة من الناس كانت محاضراتي جميعها تتصل بالحشد والتعبئة لمواجهة الغزو الاسرائيلي اي ان النشاط الفلسطيني في يوم اقامة دولة اسرائيل على ارض فلسطين 15 ايار يوم النكبة هذا .

تنصب على الحشد والتعبئة وتحضير الانفس نفسيا وسياسيا ولوجستيا للتوجه للتصدي للغزو الصهيوني في حال حدوثه واذكر تماما ان محاضرتي في عدن او كلمتي في الحشد الذي ضم بمعظمه ضباطا يتدربون تدريبا خاصا في معسكراتنا في عدن ويضم اعضاء في التنظيم ويضم اللجان اليمنية المساندة للثورة الفلسطينية وعددها كبير ان كلمتي ركزت فقط على مواجهة الغزو القادم كنت اتحدث وكأن الغزو قرار معروف ومضمون ومؤكد لان هذه كانت قناعتي وكانت صلب التعبئة التي ابثها في صفوفهم هو التحضير للمشاركة في عمليات الدفاع في وجه الهجوم الاسرائيلي بطبيعة الحال كان هذا التوجه والحديث المركزي حول الغزو الاسرائيلي مناقض لما قرره المكتب السياسي من انه لا يوجد غزو بل لا يتعدى الامر ضربة جوية هنا وضربة جوية هناك بقصد الحاق الخسائر بصفوف المقاتلين الفلسطينيين .

كانت محاضراتي مخالفة لموقف المكتب السياسي وكانت علنية وليست سرية وفي عدن تقدم مني شخص بسؤال وقال ان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تقول ان اسرائيل لن تغزو لبنان وان الامر لن يتعدى ضربات جوية بهدف الحاق الخسائر بقواعدنا العسكرية ومعسكراتنا .

لم اتردد في حينها وقلت له نعم الجبهة الشعبية تقول ذلك وانا اقول ان هنالك غزو واطلب منكم تهيئة انفسكم للمشاركة في الدفاع عن الثورة وعن لبنان .

عندها ساد القاعة صمت يبدو رهيبا ولكنه كان عميقا عمق التفكير .

مسئول لجان الدعم وهو يمني من ابين قال لي يا اخي بسام نحن من هنا نعلن امامك ان ثلاثة آلاف مقاتل يمني جاهزين للانتقال الى ساحة المعركة دعما للتحالف بين القوى الفلسطينية المقاتلة والقوى الوطنية اللبنانية وفوجئت بتصفيق القاعة تصفيقا حارا لدرجة ان الرجل الذي سأل حول الموقف احس بالخجل امام هذا الاستعداد الذي عبر عنه ذلك الشاب اليمني وعندما انتهيت من كلمتي وكدت امشي اقترب مني اليمنيون وقالوا نحن جاهزون نرجوك اصدر تعليماتك بالترتيبات حتى ينتقل المقاتلون اليمنيون الى بيروت بالفعل اتخذت بعض الترتيبات وغادر اليمن عشرات من المقاتلين والتحقوا بالمقاتلين في ساحة القتال في لبنان .

قلائل هم الذين اشاروا الى مساهمة الشباب اليمنيين في القتال لصد الغزو الاسرائيلي فمعظم المعارك التي دارت على طريق خلدا جنوبا وبين صيدا وخلدا كان المقاتلون اليمنيون هم اسياد المعارك هناك واستشهد عشرات منهم لا بد ان ياتي يوم لنشر اسماء هؤلاء الشهداء ورفعها على رايات الفخر والاعتزاز ووسام الشرف استشهدوا في سبيل الامة العربية دفاعا عن لبنان وعن فلسطين التي احتلها الصهاينة واقاموا عليها كيانهم العنصري ، كانت رحلة صعبة وسريعة وانتقلت بعدها فورا الى موسكو واجتمعت بمئات الكوادر والاعضاء وعدت الى المنطقة عبر صوفيا التي عقدت فيها اجتماعا كبيرا ضم مئات من الطلبة والمتدربين في الكلية العسكرية في بلغاريا خاصة مجموعة من الشباب التي كانت تتدرب على استخدام الصواريخ واجهزة التصويب والتعيين لتكون دقيقة التصويب .

في صوفيا كان اللقاء شبه احتفال بمعركة قادمة .

ولا انسى انه في نهاية اللقاء وقف قرابة عشرين ضابطا من الضباط الذين كانوا على وشك التخرج من الكليات العسكرية البلغارية ليقسوا قسم الولاء والوفاء للامة ولفلسطين وانهم سيتوجهون للقتال ضد الغزو الصهيوني وقمت بترتيب كل الاجراءات اللازمة لنقل هؤلاء والاسراع بنقلهم الى الساحة اللبنانية .

اما في الكويت فكان لقاء تاريخيا عقد في مدرج جامعة الكويت كانت القاعة تغص بآلاف الطلبة من الكويتيين والعرب والفلسطينيين وتحدثت بصوت عال عن الغزو الاسرائيلي القادم وحددت على ما اذكر في تلك الكلمة يوم الخامس من حزيران تاريخا للغزو كما وصلني من ذلك الشاب المجهول صائب الذي ابلغني عن مخطط الغزو ، عدت بعدها الى بيروت وقد رتيت كل الامور في الساحات التي زرتها لمواجهة المعركة .

كانت قراراتي وتصرفاتي كلها نابعة من قناعتي بان الغزو قادم وعدم قناعتي بما رآه المكتب السياسي من ان الغزو لن ياتي وان الامر لن يتجاوز غارات جوية اسرائيلية هنا وهناك لالحاق الخسائر بقواعدنا ومعسكراتنا .

كانت التقارير قد سبقتني للامين العام الدكتور جورج حبش وللمكتب السياسي حول مضمون ما قلت في محاضراتي وفي لقاءاتي الحاشدة للتعبئة لمواجهة الغزو ولفت انتباهي الى ضرورة قراءة ملف المكتب السياسي وكانت العادة هنا ان يطَلع اعضاء المكتب السياسي على الملف قبل اجتماع المكتب السياسي الذي كان يعقد كل اسبوعين مرة ليعرف ما هو جدول اعمال الاجتماع وما هي القضايا التي ستناقش لفت انتباهي شاب مناضل مخلص وامين اسمه عصام اليماني قال لي عصام وكان في حينها يعمل كأمين سر للامين العام للجبهة الشعبية جورج حبش قال لي عصام يجب ان تقرأ ملف المكتب السياسي هنالك اوراق لا بد ان تقرأها لانها مهمة قال هذا الكلام وهو يبتسم اسرعت نحو مكتب المكتب السياسي وامسكت بالملف لاجد في اولى بنوده رسالة من ابو علي مصطفى يطالب المكتب السياسي فيها بانزال مرتبتي من المكتب السياسي ومن اللجنة المركزية لمخالفتي قرار الجبهة الشعبية بانه لا يوجد غزو اسرائيلي للبنان بل ان الامر لا يتجاوز غارات جوية عادية ضد قواعدنا ومعسكراتنا ابتسمت ثم ضحكت قرار الجبهة الشعبية بانه لا يوجد غزو !!.

الغزو الاسرائيلي للبنان قرار من قرارات الفلسطينيين هل يقرر الفلسطينيون او جهة منهم كيف ستتصرف اسرائيل !.

كان الامر مضحكا ان نتخيل او ان نعتبر ان المعلومات حول الغزو صحيحة وان نهيء انفسنا لمواجهتها خطأ اما ان نقول لا يوجد غزو ويحصل الغزو ونحن غير مستعدين وغير مهيئين له فهذا صح .

انقلبت الامور الحقيقة اصبحت غائبة وغياب الحقيقة جعل الخطأ هو الصواب لم اطل الجلوس هنا اغلقت ملف المكتب السياسي وخرجت لاطمئن واتاكد ان كافة الملفات والارشيف والاجهزة قد نقلت من الفاكهاني التي كنت اتصور انها ستكون اولى اهداف القصف الاسرائيلي جوا وبحرا كنت اريد ان اتاكد انها نقلت للمكان الآمن الذي ذكرته قبل قليل وجدت ان المكتب شبه خال سوى من طاولة وبعض الكراسي واقلام واوراق فجلست هنالك دقائق افكر بكيف يفكر هؤلاء .

كيف يفكر هؤلاء ! .

يعتبرون ان التقييم لما يفعله العدو وحساب التوقعات يحتسبونه موقفا وليس خلاصات من باب تحليل المعلومات لما قد يقدم عليه العدو كيف يمكننا ان نواجه العدو دون ان نتتبع ما يفعله وما يقوله ودون ان نستخلص من ذلك التتبع نهايات لما سيقوم به من عمل عدواني ضد شعبنا وضد قواتنا ان اهم عامل من عوامل الانتصار هو ان يكون لدينا معلومات وندقق فيها حول ما يفكر به العدو وما يخطط له وما يمكن ان ينفذه .

من الممكن جدا في بعض الاحيان ان يتراجع العدو عن قراره في اللحظة الاخيرة لكن هذا لا يعني انه لم يكن يفكر ويخطط لتنفيذ عدوان وجريمة ومجزرة جديدة والتحليل والاستخلاصات ونقول ان الاستخلاصات قد تعني اسنادا لليمين الفلسطيني او عدم اسناد فهذا عبث فكري وعبث سياسي وسوء تخطيط وسوء ادارة .

من واجب قواتنا ان تكون مستعدة في كل لحظة في مواجهة العدوان لان قيام اسرائيل بحد ذاتها هو عمل عدواني فهذا الكيان الذي اقيم لن ينتج عنه ولا يخرج منه ولا يبث سوى سموم العدوان ومجازر وجرائم عنصرية علينا ان نتتبع كل ما يقوله ويخطط له ويبحث مع حلفاءه في واشنطن لنعرف ماذا سيفعل واي جرائم سيرتكب واي حديث خارج هذا الاطار سيكون لعب في الهواء وهوائي لا علاقة له بالتحليل العلمي والقواعد العلمية لتحليل الاخبار والمعلومات التي توصل الى الخلاصات الاكيدة ، لم اُعر هذا الموضوع اهتماما كبيرا لانني كنت على يقين ان المعركة ستنشب قبل اجتماع المكتب السياسي .

كما قلت لكم كان اجتماع المكتب السياسي يتم كل اسبوعين مرة وفي هذه المرة كان من المفترض ان يتم الاجتماع في السابع من حزيران من عام 82 الا ان شروع اسرائيل بالهجوم في الخامس من حزيران جعل من امر مناقشة مثل تلك الرسالة التي تطالب بانزال مرتبتي من اللجنة المركزية والمكتب السياسي لا مكان لها سوى سلة المهملات .

لكنني لم انسى انني وقفت كاقلية في المكتب السياسي اصر على ان المعلومات قد تكون صحيحة وان علينا ان نتهيأ للدفاع عن لبنان وعن فلسطين على ارض جنوب لبنان وبدأت المعركة كنت ما زلت في منطقة الفاكهاني عندما اغارت الطائرات الاسرائيلية بكل قوة وبعدد كبير من الصواريخ والقذائف على المدينة الرياضية كانت تظن اسرائيل ان المدينة الرياضية هي عبارة عن مخزن لذخائر واسلحة القوات الفلسطينية واننا استخدمناها رغم انف السلطات اللبنانية لخزن اسلحتنا وخزن ذخائرنا .

وكان هذا الفشل الاول لاسرائيل في حملتها التي تستهدف غزو لبنان ثبت بعد القصف والتدمير انه لا يوجد في المدينة الرياضية سوى مستوصف طبي ومستشفى ميدان خال من البشر دمرت اجزاء كبيرة من المدينة الرياضية نتيجة فشل الاستخبارات الاسرائيلية وفشل معلومات مخابراتها حول استخدامنا للمدينة الرياضية كمخزن للسلاح والذخائر وما هي الا ساعات حتى بدأنا نرى تأثير هذا الفشل الذي انصب على رأس شارون فشلا وغضبا فانهال بالقصف على منطقة الفاكهاني بكل ما اوتي من قوة على البنايات على المساكن على كل شيء في محاولة لتدمير تلك المنطقة .

وكنت قد خرجت انا ومعظم القيادات والكوادر من منطقة الفاكهاني لاننا كنا نعلم ان الضربات التالية ستكون الفاكهاني فقد كان الاسرائيليون يعتبرون الفاكهاني ومنطقة ال17 مقر ابو عمار هي الركن المكثف الذي يمكن ان يصطادوا فيه عدد كبير من القيادات والكوادر والمقاتلين الفلسطينيين .

وهكذا بدأ شارون معركته بدأ شارون معركته حسبما قرر هو وحسب ما يفكر هو وكان هذا مخالفا لما ادعى ان مناحم بيجن اقره ونحن على يقين ان قرار شارون هو الذي دفع المعركة للتنفيذ وليس قرار مناحم بيجن الذي كان يعاني من غيبوبة وتفكك في تفكيره وكذلك لم يقرر ذلك الاميركيون لاننا سناتي في الحلقة التي تلي الى اسرار اللقاء الذي تم بين ريغان وبين شارون حول العملية التي اسماها شارون عملية سلام الجليل ويسميها بالعبرية الصنوبر في الحلقة القادمة  سوف نتناول حقيقة الاتفاق الاميركي الاسرائيلي بالمعلومات الاكيدة وماذا دار في اللقاء مع منحم بيغن وشارون وماذا دار في اللقاء بين ريغان وشارون قبل نشوب المعركة الحلقة القادمة ستتناول الاسرار حول هذين اللقاءين الذين اتخذهما شارون مستندا لشن المعركة كما يريده هو وليس كما تم الاتفاق عليه لقد نسف شارون بينه وبين نفسه كل الكلام الذي تحدث عن الاربعين كيلومتر وقرر بالاتفاق مع القوات اللبنانية بشير جميل ان يتمدد الغزو ليشمل لبنان باكمله وان تصفى منظمة التحرير وان تنضم لبنان بشير الجميل الى الحلف الجديد حلف اتفاقيات السلام مع اسرائيل كل هذا كان يتم في اطار عام شكله مجيء رونالد ريغن كرئيس للولايات المتحدة ووعده بان يفتح ابواب البيت الابيض لمنظمة التحرير الفلسطينية وعد بذلك ولكنه بعد مرور سنتين ومع حصول هذه المعركة لم يفي بوعوده لكن معلوماتنا لم تكن منصبة ومتركزة فقط على فحوى الاجتماعات التي كانت تدور بين وزير الدفاع الاسرائيلي شارون والمسئولين الاميركيين او بين شارون والكسندرهيج او بين شارون ومسئول الامن القومي في البيت الابيض ومسئول السي آي ايه لم يكن فقط منصبا على هذا بل كان منصبا على ما يدور في المنطقة والذي كان يعكس نفسه عبر خلافات في واشنطن بين الكسندرهيج والبيت الابيض سلبيا على واشنطن وعلى الشرق الاوسط فقد كان الكسندرهيج يخدع رئيسه ويمنع عنه المعلومات وارجوكم ان تفهموا وهذا ليس دفاعا عن رونالد ريغن ابدا بل وصفا للواقع فانانية ريغن وزوجته في البيت الابيض كانت عالية الوتيرة وشعر ريغان وزوجته او عبر زوجته بان الكسندرهيج ليس مواليا له ولا يخدمه بل يخدعه خلافات واشنطن وانعكاساتها على ما جرى في لبنان وخلافات في اسرائيل بين شارون والحكومة ورئيسها وانعكاساتها على ما جرى في لبنان كلها عوامل يجب ان تعرف بدقة حتى نعرف كيف انعكست سلبا او ايجابا على ما جرى في لبنان على عملية الغزو.

* المصدر :رأي اليوم